تداولُ مصطلح الحداثة في المجتمعات العربية والنامية، يدمج –إجمالاً- بين معاني التنوير والتجديد والحداثة، وما بعدها، التي تمايزت اصطلاحياً في منبتها في السياق الغربي، لتصبح الحداثة لدينا إحالة على سياقات الطموح إلى وقائع معرفية واجتماعية تجاوز التخلف من حيث هو بنية فقر وجهل، واستهلاك وتقليد، وتسلط واستعباد. وذلك أن معاني الاستنارة والتقدم التي تولَّد عنها الفرد المسؤول مثلما تولد عنها الانفجارُ المعرفي الذي يستبطن شغفاً لا يُحَد بالاكتناه والكشف، والوعيُ بالزمن بوصفه حركة تغيير مستمرة، وقيمُ العقلانية والحرية وأنظمة العدالة والمساواة والحقوق الإنسانية، ما تزال قصية عنا وما نزال –عموماًً- نتحدث عنها دون أن نطاولها! إن الحداثة موقف وعقلية، وهي من ثم وعي منحاز إلى التجدد والانفتاح بقدر ما هي ممارسة، وهو وعي لا يختلف عن الوعي التقليدي تجاه الخوف على الهوية والمحلية والوطنية والخصوصية وسائر المعاني الذاتية التي لا تقوم أي حداثة حقيقية خارجها، والتي طالما أُدرِجت الحداثة –عربياً وإسلامياً- في عداد خصومها، إلا في زاوية الرؤية وحساباتها التي تحيل التقليد نفسه، مثلما تحيل التغريب، إلى موقع الضد لها. ولهذا يبرز الوعي الحداثي في الموقف النقدي الذاتي مثلما يبرز في صور القلق الفردي وتأزماته وأشكال الصراع الاجتماعي وما يغدو ترميزات وجودية أو اجتماعية تكنّي عن الطموح إلى التحول والتغيير، أو تمثِّل على الظلم والتسلط وانعدام المعنى والشعور باستدارة الزمن وثباته. وقد كانت الأشكال الأدبية الحديثة، ومنها شعر التفعيلة وقصيدة النثر والرواية والقصة القصيرة، اجتراحاً لمنطق التغيير والتحول الذي يتعالق مع الوعي الحداثي في الضيق بمنطق التقليد، وتأكيد الوظيفة الإبداعية والنقدية، ومعادلة الاتساع المعرفي، والتعبير عن شهية الكشف، وإعلان النزوع إلى الواقع. وسواء كان متن القراءة الحداثي شعراً أم سرداً فإن عامل الذات –بمصطلح جريماس- التي يمثلها، أي الفاعلية التي تتعلق بها الرغبة بالاتجاه إلى موضوع ما، هي ذاتٌ تمثِّل الوعي الحداثي، ليس بدليل ما تفصح عنه من رغبة وما تقفه من موقف فحسب، بل –وهذا هو المهم- بدليل العائق أو العامل المعاكس لها. وهكذا تغدو الواقعة الأدبية واقعة مجازية، ويغدو المجاز ممارسة إبداعية تقدِّم رؤية للعالم وافتراضاً للمعنى. وهي ممارسة تمكننا من رؤية شيء وفهمه وتجربته على ضوء شيء آخر، وهذا هو دور المجاز ووظيفته منذ أرسطو وعبدالقاهر الجرجاني وحتى جورج لاكوف ومارك جونسون. ومن هنا اتجهت فصول هذا الكتاب، إلى موضوعه وهو القصة القصيرة، لتقارب مجازات الحداثة التي تعني تمثيلات المعاني الفردية والاجتماعية والثقافية من زاوية الحداثة، وهي معاني الطموح إلى قيم ووقائع وأفكار تجسد ذاتية الحداثة، أي إنتاج المجتمع المحلي لها وممارسته إياها، ومعاني المعاناة لغيابها أو المعاناة لأفكارها التي لا تنفصم عن أشكالها وصيغها وابتكاراتها الأسلوبية. ويحتوي الكتاب على أربعة فصول، يتناول أولها مجازات العائق الاجتماعي من خلال نماذج من تشكيله السردي، ممهداً لمقاربة النصوص بمدخل نظري عن العلاقة بين المجاز والقصة والواقع، يوضح ضرورة المجاز في القصة، تماماً كما هي ضرورته في الأدب والكلام، وأن الواقع الذي يتعاطاه الأدب لا يعني الحقائق التجريبية والعيانية الماثلة بقدر ما يعني صورتها الذهنية. وهنا يأتي مجاز العائق الاجتماعي، إذ لا يكون القص إلا بمعارضة ما في بنية الواقع، بحيث تستحيل الثيمات الاجتماعية ذات البعد السلبي، من جهل وتعصب وفقر وتسلط وعنصرية وكبت ومحافظة... إلخ إلى مجاز، يُنتِج -بنائياً- وظيفة المعارضة والمناوأة والإعاقة. ومن ثم تأتي النماذج التي ترينا مجازات مختلفة يصنع كل منها صورة العائق الاجتماعي بملفوظ سردي، وعلى نحو يفضي إلى الكشف عن صيغة بنائية تتقاسم خصائص مشتركة على رغم الفردية الظاهرة في بنية كل نموذج على حدة. ويتناول الفصل الثاني مجازات الوعي النسوي، في قصص المرأة، حيث تخطِّي الكاتبات مشكلة العلاقة بالرجل إلى العلاقة بالثقافة، ومن ثم استحالة الكتابة إلى بوابة للخروج من دائرة العجز الذي يرادف الجهل ويحيل على انعدام الوعي بقيمة الفردية والذاتية الذي يؤهل الإنسان إلى مرتبة وصاية غيره عليه. ولذلك كان إتقان الكتابة، بالمعنى الأدبي والسردي تحديداً، منعطفاً