المُدن السعودية.. تنميةٌ واستدامة    المملكة تستعرض جهودها لحماية البيئة    فتيات ينتجن مستحضرات من التمور    دعوة لتبني تقنياتٍ جديدة لتعزيز استدامة البيئة البحرية    خفض متوقع لأسعار النفط إلى آسيا في ديسمبر وسط ضعف الطلب    مجموعة فقيه تحتفل بخريجي البورد السعودي والزمالات الدقيقة وتكرّم الفائزين بجوائز الدكتور سليمان فقيه    اتفاقية بين المملكة وكوسوفا لتسهيل نقل الحجاج والمعتمرين    بعد 156 عاما إثيوبيا تستعيد تحفة تاريخية    الفيفا ينهي مرحلة التقييم لملف السعودية لاستضافة كأس العالم 2034    التعاون يواصل التعثر في «دوري روشن» بالتعادل مع الخلود    الهلال الأحمر بالجوف يرفع جاهزيته    أمانة القصيم تعالج آثار الحالة المطرية    طلاب جازان يتفننون بالابتكارات والبحوث    خطيب المسجد الحرام: الزموا حفظ كرامة البيوت    خطيب المسجد النبوي: املؤوا قلوبكم بحُب الرسول والشوق إليه    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يُنقذ "ستينية" مصابة بالسكري من بتر الساق    «سعود الطبية» تنفذ 134 ألف زيارة رعاية منزلية في خمس سنوات    أول صور ثلاثية للغدة الزعترية    المملكة تعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف بالسودان    أودية ومتنزهات برية    مخالفو الإقامة الأكثر في قائمة المضبوطين    30 جهة تشارك في المنتدى الحضري العالمي بالقاهرة    بالإجماع.. إعادة انتخاب عبدالله كامل رئيساً لإدارة مجلس «عكاظ» ل 5 سنوات    جدة: القبض على 5 لترويجهم 77,080 قرص «أمفيتامين» و9,100 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    ميقاتي يتابع قضية اختطاف مواطن لبناني    دوري روشن: الفتح يلحق بتعادل إيجابي امام ضيفه الفيحاء    حين تصبح الثقافة إنساناً    فرع الصحة بجازان ينظم مبادرة "مجتمع صحي واعي" في صبيا    وزير الإعلام يرعى ملتقى المسؤولية المجتمعية الثاني في 20 نوفمبر    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    الجوف تكتسي بالبياض إثر بردية كثيفة    257,789 طالبا وطالبة في اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأول بتعليم جازان    الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    دبي.. رسالة «واتساب» تقود امرأة إلى المحاكمة    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشكلات التكوينية للشاب السعودي المثقف
نشر في المدينة يوم 11 - 01 - 2012


النرجسية:
هي نتاج سلوكي انفعالي يولده نمط التفاعل الثقافي وفقًا للشخصية النفسية والفكرية واعتمادًا على المرجعية العلمية أو الثقافية وهي تنتشر على كافة المستويات العليا والدنيا والمتوسطة، ولكنها حاضرة باقتدار عند هذا الجيل وبمستويات مختلفة وعلى كيفيات متنوعة. ما الذي يجعلني أبدأ بهذه المشكلة التي يوصم به المثقف السعودي بالعموم، وهي تُهمة المثقف على كل حال. تُهمة يستخدمها المجتمع في مواجهة اندفاع المثقف الناقد بأدواته المتعددة لأساليب الحياة الفكرية والمعيشية والاجتماعية. أبدأ بهذه المشكلة لأنها أثيمة ومُضلِلة وهي نسبب نكسات الكثير من المثقفين في حياتهم الثقافية، أبدأ بهذه المشكلة لأنها هذه الصفة صحيحة