مثل عربي بديع المبنى والمعنى ، يصلح أن نرفعه لافتةً في أي ساحةٍ من ساحات (التحرير) أو (التغيير) في عالمنا العربي ، لأن الأحداث التي جرت وتجري في هذا الجزء من العالم تؤكد المعنى العميق لهذا المثل ، ولا بأس أن نقف عند مفردات هذا المثل العربي الجميل. يقول الميداني صاحب كتاب مجمع الأمثال: (أبدى) ، لازم ومتعدً ، يقال: أَبْدَيْتَ في منطقك ، أي: جُرْتَ فيه ، وعلى هذا يكون معنى المثل: إنَّ اللَّبَنَ الصريح قد بدا عن الرِّغوة ، أما إذا جعلنا أبدى متعديِّاً فإنَّ له مفعولاً محذوفاً ، فيكون المعنى: أبدى الصريحُ نَفْسَه من تحت الرِّغوة. والرِّغوة هي: تلك الطبقة الخفيفة اللطيفة التي تتكوَّن في أعلى الإناء حينما تحْلبُ الناقة ، فهي رَذَاذُ اللَّبَن ، وليست الَّلبنَ نفسه ، ومن اكتفى بشرب الرِّغوة لم يشربْ لَبناً. ورد في قصة هذا المثل أنَّ قائله هو (عبيدالله بن زياد) القائد الأمويٌّ المُكْتنِز جَوْراً وغِلْظَةً واستهانةً بالدماء ، قاله لهاني بن عرْوَةَ المرادي ، وكان مسلم بن عقيل بن أبي طالب -رحمه الله- قد استخفى عنده أياماً ، فلَّما عرف عبيدالله بن زياد أنه موجود عنده ، أرسل إلى هاني ، فسأله عن مسلم بن عقيل ، فكتم عنه خبره ، وأنكر أنه موجود عنده ، ثم اعترف بوجوده بعد أنَ هَّدده وتوعَّده ، فقال عبيدالله: (أبدى الصَّريح عن الرِّغوة) أي: وَضَحَ الأمر وبان. وقد قال في هذا المثل شاعر اسمه (نَضْلَة) أبياتاً ، سَبَبُها أنَّ قومه كانوا يزْدَرُونَه لدماميته ، ورداءة مَظْهَره ، ثم حدث موقف ظهرت فيه شخصيته القوية وشجاعتُه ، فقال: أَلَمْ تَسَلِ الفوارس يوم غولٍ=بِنَضْلَة وهو مَوْتورُ مُشِيحُ رأوه فازْدَرَوْهُ وهو حُرٌّ=وينفعُ أهله الرَّجُلُ القبيحُ ولم يَخْشَوا مَصَالَتَهُ عليهم=وتَحْتَ الرِّغوةِ الَّلبّن الصَّريحُ ويا له من شاعر استخدم المثل في موقعه الصحيح !، معنى (مَصَالتِه): صَوْلَتُه في الحرب ، ومعنى الأبيات: أنَّ قومي قد ازْدَرَوْني واحتقروني لدمامتي ، فلما كشف عني الموقف عرفوني على حقيقتي ، هذا المثل العربي يُضْرَبُ عند انكشاف الأمر وظهوره ، بعد اختفائه ، وكتمانه. ألحَّ على ذاكرتي هذا المثل وأنا أتأمل ما جرى ويجري في بلاد العرب هذه الأيام ، ورأيت في المثل ما ينطبق على ساحات (الربيع العربي) -كما يقال- من جانبين: الجانب الأول يتعلَّق بهؤلاء الطغاة الذي استهانوا بحقوق الناس سنواتٍ طِوَالاً ، وملأوا بلادهم غَطْرَسَةً وكبرياءً وغروراً ، وصوَّروا أنفسهم من خلال إعلامهم وخطاباتهم وبهرجهم بأنَّهم يحققون مطامح شعوبهم ، ويحرصون على مصالحها حتى انطلى تزويرهم على عامة الناس ، وطائفةٍ من المثقفين ، ولكنَّ تلك (الرِّغوة) المنتفخة سرعان ما طارت بها رياح الحقائق ، فأظهرت صريحَ الَّلَبنْ ، ولكنَّه في إناء سياساتهم الفاسدة بَدَا على حقيقته لبناً فاسداً لا يصلح للشُّرْب أَبَداً. وها هم الآن أمام عيون الناس في العالم كلِّه ، تبرز وجوههم الكالحة ، ونفوسهم الخبيثة ، وأيديهم الملطخة بدماء الأبرياء ، لقد أبدى الصَّريحُ عن الرِّغوة في حالتهم التي خَدَعت عامَّة شعوبهم زَمَناً. أما الجانب الثاني فهو يتعلَّق بهذه الشعوب المظلومة ، المستسلمة، التي انكشمت على نفسها ، تلوك همومَها ، وأحزانها ، وضعفها ، وفقرها عدداً غير قليلٍ من السنوات ، ثم جرى ما جرى من الثورات ، فإذا بها شعوب مفعمة بالحيوية والنشاط ، قويَّة في المطالبة بحقوقها المنهوبة المسلوبة ، بل قويَّةٌ في زَحْزحةِ الظالمين عن كراسيهم بصورة مفاجئةٍ سريعةٍ لم يكونوا يتوقعونها ، بل لو كانت ضمائر أولئك الظالمين حيَّةً لتوقَّعوها قبل أنْ تزولَ الرِّغوة ويظهر لبنُ شعوبهم الصريح. هكذا برز أمامي هذه المثل ، وهكذا تكون الأمثال والحكم ذات قيمة في حياة الأمم والشعوب. إشارة: ما أصدق قول الشاعر يخاطب ظالماً: فإنْ تُصِبْكَ من الأيَّام جائحةٌ=لم نَبْكِ منك على دُنيا ولا دِينِ