الأدب كله نتاج موجَّه للعموم لا للخصوص ، فالقصيدة والرواية والمسرحية ... إلخ لا تنطوي على ما يخصصها لجمهور قارئ لا تتعداه ، إلا إذا لم يصدق عليها المفهوم الفني الأدبي الذي يحيل الأدباء إلى شخصيات عامة وخالدة بعموم إبداعهم وخلوده. لكن هذا العموم مضاد لمفهوم النخبة أو الخصوص الذي ينشأ في تلقي الأدب ونقده والتنظير له بما يصنع قيماً جمالية ودلالية مختلفة عما يقرأ العموم الأدب من أجله. وهي قيم تنعكس على الأدب ذاته لتنتج فيه الخصائص الموائمة لمتتطلبات النخبة وذوقها ، بسبب ما تمتلكه النخبة من قوة مرتبطة بمركزها الاجتماعي أو باتصافها بالمعرفة والعلمية والفهم ، وما ينتج عن هذا وذاك من تمجيد وحفاوة تحملهما جهارة الصوت النخبوي وقوته. وقد بدت هذه النخبوية المتحكمة أول ما بدأت في معنى النقد نفسه فهو مرتبط في تعريفه عربياً ، بدلالته اللغوية في «نقد الدراهم» أي تمييزها وإخراج الزيف منها. وهذا يعني التثمين وهو منح قيمة وثمن للأشياء ، بالمؤدى الذي ينطوي على أفعال الفحص والتمييز والموازنة والحكم ، التي تخصص فاعلها معرفياً وقيمياً. وفي الإنجليزية يكمن جذر كلمة Criticism في الكلمة الإغريقية Krinein التي تعني يميز ويختار ويتصل بها Kritikos وتعني قادر على التمييز ، وهي أصل للكلمة اللاتينية Criticus وما اشتق منها بالدلالة نفسها في اللغات الأوروبية. وقد انطوى النقد الكلاسيكي على معايير وقواعد واتجه بها إلى النتاج الأدبي وجهة تقويمية ، تصحح وتخطِّئ ، وتستحسن وتستهجن ، وتعلي وتخفض ، وتأخذ وتدع. وتداولت بعض الكتب القديمة من منظور البيان لسلطة النقد ، قولة خلف الأحمر: (إذا أخذت درهماً فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء فهل ينفعك استحسانك إياه؟) مجيباً بذلك من استهان به قائلاً: (إذا استحسنت الشعر فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك) . هكذا ينشئ معنى النقد وسلطته كما تمثلها مقولة خلف الأحمر تلك، دائرة خصوص يستقر الناقد في مركزها متحكماً في الإبداع ومانحاً له قدْره وقيمته وصفاته. وهي دائرة تأخذ ، عند ابن قتيبة ، صفة المهنة التي تحتاج كغيرها من المهن إلى (صَنَاعة وثِقَافة) ، ويُعْرَف أهلها -كما عند الآمدي في الموازنة- بأهل العلم بالشعر، وهم -بحسب القاضي الجرجاني- أهل قرائح صافية ، وطبائع سليمة طالت ممارستها للشعر فحذقت نقده وأنبتت عياره وقويت على تمييزه. أما مقتضاهم فهو ما يستدعيه نمط عال من (النظم) يوصف عن عبد القاهر ب (اللطافة والحاجة إلى الفكر) بحيث يؤدي إلى (تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبيين) . والشعراء أنفسهم يسلِّمون بذلك ، ولهذا كان يقول المتنبي: ابن جني أعلم بشعري مني. لكن الخصوص الذي يتراءى لنا في تلك الدائرة هو خصوص من جهة موثوقية هذا الشعر اللغوية والعُرفية التي تحيل على القديم وتقيس قيمة الشعر باستجابته لمعايير التقليد التي تعلو على القديم والحديث في آن ، وهي من غير شك قيمة نسبية وليست مطلقة ، وقيمة جزء لا قيمة كل. فالكل الذي لا تستغرقه تلك القيمة في نخبويتها وتقليديتها هو المعنى الأدبي في عمومه ، المعنى الذي يكمن في لذة التلقي وشهيته عند كل قارئ ، معنى القوة والتوازن والسلوى والعزاء والخبرة ، معنى أحاسيسنا ومشاعرنا ، ومعنى الفهم للتجربة الإنسانية والاتساع بالذات نحو المشترك الإنساني ، نحو الإنسانية الكاملة ، تلك التي قرر تودوروف أن الأدب يمنحنا بها معنى لحياتنا ، ويوسع عالمنا، بشكل لا ينوب عن القراء له ، بادعاء فهم أو ذوق ، أحد سواهم. وقد كان أرسطو في النقد الغربي مصدراً لتأكيد فعل النقد وسلطته ، واستحال إلى مركز يستدير حوله الكلاسيكيون إجمالاً ، وظل النقد يفرز باستمرار ما يؤكد فعله وسلطته خارج المنظور المعياري التقليدي. فالرومانسية نقدياً أحالت المعايير إلى فعل فردي ومن ثم أصبح النقد فعل اكتشاف للعبقرية يفضي إلى تأكيد حياة الشاعر في مقابل جماعته الاجتماعية والإنسانية ، وأن تكتب نقداً عن أديب ما من منظور الرومانسية يعني أن عليك امتلاك رؤية وفردية تؤهلك للاقتراب من فرادته الميتافيزيقية ، فهو