على الرغم من بطلانها، صحيحة لأنها ترتفع بالمثقف وفي مواجهة المجتمع والمتلقين ليظهر وكأنه في بُرج عاجي ويتكلم بلغة مختلفة ويحمل في نفسه هموم وأفكار ذات صبغة أعظم وأثرى. وباطلة لأن المثقف بتفاعله مع المجتمع إنما يبغي التغيير ويسعى بروحه المتفاعلة لحث مجتمع على مواكبة الحضارة والتطور والعلم. صحيحة مرة أخرى.. حينما يستخدمها المثقفون فيما بينهم، وينظر الشاب القارئ أنه بقراءته لسلسلة من الكتب أو كتابته عن موضوعات فكرية أو ثقافية أو اجتماعية فهو يُصنف الآن في مكانة استشرافية خاصة به. يمارس بعض الشباب المثقف النرجسية في صفتها «صحيحة على الرغم من بطلانها» بمعنى أنهم لا يتعمدون الانزواء عن المجتمع أو عن أشباههم من القراء ولكنهم يفضلون العزلة والابتعاد لحين النضج والتمكن، وهذه من حاجات النفس البشرية، مع العلم أن كل بناء بحاجة إلى بيئة مشابهة حتى يتوازن وينساب ويتناسق في نموه وارتفاعه، ولكن ولأن النرجسية تهمة متلونة يعتبرها البعض في سبيل التعريض بينما يعتبرها البعض ميزة يفتخر بها، فإننا يمكن أن نتأكد من نرجسية البعض بمحاولة التفاعل معهم وجس نبضهم الاتصالي. هذه إشارة أولية تؤكد لنا مدى انطباق هذه الصفة على الشاب المثقف، الإشارة الثانية والمهمة هي حديث المثقف الدائم عن نفسه والتنويه بارتباطاته الثقافية، ولذا أرى أن كُتّاب المذكرات اليومية في غير شكلها الابتدائية الأولية هم دليل صريح على النرجسية التي تُعظم الذات وتُسخر الأدوات الكتابية لتُجبر الجميع على النظر في هذا الكاتب والافتتان به، فيكتب حينها عن نفسه وحياته العظيمة وماذا فعل وكيف قفل وكأن حيوات الناس لا شيء ضمن ما يكتبه. إن مجرد الكتابة عن الذات بهذا الإسراف والتحليل والتركيب هو دليل على هذه التهمة. هناك فرق بين ظواهر أو علامات النرجسية على المثقف وبين الحالة المتسائلة التي تشغل حياة المثقف وتجعله في هالة من الانبهار بمكونات الثقافة، حضوره المتكرر من أجل البحث والتفتيش ثم التقييم والمراجعة والمداولة هذا يصب في بناء الكيان الثقافي المقبول. السؤال: هل نُصاب
بأعراض النرجسية دون أن نعلم؟ نعم؛ هذا يحدث وكثيرًا، هي لا تشبه ظاهرة إطلاق صفة الغرور في مجتمعنا التي توزّع مجانًا وبعشوائية على الناس المختلفين بأطيافهم: الخجول وفاقد الثقة وقليل الكلام ومعتزل الناس والهارب من المجتمع، ولكنها حالة غريبة نشعر بتلبُسها لنا لتُخضعنا للتغير تجاه قواعد حياتية ثقافية بسيطة، فمثلاً؛ اعتزاز المثقف بعدد الكتب التي قرأها بدل أن يصغر في نظر نفسه ويجد أن الطريق أمامه طويل وأنه بالكاد ابتدأه، هذا إشعار بأنه أصابنا شيء غير طبيعي، كذلك الشعور بمعاداة الآخر دون معرفته حق المعرفة هذا إشعار آخر، وأيضًا الالتزام بقواعد نفسية تعاملية تكوّن صبغة الإنفراد والعلو. النرجسية إنها الاغتراب حينما يستيقظ المثقف ذات يوم فيجد أنه قرأ ما يريده الآخرون ليجادلهم ليس إلا، وأنه لم يكتب سوى بضعة كتب هي رسائل من وإلى محبوبته أو كيف أصبح نحيفًا أو كيف عاش محرومًا، مع خلوها من الاستنتاج والاستفادة، وحين يتلفت من حوله لا يلتقي بقرّاء أو أصدقاء أو منابر ومجالس يتداول فيها الشأن الإنساني والثقافي جنبًا لجنب مع الآخرين.
