قراءة في نماذج نقدية للشعر من منظور ثقافي الشعر فعل ثقافي تحتويه الثقافة ولا يحتويها ، فهو منتَج يتجاور مع غيره من منتَجَات الثقافة ، ونوع أدبي يتجاور مع الأنواع والصيغ الأدبية الأخرى ضمن مؤسسة الأدب ، التي تندرج بدورها في سياق المنتجات الرمزية وألوان الخطاب المختلفة في بنية الثقافة. ولهذا كان النظر إلى الشعر من منظور ثقافي ممارسة معرفية قديمة ، وهي ممارسة شملت البحث عن مغزى ممارسته إبداعاً وتلقياً ، والكشف عن طابعه ضمن سياق ثقافي معين ، وعن علاقته من حيث هو بنية لفظية مخصوصة بالسلطة وبالمجتمع ، وتحليل سياقاته التاريخية ، ودلالاته الثقافية. وتبدو مكانة الشعر ووظيفته ، عربياً ، من أكثر الموضوعات بروزاً واهتماماً في الدرس الثقافي ونقده. وعلى رغم تجليات مكانة الشعر ووظيفته المتعددة في نقدنا العربي القديم ، من خلال دراسة الأجناس والمفاضلة بينها ، على نحو ما نعرف من تقابل الشعر والكتابة ، والشاعر والكاتب ، أو في دراسة الأغراض الشعرية المختلفة وتبدل مراتب حضورها بفعل التطورات التاريخية للتلقي وجمالياته ، فإنها أخذت مساحة مهمة في الدرس النقدي العربي الحديث للشعر ، للأسباب نفسها المتراوحة بين منافسة أجناس جديدة لمساحة حضور الشعر ، كما هو الحال في بروز القصة والرواية ، واكتشاف تبدلات في التلقي وفي الحساسية الإبداعية للكتابة الشعرية ، إضافة إلى تجدد أسئلة نقدية ثقافية مسكونة بهموم النهضة والتقدم والحرية ، وبهموم البحث عن علل الإخفاق العربي في أكثر من وجهة. وقد رأيت أن أتناول هنا ، الشعر في مكانته ووظيفته ، وذلك بالوقوف على أبرز المواقف النقدية العربية الحديثة في هذا الصدد من المنظور الثقافي. واخترت من هذه المواقف أربعة: أولها موقف عالم الاجتماع العراقي الشهير علي الوردي (1912- 1995م) الذي يثير تداعيات مواقف أخرى ثقافية بخصوص الشعر ، سواء تلك التي تناثرت في التراث النقدي العربي ، أم التي جدت حديثاً في سياقات مختلفة ، والثاني محمد عابد الجابري (1935- 2010م) والثالث عباس محمود العقاد (1989 -1964م) والرابع عبد الله القصيمي (1907 -1996م) والخامس عبد الله الغذامي (1946-) والسادس أدونيس (1930-). واختيار هذه الأسماء تحديداً يعود -أولاً- إلى شهرتها في إعلان موقفها من الشعر سلباً أو إيجاباً ، و-ثانياً- إلى عَلَمِيَّتها البارزة في الحقل المعرفي والثقافي ، و-ثالثاً- إلى مراعاة الاختلاف والتنوع في المواقف وفي العلل والمقدمات التي انبنت عليها ، والمعاني التي تترامى إليها. والفرضية المبدئية تكمن في اختلاف الموقف النقدي من الشعر بوصفه نوعاً أدبياً ثقافياً ، بسبب وظيفته التي يتمثلها ذلك الموقف ، وتجاوره مع غيره من الأنواع ، وطموحات الناقد ومشاغله الفكرية والثقافية. ولهذا نطرح في المقدمة الأسئلة التالية: 1- ما دور الشعر؟ وما مجالات الحساب الثقافية-الفردية والاجتماعية لهذا الدور؟ 2- أي مرتبة يحتلها الشعر بين الأنواع الأدبية؟ وما أسباب ذلك؟ 3- هل تتساوى مرتبة الشعر ومكانته عند النقاد أم تتفاوت؟ لماذا؟ وما دلالة ذلك؟ 1- 0 تناول عالم الاجتماع العراقي الشهير علي الوردي الشعر في أكثر من موضع في كتبه ، وهي جميعاً تتوارد على الأفكار نفسها. وأبرزها مقالة بعنوان (الشعر والحضارة) ختم بها الجزء الأول من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) (1969م) وفصل بعنوان: (قريش والشعر) ضمن كتابه (وعاظ السلاطين) (1954م) بالإضافة إلى كتاب مستقل بعنوان (أسطورة الأدب الرفيع) (1957م). وفيها جميعاً يعبر الوردي عن موقفه من الشعر العربي ، الذي يبدو موقفاً سلبياً هجائياً ، بحيث لا يقتصر على وصف قصوره أو تعيين مثالبه ، بل يتعدى ذلك إلى ما يلحقه من ضرر بالثقافة العربية ، وقيمها الاجتماعية