الذي (هبط الأرض كالشعاع السني ، بعصا ساحر وقلب نبي) كما لخص صفته الرومانسية علي محمود طه في بيته الشهير الذي يعطفه في المعنى على المقولات الشائعة تجاه الشاعر والمتداولة لدى وردزورث وشيلي وكولريدج والعقاد وعبد الرحمن شكري والعواد وجبران ... إلخ. ولم تكن المقولات السيكولوجية عند فرويد ويونج وإدلر وغيرهم خارج هذا المدار ، فالناقد السيكولوجي صاحب دعوى على الأديب ، وهي دعوى ترهنه لقوى اللاوعي الباطنية التي لا يعلم كنهها غير الناقد المحلل ، والناقد بذلك يمتلك زمام المعنى الذي هو محتوى اللاوعي ودعواه مثلما هو نتائج توصيف عبقرية الأديب وامتيازه وعلتهما. والأمر نفسه يمكن أن نعاينه في النقد الجديد الذي قام على نظرية الخلق واندرج في الشكلانية وأصبح النتاج الأدبي في منظوره تكنيكاً وأسلوباً. فمنذ رتشاردز وبروكس نلمح في هذا المنظور نَبْذ قصد المؤلف واستبعاد علاقات العمل الأدبي بالحياة وتأكيد الغموض في اللغة الأدبية ، وهي فعاليات تقترن بالانحياز للأدب بوصفه أسمى من العلم. وهنا نلمح السلطة النقدية بوصفها ممارسة خصوص باتجاه الامتلاك للمعنى وتوجيه الفعل الأدبي ، وهي سلطة خصوص تدعم خصوصيتها بعزلها الأدب سواء وهي تدعي السمو له ، أم وهي تنفي أن يكون له معنى متحقق سوى الشكل كما هي عبارة مارك شورر. وقد قامت البنيوية بتعميق مقولات النقد السيكولوجي والشكلانية والنقد الجديد ، فمات المؤلف ، كما قرر بارت ، لتحيا جماعية النص ، وليحضر القارئ. وبذلك أصبح النص مفتوحاً على المعاني والنصوص وعلى القراء لا مغلقاً على معنى أو مؤلف ، وأصبحت الأنساق والبنى بجبروتها الذي يحكم الوعي ويحتويه هي مدار الفعل النقدي الذي يستمد منها ما يؤكد عظمة الفاعلين فيه وامتيازهم ، ويحيل نخبتهم إلى مستوى الأهمية والهيمنة التي تتراءى للعموم خارج المؤسسة النقدية. ولا تختلف عن ذلك المقاربات الواقعية التي تؤكد من جهتها الواقع لا النص ، والبناء السفلي لا الفوقي ، فهي في المؤدى الأخير قراءة نسقية تعظِّم النظرية أكثر من الواقع وأكثر من النص ، وتشرط المعنى والقيمة بالقناعات المسبقة التي تصادر المؤلف وتحتويه لتأسيس الممارسة النقدية بوصفها سلطة معرفة وسلطة جمال فوق الأدب وقبله. إن النخبة مصدر قمع وتسلط ، ولهذا كان التأكيد على اليومي والشعبي بقدر الحرب على النخبوية فيما بعد الحداثة ، لكنها بدورها تؤول إلى نخبوية أخرى من خلال النقض والتفكيك للأنساق والأنظمة والبنى الحاكمة ، ولذلك تخرج إلى السؤال المتصل والعبثية ، بحيث تجافي الشعبي في سطحيته ويقينيته ، والمتعدد في تنوعه وتعايشه ، وتُلْبِسُنا العراء القَلِق ، والفوضى العدمية. وعلى رغم ذلك فإن النخبة هي ما يحدد الشعبي والعام بقدر ما يحددانها ويفرزانها ، وما أنتجه النقد من مناهج ونظريات لمقاربة الأدب وتقويمه وإنتاج معانيه قيمة معرفية وثقافية لا يستهان بها، بل لا يمكن إنتاج معرفة إنسانية أو ثقافة من دون خصوص فاعلها المعرفي ونخبويته. لكن الخطورة هنا هي في احتكار النخبة للموضوع المعرفي وهو هنا الأدب ، ومن ثم بروز (أوهام النخبة) كما سماها علي حرب ، والشعور بأن (الأدب في خطر) كما حذَّر تودوروف. إن الأدب عموم لا خصوص ، وفيه الشعبي والنخبوي ، والخاص والعام ، أو الفرد والجماعة ، وأن يستحيل إلى شكل وتكنيك ، أو إلى أعراف وتقاليد ، أو إلى فردية أنانية ، أو إلى مناشدات جماعية ... إلخ فإنه يتخلى عن أن يكون أدباً ، أي يتخلى عن ما يصنعه لذاته من دواعي القراءة وبواعثها التي تجدها فيما تقرأ كل قراءة مختارة بذاتها لا مضطرة. والقارئ لا يقرأ ما يعرفه ولا ما اعتاده ، وفي الوقت نفسه لا يقرأ ما يقطع علاقته بكفاءته القرائية بالكلية. لهذا تغدو القراءة صعوداً مستمراً ، واتساعاً متصلاً ، وانفتاحاً على التنوع والاختلاف ، إنها فعل حيوي للوعي والخبرة والرؤية والمتعة ، وهي في هذا كله ممارسة ذاتية لا تقبل الوصاية ولا ترتهن للأحكام الناجزة. وأتصور أن صفة العموم والشعبية تنطويان ، في منظور الاعتراض على النخبوية ، على اختزال وتجريد بالغين ، فليس هناك عموم له صفة الكتلة الصماء المتجانسة والمتحدة.