الشتات - مشكلة البناء:
التعليم الرسمي الذي يُفترض أنه يَمحي هذه المفردة من حياة المثقف الشاب، إلا أني أجده كان سببًا رئيسيًا فيها. لقد كرّس التعليم قيمة النجاح بالتجاوز الآني للمادة العلمية بما لا يحقق التقدم المرحلي الشامل، مما أوحى إلى المتلقي أن الغاية في كسب الشهادة والمرتبة الوظيفية تُبرر الوسيلة التعليمية الإنجازية المتعثرة والناقصة، وانتقلت المؤسسة التعليمية من أمين على حقل الثقافة العامة إلى سارق يُمرر للمستفيد المكسب الماديّ الحياتي الذي يسعى إليه. والشتات أيضًا هو غرسة مثمرة داخل العملية التثقيفية التعليمية في المدارس والجامعات تبتدئ بالاختيار المتأخر والمُكرر للمنهج مرورًا بالأستاذ الذي لا يعرف سوى ما يُلقنه للتلميذ، والذي هو – المعلم - خير شاهد على نتاج هذه المؤسسة، وتنتهي بسوء مواكبة طرق التفكير والتدريس المعاصرة. إن الجيل السابق الذي اعتمد الكتاتيب مثلاً كبناء تكويني ثقافي اجتماعي نجح في اعتماد أساليب مركزة وثابتة في توحيد البناء العلمي والثقافي منذ البداية، لقد كان من أهم إرهاصات هذا البناء هو تكوين العقل «الأداة» العلمي والبحثي للنشء مما أزال غشاوة التخصص، والثبات مستقبلاً. يحفظ الدارس في الكتاتيب القرآن في سن مبكرة جدًا ثم يتعلم أربعة أو خمسة علوم تعليمًا ممتازًا لفترة أطول، بينما نلحظ طالب الصف الثاني متوسط تتجاوز مواده التعليمية العشرة مواد المتخمة بعدد كبير من الدروس والموضوعات وهذا سبب في شتاته التعليمي والذي لا يقف هنا بل يستمر مع كل سنة وتزداد المواد التعليمية حتى يُصاب بلوثة علمية
كل يوم بمعدل سبع حصص متلاحقة على مدى سنوات متتالية تجعله لا يعلم شيئًا ويبغض المعرفة. المثقف السعودي الذي ينشأ على مثل هذه التنشئة المؤسساتية منذ الصغر يفقد الكثير من عمره التثقيفي وحين يستيقظ في مرحلة متأخرة في الثانوية أو الجامعة أو ما بعدها يُصاب بشعور النقص والتخلف ثم ينطلق أو يندفع نحو اللحاق بالحياة الثقافية وبناء فكره وعقله ومتطلبات هذا من قراءة واعية وكتابة مستوعِبة، يحدث الشتات مرة أخرى بفقدان التوجيه السليم، والسؤال المتكرر: ماذا أقرأ؟ أو، بماذا تنصحني أن أبدأ ؟ هو نتيجة فعلية للفقر المعرفي بما يجب أن يُقرأ أولاً ثم ثانيًا وكيف يشغل المثقف نفسه بالأهم ثم المهم؟ وكيف يوازن بين الأصناف التي يجب أن يجيدها؟ هذه باختصار مسيرة الشتات المُنظم والمؤسس الذي يدرسه المثقف دون أي أنشطة خارجية تحاول إعادة ربط الحياة الثقافية اللامنهجية داخل المدرسة بالمتعلم وبيان أهمية الثقافة العامة. بالأخذ في الحسبان هذا التكوين أو البناء العقيم يمكن أن نقول بأن هناك شتات قرائي لدى المثقف المحلي، فالصدفة التي هي المُوجّه الأول للمثقف قد لا تكون حسنة دائمًا وربما يترتب عليها تبعات استنتاجية بسبب هذا الخلل التوجيهي، مثلاً في المرحلة الثانوية قرأت كتاب عن كارل ماركس وآمنت بهذا المعتقد ودعوت إليه دون حتى أن أسأل عن وجود أو انقراض هذه الفكرة ولا أشك أن مثل هذه القراءة تؤثر عليّ حتى اليوم. رغبة التنوع