من الأمثال الجميلة التي أفسحت لها مكانًا في الذاكرة ، وشعرت أنها حكمة محصنة ضد النسيان المثل الصيني الذي يقول: جميلة كانت أو قبيحة إنها بلادي ، قريبًا كان أو غير قريب: إنه موطني . وكان آباؤنا يلقنوننا درسًا في حب الوطن بعش العصفور الذي يعلقه في أطراف غصون الشجر على قمم جبال السروات ، ونتسلّق إليه ، ونقوم بهدمه واستخراج ما فيه من البيض ، أو الفراخ الصغيرة ، ويظل يحلّق مذعورًا على رؤوسنا ، ونغادر المكان وهو يقطع حزن الفاجعة بهديله الشجي . ينظر الأب إلى العصفور منكسرًا على طرف الغصن ، ويقول يا ولدي هذا وطنه . وحين يكون الوطن كهذا الوطن العظيم الذي اختاره الله قبلة للمسلمين ، وبعث فيه خاتم أنبيائه وسيد رسله ، وأنزل فيه قرآنه ، وأطعم أهله من جوع وآمنهم من خوف ، فإن الحب يجب أن يكون أعظم ، والتضحية أشد . وما أجمل أن يموت الإنسان من أجل وطنه ، ولكن الأكثر جمالاً أن يعيش من أجله ، كما قال كارلايل . هذا الوطن مأكول مذموم ، اقتسم رغيف الخبز مع أشقائه ، وشاطرهم محنهم ، وقدّم تضحيات كبيرة من أجل نصرة قضاياهم ، ودفع ولايزال يدفع ثمن هذا الموقف . ولقي من بعض أشقائه نكرانًا وجحودًا ، ولكن التاريخ يعلّمنا دائمًا أن ابتلاءات الإنسان بقدر مواهبه ، ووطننا مواهبه ليس لها حدود ، ومركزيته وعمقه التاريخي والحضاري تورث لكثير من الكسالى والموتورين الضغائن والأحقاد ، والطعنات لا تكثر في الظهور إلاّ عندما يكون المطعون في المقدمة . والفاشل يريدك أن تكون بجواره، تشاطره عجزه، وتقاسمه هوانه، ولا يمقت الفاشلون شيئًا في الحياة كما يمقتون ثقافة النجاح والناجحين. والوطنية الحقيقية لا تظهر إلاّ في ساعة الزحف ، فالوطنية ليست كلمة تُقال ، ولا واجبات تؤدّى . إنها كرامة ، ومسؤولية ، وتضحية لا حدود لها . فالوطني الحقيقي هو الذي لا يسأل ماذا أخذ ، ولكن ماذا قدّم. أعلم أن كثيرًا من الناس سيعدون حديثي هذا ضربًَا من الترف ، إنما التاريخ يؤكد لنا دائمًا أن الوطن والوالد هما اللذان يجب أن تقدم لهما كل ما تستطيع ، ولا تنتظر منهما ماذا يقدمان لك . هذه التضحية تشعرك بإنسانيتك ، وبوجودك . لقد كان ذلك الشاعر العربي عظيمًا في وعيه ، ونبيلاً في حسه الوطني عندما قال: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة=وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام وطنك قد يقصرّ في حقوقك ، وأهلك قد يجورون عليك ، ولكن الأفضل أن يكون لك وطن وأهل . اليوم عالمنا يمرّ بلحظات تحوّل كبرى ، والخريطة تشهد إعادة تشكيل لمكوناتها ، ستزيد الفقير فقرًا ، والغني غنى ، والقوي قوة ، والضعيف ضعفًا . ونحن جزء من هذا العالم ، لدينا فساد معترف به، ومشكلات تنموية حادّة تستوجب تضحيات من الدولة ، فأبناء الوطن يستحقون التضحية ، والاستقرار السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية أمر لا ينبغي المساومة عليه ، ولدينا خطوات جادّة في هذا الأمر ولكنها بطيئة ، ولم تقترب من موطن الداء حتى هذه اللحظة ، ولكن لا بديل لنا سوى التلاحم والتضحية من أجل هذا الوطن العظيم ، ونحن في ساعة الزحف . لقد قالها مصطفى كامل، وأقولها اليوم مرة أخرى: (ويلٌ لمن لا وطن له ، إن لقطاء الأوطان أذل من لقطاء الأحضان) .