حين ننظر إلى الثقافة بمنطق التصنيف والتقسيم يبرز التراتب بين أصنافها وأقسامها ، بحيث يستقطب الجهاز المفهومي الواصف للثقافة توتراً ضدياً بين قطبين ثنائيين ، وحديَّة صارمة في الفصل بينهما ، فأحدهما أصل والآخر فرعه ، أو جميل والآخر قبيح ، أو نخبوي وشعبي ، أو رفيع ووضيع ، أو مهذب وطبيعي ، أو ابتكار وتقليد ، أوحضاري ومتوحش ، أو صحيح وخاطئ ، أو خيِّر وشرير ... إلخ. بما يعني التمييز من زاوية الترتيب الوجودي ، والتقويم التفضيلي ، على نحو من شأنه إحداث نظام دلالي له هيمنة وإقصاء بالارتكاز على مزايا ميتافيزيقية مكتسبة بالتراتب ، في حين أن هذا التراتب يحيل -كما كشفت التفكيكية- على عملية بلاغية ناشطة ومسؤولة عنه ، أي عملية تسمية ووصف مجازيين ، وهي عملية تحجب بقدر ما تظهر. وليس المهم هنا استكشاف الدوافع التي بمقتضاها يَحْدث التراتب ، أو ما يتضمنه من تقديم أو تفضيل ، ومن ثم أن نجادل بقلب التراتب لصالح السلبي أو المتأخر ، فليس الشر طبعاً أفضل من الخير ، وليست النتيجة مقدمة على السبب ، وإنما المهم هو اكتشاف ما يتضمنه التراتب من حجب وتعتيم وحصر وإقصاء ، من خلال استبدال في الصفات التي تميز الطرفين وتُحْدِث التراتب ، بحيث نرى أن الحجة التي بمقتضاها يحتل سبب معين -مثلاً- مرتبة أولية ، هي نفسها الحجة التي تمنح نتيجته المرتبة نفسها. والمثال الشهير المطروح في التفكيكية ، لذلك ، هو تفكيك نيتشه لمبدأ السببية في وخزة الدبوس لمن يشعر بألمه دون أن يعرف سببه ، فالإحساس بالألم نتيجة والدبوس سبب ، لكن الترتيب الحسي أو الفينومينولوجي يقلب هذه السببية ، فالألم وهو النتيجة هو الذي أدى إلى البحث عن سببه ، ومقتضى ذلك أن الألم صار أولاً ثم الدبوس ثانياً. ويمكن القول إن تاريخ الثقافة الإنسانية هو تاريخ من التحول الذي يرينا قلب تراتبات أنواعها وأقسامها باستمرار ، فالتراجيديا التي كانت قمة الهرم الأجناسي الأدبي من منظور الكلاسيكيين ، تأخرت في الترتيب لصالح القصيدة الغنائية عند الرومانسيين ، وهذه وتلك تأخرتا معاً في الواقعية بسبب تقدم القصة ... إلخ. وبالطبع فإن هذه أمثلة فقط على اكتشاف صفات مائزة للمتأخر أو الأقل في الترتيب الثقافي من زاوية نظر مختلفة ، ينتج عنها تقديم هنا مثلما نتج عن غيرها تأخر هناك. لكن النتيجة دوماً هي استبدال تراتب بآخر وليس تفكيك التراتب ونقضه. وأسباب ذلك طبعاً ، تنبع من الثقافة نفسها التي تنطوي على التراتب بوصفه نسقاً مفهومياً واصفاً ، والثقافة لا تنفصل عن الوقائع الاجتماعية التي تنبني على التراتب والامتيازات والمواقع. هكذا تصبح التقسيمات الطبقية والفئوية والجغرافية والحضارية تقسيمات قيم ثقافية أيضاً: فقير وغني ، شرق وغرب ، شمال وجنوب ، مدني وقروي ، متقدم ومتخلف ... إلخ. وعلى رغم أن هذا التراتب يحجب رؤية المتأخر والسلبي ، فإنه، عملياً ، لا يلغيه ، ولا يمحوه ، ولا يختزله إلى الآخر المتقدم والإيجابي ، أو يفرض وجود