القرائي وانتقال القارئ من كتاب إلى آخر دون الحصول على أقل درجات الاستفادة الممكنة هو تعجّل ذميم يُحدث نوع من الشتات وتتحول القراءة هنا إلى مجرد حالة «إلتهامية» مطْردة لا تستخلص من كل كتاب الفائدة المرجوة منه، يقول العقاد في هذا الصدد: أن أقرأ كتابًا ثلاث مرات خير لي من أن أقرأ ثلاثة كتب. ويمكن أن نقول إن ضعف وجود مناشط ثقافية على مستوى الأسرة والمجتمع تدعو إلى البناء الثقافي الذاتي وكذلك البناء المشترك ساهم في انكماش المثقف باستمرار على ذاته وعلى مجموعات صغيرة غير متصلة ولا متفاعلة ترفض البعد النفسي من التشجيع والمنافسة مما أضعف من ثبات المثقف وأصابه بحالة من الارتباك والشتات، وهذا يتضح جيدًا في أمثلة الناس الذين كانوا محبين للقراءة وللإطلاع ونفع المجتمع ثم انحسر الاهتمام حتى باتت الثقافة والقراءة حالة ماضوية غير مجدية وغير قابلة للمحاولة والتكرار. الكتب التي نحت منحى تركيب وترتيب موضوع القراءة لدى القارئ مثل كتاب «القراءة المثمرة « لعبدالكريم بكار و»القراءة الذكية» و»وكيف تقرأ كتابًا؟» وغيرها الكثير هي برأيي استدراك لهذا الفوضى والتشتت القرائي والذي هو جزء هام لبناء المثقف في مراحله الأولية، ومن هنا فإنه على المثقف العودة وتجديد البناء الهرمي للمادة الثقافية وذلك بالنظر والسؤال عن الآلية التي تؤهل له منهجية صحيحة ومعتمدة تستكمل نواقصه البنائية وتسير به لتنير فكره ليكن على مسار متوازن وصلب. المشهد الثقافي الداخلي في صورته الحوارية التجاذبية هو سبب مهم من أسباب الشتات الثقافي عند الشاب السعودي المثقف، فنشوء تيارات فكرية تستلهم من الدين إطار وشريعة أو تستلهم من الحرية مركبًا وطريقة ثم حصول انقسامات بين هذه التيارات فينقسم التيار الفكري الإسلامي إلى تيار راديكالي متعصب وتيار انفتاحي تنويري وتيار دعوي عامي، وتحصل انقسامات في التيار الليبرالي فتصبح فكرة التبرؤ منه والخروج عليه بعد الولوغ فيه موضة إعلامية يشهدها المشهد السعودي، كل هذا الصراع الفكري الحواري وما يستلزمه من تناول كل تيار النتاج الثقافي للتيار الأخر وانتقاده وصب جام غضبه عليه كما حدث في التسعينات الميلادية إبان حرب الخليج وحتى اليوم كل هذا على الرغم من صحيّته وحيويته للمثقف بالعموم إلا أنه سبب يفتح على المثقف الشاب بابًا نحو السؤال الشائك: من يقول بالفعل كلامًا صحيحًا.. لمن أُنصت ومن أتبع؟ أضع شتات المثقف هنا كفكرة عائمة تتطلب مزيدًا من التمحيص والنظر، وأعتقد أن من أهم حلول هذه الفوضى والشتات هو حدوث ثورة ثقافية محلية على مستوى أعلى مما نحن عليه الآن وذلك عبر استخدام شبكة الإنترنت وتطويعها إيجابيًا لتكون شريك أساسي مع الأسرة والبناء التعليمي ممثل في المدرسة للاحتفاظ بالمثقف وتعزيزه والمساعدة في تعويضه وبنائه ثم تقديمه وهو في حالة متقدمة. أشير إلى أن تفعيل ملتقيات للشباب المثقف مثل هذه المكتبة العامة في شبكة الإقلاع ومثل مواقع وأندية القراءة والمدونات المختصة بالحوار والتداول الثقافي يساعد في سرعة انبثاق هذه الثورة.