في وعي المرأة بذاتها وبالثقافة، فكانت القصة مجلى تمثيلها لما يسحقها ويعوق وجودها. وترينا المقاربة لمجازية القصص المختارة كيف تنبني القصة لإبراز رؤية المرأة إلى جسدها بوصفه ملكية خاصة بها، وتراميها إلى الإقرار لها بالعقل والاختيار، وإلى الإقناع بالتشارك والتساوي الإنساني والاجتماعي. وتتناسل المجازات هنا في ترسانة تخييل وتأويل تقصد إلى تفكيك ثقافة الذكورة والفحولة على نحو من شأنه أن يحج هذه الثقافة بما تقوم عليه من امتلاك السلطة والعنف وتغييب العقل والاستسلام للخرافة والاتصاف بالعبث والغرائبية. وهو مغزى لا ينفصل عن تأكيدها في غير مرة وبأكثر من معنى للمدلول الإنساني الذي يبرز في افتقادها إلى الحب، وبحثها عن الرجل بمواصفات الاحترام والذاتية والاستواء، والتعاطف مع الفقراء والمظلومين وضحايا القمع والتوحش. أما الفصل الثالث فيتناول مجازات السرد ضد الأليف، وهو القروي والريفي وما يدور في إطار الشعبي أو البلدي. فمن اللافت لقارئ القصة السعودية والعربية، حضور القرية والصحراء ومتعلقاتهما الثقافية والاجتماعية في نصوصها. وهو حضور يقصد التأشير على دلالة لا يؤشر عليها الفضاء المدني، أو لا يبلغ منها ما يبلغه المكان الشعبي الذي يحيل على الأشياء والأحوال والتصورات الاجتماعية عارية من كل تهذيب، تعاني الكدح والقهر، في ظل مستويات متدنية من التعليم وثقافة الحقوق، وتقول الرجل واستبداده الذكوري بالعرف والقيم والأخلاق. ولهذا كان هذا الحضور سردياً ينبني بطريقة مضادة للمعاني الشعبية التي تبدو القرية والبادية فيها مرجعية الإحالة على الجذر الثقافي في نقائه وخلوصه، ومعدن التكوين المُعْتَمَد للأصالة الاجتماعية، ومن ثم مدار الأنس الاجتماعي بمديح الصحراء وتقريظ القرية، والثناء المطلق على تقاليد البادية وأعراف القرى و«سلوم العرب». ويقف الكتاب في هذا الفصل على عدد من النماذج القصصية التي تتوارد على الكشف والاعتراض على عدد من الخواص الشخصية-الأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية الشعبية، بما يجعل تلك النماذج صيغاً مجازية لتمثيل دلالات المناوأة للحداثة. ومن ذلك – مثلاً - الاحتشاد الاجتماعي ضد استقلال المرأة وفرديتها، والافتقاد للنظام والحقوق وثقافة العمل والوقت، والوقوف في قبالة المدينة، مجازاً على الهامشية وثقافة الغابة والتخلف. وهو المدار نفسه الذي يرينا التكوين الثقافي-الاجتماعي ذا الطبيعة القبلية الذكورية، وخصوصاً من زاوية الطبقية التي تأخذ تراتباً اجتماعياً وجنسياً. والعقلية الشعبية المتصلة بالخرافة والجهالات البدائية، في تخلف الوعي بالأسباب والعلل الطبيعية والبيولوجية، ومحركات التاريخ، والولع بسرية الحقيقة والقدرية. والمرأة المغبونة والضحية، في حرمانها من التعليم، وإكراهها على الزواج بمن لا ترغب، وخاصة كبار السن، واستبداد الرجل بها –أباً أو زوجاً...إلخ. والرجل القاسي القلب، الغليظ الطباع، ومن ثم الدلالة على العنف في أشكاله اللفظية والجسدية بوصفه خاصية مطبوعة في تكوين القرى والصحاري. إضافة إلى دلالات أخرى يبدو فيها القروي أو البدوي غراً ساذجاً محدوداً وسطحياًً وغير قابل للتغير. و في الفصل الأخير، تأتي مجازات تيار الوعي، وهي مجازات على الحداثة بالإحالة على ما تمثله أدبياً من وعي متقدم في الكتابة يؤكد على إبراز بنية اللغة السردية وتشكيلها تشكيلاً يقصد إلى الموضوعية من خلال تقديم العالم كما تراه شخصيات القصة للدلالة على محتواها الذهني والنفسي، وهو في طور انسيابه وفيضانه وتشتته ومن خلال أعماقه التي لا يحدها منطق. وهو تحول إلى مستوى متطور من التقنيات فارقت بها القصة السعودية –خصوصاً- طرق السرد التقليدي، منذ السبعينات الميلادية من القرن الماضي وما تلاها. وناتج ذلك دلالياً يطاول الرؤية الإبداعية نفسها التي بات همها تمثيل معاني فردية الإنسان وحريته وما يختبئ في وعيه. وهكذا تدلنا هذه الفصول على وعي جديد تتخلق به أمثلة القصص التي اتخذها الكتاب موضوعاً له، لكنه في المجمل جوهر وعينا الأدبي الحديث في مختلف الأنواع. وهو وعي يحتل مركز النصوص وعلة تشكيلها، فهي نصوص تهدف إلى شحذ الوعي وإيقاظه وإضاءته والانفتاح به على وقائع التطور الإنساني وعلى عملية التجدد المفتوحة. * مقدمة كتاب يصدر قريباً عن «أدبي المدينة» والدار العربية - بيروت.