هذا الأخير وقيامه دون مُعَارِضِه في ثنائية الدلالة. ولذلك يبقى هذا التراتب تقليدياً منطوياً على الوهم ، الذي يأخذ شكل أحلام وأمنيات وانتظار وتصورات عقلية ، فالغِنَى يحمل فقراً ما ، والفقر مكتنز بغنى ما ، تماماً كما هو الخير والشر اللذان يتبادلان التلازم والاقتضاء ، في حين لا ننفك عن انتظار قضاء الخير على الشر ومحوه ، والغنى على الفقر ... إلخ. وقد اتخذت منتجات الثقافة وأقسامها هذا التراتب الذي يسكن في مفهوم الثقافة وتصوراتها النسقية ، ومقولة (الشعر ديوان العرب) قديماً ، تأخذ تأويلاً لبناء نسق الثقافة العربية على الشعر ، ومن ثم تمجيده بشكل يتبادل مع التمجيد الذاتي للقومية العربية القيمة والدلالة. ومن يقرأ الجاحظ في تمجيده للشعر يكتشف سياقاً متلازماً ثقافياً لهذا التمجيد لا ينفك عن المعارضة لغير العرب , لكن هذا التمجيد سيفضي بالقارئ إلى إدراك ارتباك الجاحظ ، الذي ينتمي إلى ثقافة العقل والتأليف والكتابة ، وهو يَذْكُر من مزايا الكتب وصنعة الكتابة ومقتضياتها ، ما يؤخر مرتبة الشعر ، ويدنيها إلى موقع بدائي وساذج. والأمر نفسه يمكن ملاحظته لدى القدامى في اصطناع أنساق للتراتب داخل الثقافة الشعرية نفسها ، فشعر التكسب منحط وبه آل الشاعر إلى منزلة دون منزلة الخطيب أو الكاتب من وجه ، وهو أمارة الاقتدار ومدار العلو الذي ارتفع به الشاعر فنادم الخلفاء وملك الجواري واكتسب الغنى من وجه آخر. ولقد لفت نظري في مقدمة الحريري لمقاماته وعيه الحاد بمواجهة تراتب الخير والشر ، والأخلاقي وغير الأخلاقي ، والمستقيم والمنحرف ... المغروس في الوعي العالِم ، وعي التأليف ووعي الإبداع في ثقافة مجتمعه ، بما يمكن أن يمنع تلقي المقامات والانفعال بها ، لأنها حافلة بالخداع والانحراف والوقاحة والشرور من زاوية التراتب نفسها التي تؤخر هذه الموصوفات وتستبعدها. وله ذا تضمنت مقدمته ما يفيد بضرورة الوعي بهذه الموصوفات الممنوعة والمحجوبة ، بحيث نتصور تأسيس الحريري بذلك لتراتب مغاير يقصد إلى تقديم التمثيل للمستبعَد والمحجوب وغير المستقيم وتأخير ما يعارضه بطريقة تلفت إلى أهمية هذا المتأخر الذي لا يزيده التأخير والاستبعاد إلا أهمية واقتضاء ، وليس فاعل ذلك -كما يقول- إلا (بمنزلة من انتُدِب لتعليم ، أو هَدَى إلى صراط مستقيم). لكن العقاد في عصرنا الحديث ينظر من خلال تراتب ثقافي مغاير لما رآه الحريري في تقديمه لمقاماته. فالقصة لدى العقاد متأخرة في الرتبة والقيمة عن الشعر ، وهذا الترتيب يعود إلى مقياسين: أولهما الأداة بالقياس إلى المحصول ، والثاني الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون. و(ما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات) كما يقول ، وهذا بخلاف الشعر. أما مقياس الطبقة فقد رأى تواضع منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة وتَدنِّيها دون غيرها من فنون الأدب ، سواء كانت منزلة الفكر أم الذوق أم