كان من المفترض أن تتجه الأنظار شمالاً نحو لبنان، حيث بدأ العد التنازلي للحرب القادمة، إلا أنها اتجهت عنوة غربا نحو تونس الخضراء التي أعلن شعبها الأبي رغبته الحرة في تغيير قادته، فكان أن تجاوبت كل الدنا لإرادته ورددت معه قول شاعره العظيم: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة». وهو حدث يستحق الوقوف عنده، بل لعل تداعياته تبطئ من تسارع خطى الحرب في لبنان، بعد إسقاط خطة الإنقاذ السعودية السورية، سواء حربا أهلية كما تريد أمريكا، تصفية لحسابات معلقة مع أطراف خارج لبنان، أو حربا ضد حزب الله كما تريد (إسرائيل) لإعادة فرض مفهوم قوتها الرادعة التي مرغها الحزب في حربهما الماضية. ستتضح ملامح كل هذا بعد إعلان القرار الظني الأمريكي النزعة الإسرائيلي الهوى. أعود إلى تونس التي عادت إليها خضرتها في يوم جمعتها المباركة، لا أدري لم تذكرت تفاحة نيوتن وأنا أستعيد حادثة إحراق الشاب التونسي البوعزيزي لنفسه بعد منعه اكتساب عيشه على عربة خضار في سوق مدينته بعد بطالة طالت شهوراً، تساءلت ترى كم تفاحة سقطت أمام كثيرين قبل نيوتن ولم تدفع أحداً منهم لاكتشاف قانون الجاذبية؟ كم نفس زكية سقطت ضحية للقهر والاستعباد ومصادرة الحريات وتفشي البطالة والفساد ولم تحرك ساكناً لدى شعوب كثيرة عريضة؟ تساءلت ثانية ترى هل نيوتن «يُعَوِد» تونسياً، هل تجري في عروقه دماء هذا الشعب النبيل، لكني عدت وتذكرت خلفيته العلمية التي مكنته من اكتشاف القانون، ومعها تذكرت خلفية شعب تونس التي حفلت بشاعر اسمه أبو القاسم الشابي أسقط من نفوسهم قابلية الهوان وحفر في وجدانهم معنى الإباء ورسم لهم ذات يوم طريقاً للعيش الشريف، ولأن أمهاتهم ولدتهم أحراراً شرفاء لم يتهيبوا صعود الجبال، جبال الكرامة والعزة، ورفضوا العيش بين الحفر، حفر الفساد والمهانة، أبت عليهم كرامتهم السكوت على القهر، فهنيئا لهم استعادة حريتهم وكرامتهم وتحقيق احترامهم لذواتهم. إن كان من بطل ثاني لما حدث في تونس بعد إنسان تونس العظيم فهو التقنية الرقمية، بفضلها عايش العالم أحداث تونس لحظة بلحظة، وأكسبها تعاطفه وتأييده، وهو أمر مرشح للتكرار في أكثر من دولة عربية باختراق حواجزها الأمنية إذا تمادت في تهميش إنسانها وسلبه حريته وكرامته وحقوقه. ثورة المعلومات لن تسمح بعد الآن تمرير هذه التجاوزات، نعرف جميعاً جرائم (إسرائيل) السابقة في فلسطين إلا أن عيون العالم لم تشاهدها، لكن ومنذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عندما أعطى مجرم الحرب إسحاق رابين أوامره بتكسير عظام الفتية الصغار قاذفي الحجارة، كانت كاميرات التلفزة تنقل ذلك على الهواء مباشرة مما أثار غضباً شعبياً عالمياً، تكرر ذلك أثناء حرب غزة، قتل مدنيين عزل، وكان له أثره أيضاً في تعاطف ووقوف شعوب العالم مع الفلسطينيين المحاصرين وفي تسيير حملات المساعدة لهم. ما حدث في تونس يستحق التمعن، مدهش، مثلاً، أن ربع قرن ليست مدة كافية لبعض الرؤساء لفهم شعوبهم، القذافي، وهو الشخص الوحيد في العالم الذي لام الشعب التونسي على انتفاضته، مضى له في الحكم حوالى نصف قرن ولم يصله الفهم بعد، غيره تتفاوت نسب حكمهم مع نسب فهمهم، إذا تعطل أو انقطع التفاهم بين الحاكم والمحكوم انهارت الشرعية التي تحكم علاقتهما. ما حدث في تونس، وقبل أن يقطف ثماره من لا يستحق، انتفاضة شعبية بمعنى الكلمة، لا ينطبق عليها المعنى المتداول للثورة كما يحاول البعض، أو مفهوم الانقلاب كما يحلو للبعض الآخر، فهذان يعمدان بالدم، ثورة ياسمين، ربما، والأفضل أن توصف بالخضراء، فتونس كانت دائماً خضراء طبيعة ونفوساً، انقلاباً أبيض، ربما، ولكنه انقلاب ضد الظلم وهو أمر تبيحه شرائع السماء والأرض. تتذكرون ربيع براغ والثورة المخملية في رومانيا والشعبية في إيران والماركوسية في الفلبين، جميعها إرادات شعبية تم التعبير عنها سلمياً، لم تسفك فيها الدماء عندما وقفت الجيوش على الحياد وهذا واجبها، فالتاريخ لا يذكر أن جيشاً وطنياً، أكرر وطنياً، أطلق النار على مواطنيه. وكما أن العدل أساس الحكم فكذلك الظلم وراء كل انتفاضة سواء كانت شعبية أم فردية، والفساد أس الداء، فمنه ينبع الرفض وعلى أكتافه تتصاعد الفوضى وإليه ينتهي كل غضب، وصراع الأنظمة المستبدة مع شعوبها صراع أزلي طويل، ولكنه ينتهي دوماً بانتصار الشعوب. أعاد كثير من المحللين سقوط نظام «بن علي» بهذه السهولة والسرعة إلى خلل في النظام الاقتصادي، وهذا صحيح جزئياً، غير أني أضيف أن انحلال النظام القيمي ساهم بشكل أكبر في السقوط، تذكرون مقولة « ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، فالخبز بدون كرامة يقتل، والخبز بدون حرية يحرق. احترام المواطن فرض وإعلاء كرامته واجب، وهذه من أساسيات العدل الحافظ للحكم، التي يحفظها كل الحكام الحكماء. سيقول البعض إن لا معنى للحرية عند إنسان جائع، فما الفرق، إذن، بينه وبين الحيوان الجائع، ألا ترون أن بعض الحيوانات تفضل الموت جوعاً في الأسر، هذا وحب الحرية شعور مشترك بين الإنسان والحيوان، فكيف يكون الحال مع الكرامة التي فُضل بها الإنسان على الحيوان! للقاص الكولومبي ماركيز، المشهور بمزج الواقعية بالفانتازيا ملاحم لا تنسى، من رواياته العظيمة «الجنرال في متاهته» و»مئة يوم من العزلة» إلا أن ملحمة «خريف البطريرك» عن الطاغية الذي برغم غرقه ظل الخوف قائماً من عودته، وتلبسه روح طائر الفينق الذي قد ينبعث من تحت الرماد، ولا يتأتى اطمئنان الناس إلا بإعلان بلوغ زمن الأبدية نهايته، فيموت عندئذٍ الفينق.. العدل والظلم أبديان أيضاً، أحدهما بطريرك والآخر فينق، أحدهما حق والآخر باطل، وبينهما تكمن فانتازيا. [email protected]