والسلوكية ، وتشويه الشخصية ، وتكريس التخلف والجهل والبداوة والاستبداد فيها. وتنبني أفكار الوردي حول الشعر العربي من منظوره في الدراسة الاجتماعية والثقافية الذي يؤكد على المنتجات الثقافية بوصفها مادة لتفسير المجتمع وتحليل شخصيته وظواهره. وغنيٌّ عن القول هنا أن الحقل المعرفي لكل من الدراسات الثقافية والنقد الثقافي نشأ حديثاً بصورة ملحوظة أول ما نشأ في سياق علم الاجتماع. هذا المنظور الاجتماعي يحيلنا في دراسات الوردي على سلسلة من الثنائيات ، أهمها: البداوة-الحضارة ، التقليد-التجديد ، القبيلة-الدولة ، السلطان- الشعب ، الفرد- الجماعة ، الكذب-الصدق ، الشكل-المحتوى ... إلخ وأحد قطبي هذه الثنائية سالب وذو مرتبة سفلى أو أقل أهمية في ضوء التراتبات القيمية المعتمدة لدى الوردي ، وهذا القطب هو الأول في الذكر بحسب ما أوردته هنا ؛ فالبداوة والتقليد والقبيلة والسلطان والفرد والكذب والشكل تأخذ مرتبة سلبية وأقل أهمية من الحضارة والتجديد والدولة والشعب والجماعة والصدق والمحتوى والشعر يدور في مدار القطب الأول ويتبادل مع مكوناته السلبية السبب والنتيجة. 1-1 إن البداوة لدى الوردي مرحلة تخلف وجهل وعنف ، ومجتمع فوضى وحماس انفعالي وحروب ، وعن هذه الصفات نشأت قيم ثقافية وعملية خارج المفاهيم المدنية والحضارية للكسب والتعلم والموضوعية والأمان والاستقرار. فلأن البدو أهل غزو وحرب بطبعهم ، أصبح -كما يقرر الوردي- (من العار كل العار على البدوي أن يكسب رزقه بكد يده وعرق جبينه ، فهو صاحب سيف يغزو به ويدافع به من يغزوه) ومن أكبر العار على أحدهم أن يقال إنه حائك أو صانع أو من أبناء حائك أو صانع ، فذلك في نظرهم يعني أن الرجل ضعيف يحصل على قوته بعرق جبينه كالنساء ، ولا يحصل عليه بحد السيف ، ومن هنا أطلقوا على العمل اليدوي اسم (المهنة) وهي من المهانة كما لا يخفى. والمجتمع البدوي ، لدى الوردي هو مجتمع القبيلة ، ولهذا يغدو التعصب لها والمفاخرة بها خاصية بدوية بامتياز. وقد اقتضت البداوة على هذا النحو الشعر فنشأ في العصر الجاهلي بدوياً مليئاً بالحماس والتعصب ومعبراً عن ثقافة بعيدة عن الحضارة. ويذهب الوردي طويلاً في الحديث عن قيمة الشاعر للقبيلة ولمجتمع البداوة ، فهو فارس القبيلة الذي يدافع عنها بلسانه ، وحاجتها إليه لا تقل عن حاجتها إلى الفرسان الذين يدافعون عنها بالسيوف والرماح ، والقبيلة تحتفل بولادة الشاعر ، وتعبر من خلال هذا الاحتفال عن مدى أهميته لها ، ومقدار دلالته على وجودها وكينونتها ، فهو الذي ينشر فخارها ، ويثلب أعداءها ، ويصنع فيها الحمية التي تستحيل إلى عصبية موغلة التمركز حول أناها القبلية. وهي ممارسة تفرق بين الشاعر وبين الموضوعية ، وتجعل الشعراء لا يبالون بحقائق الأمور ، ولا يكترثون للصدق والحقيقة ، وما يكترثون به هو نُصرة القبيلة ، فهي المحقة دائماً ، وهي الأفضل والأقوى والأعلى حسباً ونسباً ... إلخ ومن هنا جاء الوصف الشائع عن الشعر (أعذبه أكذبه) ووَصَف القرآن الشعراء بأنهم (في كل واد يهيمون) وأنهم (يقولون ما لا يفعلون) وكانت وظيفتهم الاجتماعية توجب أن يسيروا في أشعارهم على المبدأ البدوي القائل (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). 