السن أم الأخلاق. ولهذا رأى أن ذوق القصة شائع وذوق الشعر نادر ، وأن من السهل تحصيل ذوق القصة ومن الصعب تحصيل الذوق الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين. ويفسر رواج القصة بشيوع القراءة بين الدهماء ، وبنشاط الدعوة إلى الشيوعية ، التي تتوجه إلى الجهلاء من خلال ما يُكتب لهم. هكذا يستبدل العقاد تراتباً بتراتب ، وترتيب القصة على الشعر ، يحكي لديه ، تراتب الثقافة الاجتماعية بين النخبة والجمهور ، أو العامة والخاصة. فالشعر في مكانته العليا هو الطبقة الخاصة التي تعلو على الدهماء ، وتَنْدُر. وليس من الوارد بمنطق التراتب الذي يفترضه العقاد أن نتخيل اتساع طبقة الذوق الشعري وغلبتها اجتماعياً ، فهو مؤسس بنيوياً على الندرة والقلة ، وعلى النخبة، بحيث يغدو شيوعه امحاءً له ، مثلما تتأسس القصة بموجب التراتب نفسه على الكثرة والوفرة والشيوع ، وعلى العامة والدهماء. ولذلك يبدو السؤال هنا عن قيمة ثقافة ، كالشعر ، محصورة في منتجيها الذين يستقلون وينغلقون دون عامة الناس؟ هل لهذه النخبة ، حقاً ، من التجانس والوحدة ما يمنعها من التغاير والاختلاف ، ومن الانعزال عن العامة؟ ثم أليست القيمة التي تمتلكها النخبة بمقتضى نخبويتها مبرراً لامتلاك العامة قيمة أثمن إنسانياً وواقعياً بموجب عمومهم وكثرتهم؟ إن التراتب الذي صنعه العقاد مستلهم من منظور الرومانسية للشعر ، هذا المنظور الذي جعل الرومانسية توصف بالمرض ، فيما بعد ، على الرغم من أن حفاوتها بالفردية ظلت منبعاً لتجدد تنويعات مذهبية ونظرية في فلسفة الجمال وتقويم الإبداع الفني. ولم يكن علي الوردي ، بدوره ، في الثورة على الشعر ، خارج منطق التراتب الثقافي. فقد رأى أن تقاليد الشعر وذاتيته عاملان يحجزانه عن التواصل مع الجماهير والتفاعل معهم ، وأن قيمة الشعر هي في ما يتركه من صدى في نفوس الناس. وهذا يعني أننا بإزاء تراتب يتقدم فيه الجمهور ويفقد فيه الشاعر امتيازه الإبداعي والنخبوي الذي رآه له العقاد والرومانسيون. وبالمثل تماماً تصنع مواقف أخرى تراتباً ثقافياً من وجهة التقديم للقصة أو الدراما التلفزيونية ، أو ثقافة الصورة عامة. ومن غير شك فإن التراتب الذي ينبني على تقديم نوع ثقافي ، أو طبقة ثقافية اجتماعية ، على نحو ما رأينا أعلاه ، يتضمن نفي غيره من الأنواع والطبقات أو التعتيم عليه ، ويبحث عما يضعه بمثابة أساس مرجعي وتفضيلي لا نتخطاه ، بحيث ينتج عن ذلك بداية لا بداية قبلها ، أو أهمية لا أهمية سواها. وفي الحقيقة ، فإن كل تراتب كهذا ، ينهار حين نكشف عما يحدده ، بشكل يرينا تأخره عن غيره ، وكونه نتاجاً لشيء سابق عليه ، أو أهم منه. أي يتكشف عن كونه تابعاً أو مشتقاً بكيفية تحرمه من أن يكون قيمة أولية أو سلطة مرجعية يتقاصر عنها غيره في سلم التراتب. وعند ذلك فإن الثقافة عملية مستديرة ومتعددة المرجعيات والقيم ، وهي تتبادل في منتجاتها ومقوماتها المختلفة مبرر الوجود من بعضها بعضاً.