ضعف الأداة:
الشتات البنائي التثقيفي هو سبب رئيس في ضعف أداة الشاب السعودي المثقف، إضافةً إلى سبب آخر يتعلق بضخامة المحرك الترفيهي بتنوعه المتعدد، فوفرة وتجدد الأجهزة الترفيهية وهجوم الحياة المسلية ومسابقتها للزمن التكنولوجي والتحديات الأخرى حاصرت المثقف في حالة من التوقف والخمول، وأوحت إليه بعدم الحاجة أو الجدوى لمزيد من المعرفة والثقافة والبناء، وبات الشاب المثقف مدفوع ومُخوّل نفسيًا وشعوريًا نحو الترف الحياتي والركون إلى الجمود دون مواصلة ومجاهدة البقاء في حيز وجو الحياة الثقافية. إن ضعف الأداة الاستقرائية والتدوينية والتي تتكون لدى المثقف بكل حال بعاهاتها وامتيازاتها تُسهم في هروب المثقف كليًا من الحياة الثقافية أو تردده في هذا الطريق وكأنه يعرج في طريق نصفه مظلم. يتضح هذا الضعف في الفروقات التي يستكشفها المثقف الشاب في إشكالية الفهم والتحليل والاستجابة الإيحائية سواءً لنص علمي تنظيري أو فني أدبي، هذه الفروقات الأدائية تحمل بعدًا استنتاجيًا لمدى الاستفادة والإفادة من مجمل الركض الثقافي. إن قراءة ما بين السطور والخلوص للنتيجة عند قراءة الكتاب العلمي وكذلك سطوع الحاسة الذوقية عند قراءة العمل الأدبي هو علامة بينة على صحة وقوة الأداة لدى الشاب المثقف وهذا ما أعتقد أنه منحسر ومتراجع إلى الحد الذي نفتقد به وفرة وثراء الشخصية النقدية والاستقصائية في الكيان الثقافي للشاب المثقف. وحين نسلط الضوء على فعالية المثقف داخل محيطه وتأثيره الإيجابي أو السلبي باعتباره صورة مُخرَجة من واقع هذا العالم القيادي والمتبصر فإننا في ذات الوقت نسلط الضوء على مدى التحسن الحياتي بجميع جوانبه. فمثلاً، الشاب المثقف الذي يتعسر عليه فهم مجتمعه والحياة من حوله وبالتالي التخبط في التعامل معها والانزواء بعيدًا عن الأشخاص والأحداث ومواكبتها بقراءتها وتحليلها إنما يعكس هنا صورة سيئة عن هذه الساعات التي يقضيها في القراءة والركض الثقافي، وكذلك هي الصورة حينما نجد شاب مثقف سيء الخلق أو يعيش بازدواجية أو لا تساعده ثقافته على التغلب على مشاكله والعيش باطمئنان فإننا أمام صورة من صور ضعف أداة المثقف في تحقيق معنى الثقافة والتي هي هنا وفي شكلها الإخراجي مزيج من التبصر والنظر والتعامل وفقًا لما تمليه الآداب الإنسانية وشرائع السماوات، وهذه مشكلة عويصة!. وحتى نسعى لاستدراك هذا الخلل ومحاولة علاجه وإصلاحه، فإن هذا يتطلب الكثير من المصداقية الداخلية لدى الشاب المثقف نفسه، بمعنى أن ينظر لمدى الفائدة الحقيقية التي يقدمها من خلال ركضه الثقافي، فلا يمكن للثقافة بشتى تصانيفها وعلومها أن تصبح مجرد مواد إدخال دون أي بوادر إخراجية، انكفاء المثقف على ذاته في مثل هذه الحالة غير ممكن البتة، لأن الثقافة بطبيعتها عملية حيوية متناغمة ومتحركة ولا يمكن أن تبقى هذه الصفات أو تتحول إلى مواد صلبة وجامدة، حتى الثقافة في صورتها العبثية أو التي يعتبرها البعض تسلية كقراءة الروايات لمجرد تقضية الوقت واستجلاب النوم هي عملية تثقيفية بالضرورة والإجبار، فالرواية تحمل في طياتها أجزاء من العلوم فيُحصّل القارئ المعلومة بمجرد قراءتها، ويقوم الروائي فيها بدور المُحلل أو الراوي الذي يفسر ويركب ويقرّب ويبعّد فهو إذًا يُشرك القارئ لا شعوريًا في تحسين أداته القرائية والتحليلية وما يتبع ذلك من نواتج أخرى. إذًا؛ فمصداقية الشاب المثقف مع ذاته وقياسه للمدى الواقعي والحقيقي الذي حققه من خلال ثقافته يساعده كثيرا على تحسين أدواته الثقافية مستقبلاً، حينها يمكن أن ننتقل إلى استعمال ورش تدريبية ذاتية لتنمية وتطوير الأداة. ما الذي يجعل أحدنا يستطيع أن «يستذكر» معلومة ما في كتاب قرأناه جميعًا بينما يتعثر الآخرون في ذلك؟ ما الذي يجعل أحدنا يستطيع أن يُعيد «تلخيص» و»عرض» نتائج موضوع ما قرأناه جميعًا بينما يتعثر الآخرون في ذلك؟ الاستيعاب الصحيح يولد تخزينًا أمينًا للمعلومة، تكرار القراءة درجة أخرى من التحسين، القراءة المتفرقة عن الموضوع أو المعلومة أو الحدث أو الشخصية وهذا ممكن في ظل بحر متلاطم من الآراء على شبكة الإنترنت هو درجة إضافية في تحسين الأداة، السؤال والمناقشة مع أشخاص يمتلكون بعدًا ثقافيًا أوسع كالآباء أو الإخوة والأقارب والأصدقاء وما يدخل في هذا مما يُطلق عليه أندية القراءة في العالم الواقعي أو الافتراضي هو أيضًا يصقل الأداة القرائية والاستقرائية لدى المثقف الشاب. أما الأداة التدوينية أو الكتابية فهي برأيي أداة مقابلة وموازية للقراءة، بينما يعتبرها آخرون أداة إضافية ربما يستعيضون عنها بالحوار وإبداء الرأي دون الحاجة إلى الالتفات إلى هذه الأداة في بنائهم بل يقوموا بتجاهلها ونسيانها وطمرها مع امتداد العمر الثقافي. السبب الذي يتحجج به هؤلاء أن الكتابة أو التدوين هو موهبة خالصة لا يفتش عنها المثقف أو يكتشفها، وهذا برأيي هو عذر خادع يهرب إليه هؤلاء لأسباب عدة، فالكتابة يمكن أن نقول إنها موهبة في حالات مثبتة كالشعر والنص السردي المُتقن، ولكنها ممكنة لتكون أداة مُكتسبة ومتطورة في حالات كثيرة جدًا كجمع المتشابه والمختلف في كتاب ما وترتيبه ونقده والخلوص إلى مدى مصداقية الكتاب، كذلك الكتابة عن أحداث محلية اجتماعية أو تأملية في الحياة، أيضًا الكتابة التعبيرية عن كتاب كما في موقع قودريدز أو الكتابة عن قضية في المدونات أو الفيسبوك وغيرها. والقلم هو طوع وطيّع لقابضه ويأخذ مع الوقت في عملية تدرجية من التطور والنمو إلى الأفضل بكيفية لا يشعر بها الكاتب، المهم هو الإمساك بالقلم والمحاولة. من الأسباب التي تمنع البعض من البدء والمحاولة هو طقوس الكتابة فهي بحاجة إلى ذهن صاف ومشحوذ في ذات الوقت بقضية أو موضوع ما إضافة إلى حاجة الكاتب للصبر والاصطبار عند الكتابة حتى تتوالد الأفكار وتتقارب الأجزاء ليقود بقلمه هذه المسيرة الاسترسالية. إذًا ، فالصبر للكاتب هو ما يجعل الشاب المثقف يهرب من الكتابة والالتزام بقواعدها والمضي نحو تصحيح الأخطاء وتجاوز المعوقات حتى التمكن من هذه الأداة الماتعة والتي هي سبب تدوير العملية الثقافية، فالقراءة شرط الكتابة والكتابة شرط القراءة.
شخصية الإنتاج:
يقول عبدالرحمن بن الجوزي العالم المُصنف في تراتبية المتعلم ومتى يبدأ إنتاجه وما يقدمه لمكتبة العلوم والآداب الإنسانية في فصل «الخطة الناجحة» من كتاب صيد الخاطر: (وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر، لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال الحواس، وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره، ..... فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين، ثم يبتدئ بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم،.... فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، آخر التصانيف إلى تمام الخمسين). ويقول عبدالكريم بكار أن المتعلم بحاجة من ثمان إلى عشر سنوات