1-2 ويرى الوردي أن الشعر ضعف في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأنه لم يعد يجد مجالاً للعصبية القبلية والذاتية والفوضى التي هذبها الإسلام ووجهها خير وجهة. لكنه عاد إلى سيرته القبلية تلك في عهد الدولة الأموية التي احتفت بالشعر وأوسعت له ، وقربت الشعراء ، وأجزل لهم أكثر خلفائها الجوائز والأعطيات. وكان من أهم الظواهر الثقافية الاجتماعية التي تتبادل مع الشعر العلة ومعلولها عودة العصبية القبلية واستعار نارها في المفاخرات والنقائض والمدائح والأهاجي التي فاض بها تاريخ الشعر العربي في العصر الأموي. ووجد الشعراء مجالاً جديداً للقول لا يختلف عن القبيلة في استجاشته لدواعي الكذب والأنانية والمبالغة وهو مدح (السلاطين) فالشاعر يمدح متكسباً من دون أن يتحرى صدق ما يقول ، حتى لو كان هذا الممدوح أحرى بالهجاء والذم من أدنى معاني المديح. وكما كان البدوي الذي تبادل مع الشاعر إنتاج قيمه الثقافية ، يحتقر المهنة ويمتهن الغزو ، جاء الأمير الذي أخذ هذه الصفات عن البدوي في العلاقة نفسها مع الشاعر ، بعد أن استبدل الدولة بالقبيلة ، وأخذ يتبادل مع الأمير إنتاج قيمه الثقافية. ويمكن تمثيل موقع الشعر والشاعر في القلب من علاقة بالبدوي وبالأمير ، في مرحلتين تاريخيتين اثنتين ، ولكنهما بمنظور الوردي مرحلة واحدة ثقافياً. ولا يتوقف الوردي عند العصور القديمة في التمثيل على ما تركب في طبيعة الشعر العربي من سيئات ، من وجهة نظره ، بل يمضي إلى العصر الحديث ، واصلاً بين الماضي والحاضر ، والقديم والجديد ، وبشكل يدني الطرفين إلى نوع من التشابه والتساوي ، أو هو التطابق الذي يقلب الجدة إلى قدامة والحضور إلى مضي، ملغياً صفة التغير والانتقال في الزمن ، أو مستبدلاً إياها بتغير شكلي لا يمس الطبيعة المتأصلة في جنس الشعر العربي والموجِّهة لوظيفته الاجتماعية. فكثير من شعرائنا اليوم إذ تحولوا من مدح السلاطين إلى مدح الشعوب ، ظلوا يسيرون في شعرهم على الطريقة القديمة نفسها من حيث الاندفاع في الفخر والحماس وقلة المبالاة بحقائق الأمور ، فبدلاً من أن يجعلوا السلطان أعدل الناس ، اتجهوا نحو الشعب فجعلوه نبيلاً كاملاً في جميع صفاته ، وبذلك عادوا إلى حياة البداوة الأولى حين كان الشاعر يمدح قبيلته ويذم خصومها في الحق والباطل ، ولم يختلفوا إلا أنهم وسعوا نطاق القبيلة فجعلوه (الشعب) أو (الوطن) أو (الأمة). 1-3 ويبدو الشكل الشعري -لدى الوردي- جزءاً من أزمة الشعر العربي وأضراره. فالشعر إذا أحسنّا فهم ما قال الوردي يخبئ في جماله اللفظي تضليله وتشويشه الحقائق ، لأن (الناس حين يستمعون إلى قصيدة من شاعر لا يهتمون هم من جانبهم بأن يكون ما قال صدقاً أو كذباً ، كل اهتمامهم ينصب على جودة القصيدة من حيث روعة ألفاظها وانسجام قوافيها ، أي أنهم يطربون للشعر من ناحيته الفنية المجردة ولا يكترثون لما فيه من حق أو باطل. ويرى أنه اجتمعت في الشعر العربي خصائص لفظية ثلاث ، قلما اجتمعت في غيره ، ويصفها بأنها قيود لفظية وهي: القافية والوزن والإعراب. ويستنتج من هذا الوصف ما يؤول إلى قصور في معاني الشعر وانطلاقها ، فالشعر العربي لا يستطيع أن يقف في مستوى غيره من حيث المعاني ، ولا يستطيع أن يجري وراءها طليقاً كغيره. ولا ينفصل حديث الوردي عن أزمة الشكل في الشعر العربي ، عن التقليد الذي يراه نقيصة ، ويكرر تشنيعه على بقاء القديم على قدمه ، وعلى ما يرين من جمود على لغة الشعر ومعانيه. ويناظر بين التجديد المطلوب من الشعر وما اعترى حياتنا من تبدل وتطور ، فمساكننا وملابسنا الآن -مثلاً- لا تشبه مساكن القدامى وملابسهم. ويدعو إلى تيسير لغة الكتابة وإلى تجريدها من الزخرفة والحذلقة اللتين اتصف بهما الأدب القديم ، معللاً ذلك بأننا نكتب الآن للجمهور لا للطبقة الخاصة. ويهاجم في هذا الصدد من يسمي الأساليب المتكلفة والتقليدية بلاغة ، ومن يرى فيها علامة إبداع وشارة امتياز. معلناً أن التاريخ ماض وأن اللغة الشعرية والأدبية تسير بالضرورة إلى التبسيط والأساليب القديمة تُهْجَر على يد المجددين. ولكنه يحترز من أن يفهم من كلامه أن المقصود استبدال العامية بالفصحى ، ويرى أن اللغة العامية والأساليب الرنانة التقليدية تجتمعان معاً في الضدية للقومية وإضعاف ركن ركين من أركانها وهو اللغة.