لماذا يميل الناس إلى المنع؟ ولماذا يميل الناس إلى الفرح بنقص الآخرين المقابلين؟ ولماذا ينساقون وراء عواطفهم فلا يتركونها تتخلف قليلاً عن عقولهم؟ في وسعي أن أجيب عن هذه الأسئلة إنما ليس الآن. لكن الذي أريد أن أقوله إن أزمتنا هي في الانشغال بالظن عن الحق ، وبالتصور عن الواقع ، وبالدعاية عن الامتلاء المعرفي. كل هذه أدواء تغلب على طبيعتنا العربية وتغشى عقولنا كأنها طوفان من الاحتدام. ستلاحظون أنها تجعل العقل نهباً للانفعال ، والعقل لم يخلق لهذا. الذي يحدث أن أكبر قوة إنسانية تتحول إلى قوة ذابلة خائفة مضطربة حاسدة متربصة غير سوية. هذه الحالة يرد إليها كل تنازع الناس وخصامهم وحتى عدوانهم على بعضهم ، حين يتحول العقل إلى احتدام من المشاعر السلبية تغذي هي بعضها فتتعطل قوته ، حتى قدرته على التسامح تذبل وتموت وهو بعد ذلك يتحول إلى عقل معتل متوجس وقد يتوحش. إنني أظن أن مأساة عقلنا الاجتماعي تبدأ من هذه المعضلة ، هو عقل غير متسامح في الغالب ، وهو عقل متربص في الغالب ، وهو عقل ينفي بعضه في الغالب. إذا نظرنا إلى هذه بوصفها صفات تغلب على العقل -ولو على سبيل الاحتمال- فإنه سيكون في وسعنا أن نتصور: كم هي أزمتنا أزمة عقل اجتماعي نافٍ لنفسه. كل هدير البغضاء والمكارهات الذي يمكن ملاحظته في حدة ردود أفعالنا وفي ميلنا إلى المنع أكثر من العطاء وإلى العقوبة أكثر من العفو ، إنما يرد إلى صفات مصادمة لطبيعة العقل أكثر من كونها صفات للعقل النقي أو المحايد في أقل الأحوال ، وعلى ذلك فإن من أكبر أدواء العقل أن ينقض نفسه فضلاً عن أن يناقضها ، نقض العقل لنفسه أعنف وأشرس من مناقضته لنفسه لأنه يتحول هو إلى قضية شائكة تأكل نفسها فيقع في صفة (العقل الكَلّ) ، يكون عقلاً كَلّاً نهباً للتصورات السلبية. لا يمكن أن يكون الإنسان كلاً إلا بعد أن يكون عقله كلاً ، وفي القرآن العظيم إشارة إلى التلازم بين صفة (الكَلّ) وانتفاء الخيرية أو تعذرها. أيهما يترتب على الآخر؟ أنه كَلّ أينما توجهه لا يأتِ بخير أو أنه كَلٌّ لأنه لا يأتي بخير؟ الذي أفهمه أن العقل نفسه هو الذي يوقع نفسه في الصفة ، وبالتالي تترتب على صفته نتائجها ، وهو إذن الذي يفك نفسه عن أي صفة أياً كانت إلا إذا فقد معناه بالجنون ، وإلا فإن الأصل في معنى العقل أنه مطابق للخيرية مناقض لكل أضدادها. قد يعتل بنقص العلم لكنه ينفي نفسه حين يجحد العلم أو ينكره أو يصادمه. ليس حديثنا عن ضعف الملكات العقلية قدر ما هو عن تحييد الملكات العقلية. هؤلاء الذين لا تعلو في أذهانهم إلا أصوات التهمة والإساءة والانتقاص ، ليس لفعلهم معنى غير تزكية النفس ، وقد نهينا عن تزكية الأنفس (ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). هذه صورة من صور المنع المعنوي ، أن تنتقص غيرك وتزكي نفسك عمل غير ديني وغير أخلاقي وهو أيضاً عرض من أعراض مرض النفي ، نفي العقل لنفسه. إنه ينشغل بالظن عن الحق ، وبالتصور عن الواقع ، وبالدعاية عن امتلاك المعرفة وإجادتها.