متواصلة من طلب العلم والثقافة وبما يُقدر بمائة ألف وحدة معرفية، ويمكن له أن يكتب بعد أن يقرأ حوالي ألف كتاب أو 300 كتاب في عشر سنين من ذخائر الفكر الإنساني. الإنتاج إذًا هو المرحلة الفعلية للمثقف في صورتها النهائية، إذ بعد تعلم القراءة وفهمها سواءً على الطريقة الصحيحة أو الخاطئة ثم الكتابة التعبيرية والنقدية وكتابة الرأي سواءً أخذت في تطور سليم ينظر إلى التقييم بعين الاعتبار لإصلاحها أو تطورت حتى تعقدت وأخذت في تكوين أشكال زئبقية هلامية لا يمكن فهمها والاستفادة منها، يبقى أن ننتظر من المثقف أن يؤلف بين هذه التجارب ويجمعها ثم يُخرج لنا نتاج منتمي إلى ذات الكاتب الخاصة ونسيج فريد من نوعه يحكي قصة هذه التراكيب الثقافية في نفس الكاتب. أين تكمن المشكلة إذًا عند الشاب السعودي المثقف في هذه النقطة؟! إنها تكمن في الاستجابة لدوافع النفس العجِلة للإنتاج والمترقبة للإعجاب، هذه الاستجابة البريئة التي تجذب الشاب إلى الخروج من الستر الذي كان يمارس فيه تجاربه ويطور فيه أداته حيث تأخذه هذه الاستجابة إلى الهتك بتراتبية البناء الثقافي اللازم والزج بهذه التجربة الجديدة للقضاء على كينونة المثقف التي هي بحاجة لعمر ثقافي طويل حتى ينضج ويصبح جاهزًا ومتاحا ليكوّن عصارته الخاصة. إن هذه المشكلة في غاية الوضوح والتعقيد، واضحة لأنها نتيجة استعجال المثقف في تحصيل الأسبقية والظهور وحجز مقعد منذ البداية في حين أنه غير مؤهل لخوض هذه التجربة، ومعقدة لأن المجتمع الثقافي السعودي مجتمع في غالبه مُضَلِل فهو انتقائي جدًا في التركيز على فن ثقافي دون سواه، وهو مُضَلِل مرة أخرى حين يحتفي به كثيرًا ويخلق له جمهورا عريضا دون أن يحقق نقده كما يجب. إن عدد ما يُنتَج ثقافيًا في كل مرحلة أو دورة هو حصاد هائل لا يمكن أن يُنخل في منخل صغير جدًا فلا نعرف الغث من السمين، ويمكن أن نقول هنا بأن المجتمع الثقافي السعودي يعاني من ندرة النقاد المخلصين الذين تُعتبر منابرهم الصوت الصادق والمُوجه لحركة الثقافة داخل المجتمع. خَلْقْ الجمهور العريض بهذا الاحتفاء الأبتر من أي قراءات نقدية مكثفة يسبب حالة من الاستنساخ الإنتاجي المتزاحم، ولأننا لم نوجد نقادًا يحاكمون الأصل فمن الصعب احتواء هذا الاستنساخ ونقده كما يجب، ولذا فأنا أشبه الموقف وكأنه مرعى بلا راعي. فمثلاً الإنتاج الأدبي في فن الرواية أو القصة القصيرة عند الجيل الجديد من الشباب المثقف بات يحتل أولوية لدى الكاتب والناشر والقارئ على السواء وأصبحت الرواية تمثل الثقافة وانحصر التفاعل في هذه الزاوية الضيقة، حتى أنه يمكن أن نقول إن الحركة الثقافية الداخلية هي حركة روائية سردية بامتياز بسبب التركيز المتطرف والاحتفاء المتوالي هنا والمُجحف بحق الإنتاج الآخر، حتى إني بتُ أتساءل أحيانا أينه الشعر والشعراء الشباب وهو رفيق الرواية في الأدب. ولذا فإن الإنتاج الثقافي الآخر ينحسر على الرغم من مستواه المقارب لمستوى الرواية كعمل ثقافي شاب، وربما نشهد مستقبلاً مرحلة شبه انعدامه وندرته لأن الجو العام يسير باتجاه السرد والرواية كبديل ثقافي أساسي. خطايا الإنتاج الشاب سببه الرئيسي هو ضعف الأداة الثقافية فنحن هنا نسير في دائرة مترابطة يؤدي بعضها إلى بعض، البناء يصنع الأداة والأداة تصنع الإنتاج. ومن الأسباب الطبيعية ضحالة وقلة خبرة الشاب الكاتب بطبيعته الثقافية ومدى مصداقية ما يكتبه بالنسبة إليه، أي القناعات التي هي بحاجة لمزيد من التأكد والأناة حتى تمثل شخصيته الثقافية، وهذا ما نُطلق عليه الهوية التأليفية أو المسار الذي يقرر الكاتب أن يتخذه ليواصل عليه الإنتاج والبناء. إن الكاتب حين يقرر نشر عمله فإنه يعرض بضاعته على الجميع وهذا يعني أنه بات مقتنعًا أن لديه مادة جديدة يقدمها للمشهد الثقافي وهذا يعني أيضًا أن عليه الآن أن يستقبل التفاعل الراجع بكافة أطيافه حيث يُقدّم العمل إلى ما يشبه المحاكمة العلنية، هذا إن تمت المحاكمة كما ينبغي وأصبح من الممكن الالتفات إلى العمل. تَمَكْن الأداة الثقافية وثباتها في هذه المرحلة الأولية تعتبر خير انطلاقة، فعلى الرغم من قلة الخبرة الإنتاجية إلا أن هذا الوضوح يمثل مسار متين للسير عليه طوال مراحل الإنتاج، فمثلا الكاتب المفكر الذي يُنتج كتبًا تنظيرية فكرية حين يُقرر خوض كتابة رواية هو الآن يقع في خطأ اختصاصي، هو تمامًا كالصفحي الذي يكتب رواية، كل كاتب له أدوات مستقلة، ولذا تصبح الميزة الأبرز للكتاب بعد رحيله هي الغطاء الأكثف والأعظم من إنتاجه، على أني مؤمن بحق التجربة ولا ألغيه. من خطايا الإنتاج هو قبول المجتمع الثقافي للإنتاج غير المُصنف وغير المفهوم، فقد ولّد ضعف الثقافة فرصة عظيمة للكاتب الشاب أن يطرق باب الغرائبية والطلاسم لنغرق في خضم هذيان مَرَضي يستغل هذه الغرابة ليلج بوابة الإنتاج والإصدار. إن تفرعات الآداب والعلوم هي حيل جديدة للاحتيال على الأصالة وقوتها، فشعر التفعيلة هو في كثير من الأحيان حيلة من لا يُجيد الشعر العمودي، والقصة القصيرة هي احتيال بدائي على الرواية المُطولة كما في ألف ليلة وليلة مثلاً، وكتب تطوير الذات وأدبيات التعامل مع الأخر هي انشقاق عن النص الديني النفسي المُحَفز وما ورد في فضائل العظماء والعلماء الذين اختارهم الله لخلافة الأرض وعمرانها. من المهم أن ينظر الشاب السعودي المثقف إلى المستقبل أكثر من الحاضر عند إنتاجه فكثيرًا ما تحدث تحولات فكرية سببها المزيد من الاطلاع والمعرفة وتحدث إشكالية تعارض الإنتاج الأولي في مرحلة الشباب مع إنتاج المراحل المتقدمة، التعارض هنا ليس صحي بل هو مبرر لفقدان ثقة القارئ، والأفضل أن يكون الإنتاج هو اتساع أفق وتجديد رؤية وتطور وتحسن. التحولات الفكرية التي تصيب الكاتب لاحقًا وفي مراحل متقدمة أعتقد أنها تصبح صحية بشرط أن يُعيد الكاتب مراجعة إنتاجه السابق ويُصحح الأخطاء التي وقع بها، الأخطاء التي تتعلق بالمُنتَج كبناء وتفصيل بما يناسب المرحلة التي صدر فيها المنتج وفق الرؤية الجديدة، لا تصحيح الأخطاء باستبدال الأفكار والتنظير القديم بالأفكار الجديدة والتنظير الجديد، لأن هذا يشوّه حقيقة قناعات الكاتب وما يؤمن به ومن ثَمّ قناعات القارئ بخط سير هذا الإنتاج. فمثلاً كاتب كان يحقق في مؤلفاته الابتدائية معاني الصراع بين التيارات الفكرية المحلية ثم في مرحلة النضوج أخذ ينظر إلى المجتمع والنخبة باعتبارهم بناء واحد يسهم في بناء الأمة مهما كانت الاختلافات الأخرى، فعودته لتصحيح الإنتاج الأولي لا يعيبه ذكر التيارات وصراعها مع إضفاء روح الرؤية الجديدة والقائلة بالجسم الواحد والتعايش من أجل البناء، الخطأ هنا يحدث هو أن يستبدل تنظيره لما كان من صراع بين التيارات وإلغاء هذه الفكرة تمامًا والحديث بسلام عن رؤيته الجديدة، هنا يحدث خلل حين يبحث الكاتب عن المثالية وتمجيدها بأن يشوه تسلسله وتطوره الإنتاجي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.