موسكو، منذ اندلاع الثورة في سورية فبراير 2012، أبدت قلقا ملحوظا على مصير نظام بشار الأسد، الذي يعد آخر معاقل الروس، وقبلهم السوفيت، في المنطقة. موسكو منتشية بما حققته في حربها مع أوكرانيا، في فبراير 2014، باستيلائها على شبه جزيرة القرم وبعض المناطق الحدودية مع أوكرانيا التي يقطنها روس.. وكرد فعل لإعلان المقاطعة الاقتصادية من قبل الغرب، بسبب تلك الحرب، أرادت روسيا أن تصعد صراعها مع الغرب، لتقفز على حدود الجغرافيا وفواصل التاريخ، وتتدخل عسكريا في سورية لتصبح لها إطلالة مباشرة على مياه البحر المتوسط الدافئة، في اللاذقية وطرطوس، بل في دمشق نفسها. كما أن التدخل الروسي في سورية، له أبعاد تتعلق بطبيعة النظام السائد في الكرملين، الذي لم يتخل عن النزعة التوسعية لروسيا القيصرية، حتى في عهد السوفيت. كما أن ما قيل عن مفاجأة العالم، بل حتى دوائر صناعة القرار في موسكو، بقرار الرئيس بوتن بالتدخل عسكريا في سورية (سبتمبر 2015) إنما يعكس النزعة القيصرية الطاغية، على مؤسسات الدولة، رغم شكليات الديمقراطية، التي أخذت بها روسيا، بعد انهيار تجربة الاتحاد السوفيتي. بوتن يحكم بأمره، في الكرملين، تماما كما كان يفعل القياصرة، وكما كان يفعل سكرتيريو الحزب الشيوعي، طوال 70 عاما، من حكم البلاشفة. هذا انعكس مباشرة على ما بدا، وكأنه تأييد الروس لقيصر روسيا «الديمقراطي» في الكرملين، ليعزف إعلام الدولة الموجه، على «سيمفونية» التدخل العسكري في سورية، على أساس أنه ترجمة فعلية لروح الوطنية الروسية والمشاعر القومية للشعب الروسي... حتى الكنيسة الأرثودوكسية في موسكو باركت هذا التدخل، لتضفي عليه مسحة دينية! بالمناسبة، نفس هذه الصورة «الفلكلورية»، تكررت ترحيبا بقرار سيد الكرملين الملهم، بانسحاب معظم القوات العسكرية الرئيسية من سورية! بعيدا عن السلوك «الاحتفالي» هذا لقرارات خطيرة قد يتخذها سيد الكرملين «الديمقراطي» الملهم، في نظر شعبه وإعلامه، الذي قد يساعد كثيرا في فهم قراري التدخل والانسحاب العسكري من سورية، إلا أن التدخل، ومن ثم الانسحاب من سورية، تحكمه اعتبارات موضوعية أكثر. الرئيس بوتن كان يرى حليفه الأسد ونظامه على وشك الانهيار، وبسقوط الأسد ونظامه يسقط آخر معاقل الروس خارج جغرافيتهم القارية المغلقة والقاسية. الروس، في حقيقة الأمر، لا يهمهم الأسد ولا نظامه، يهمهم: ضمان استمرار نفوذهم في سورية. فإذا سقط الأسد ونظامه، بالقوة، أكيد لن تكون لموسكو نفس الحظوة التي كانت تتمتع بها عند الأسد ونظامه. إذن: الهدف من التدخل كان القضاء على الثورة، وكل أشكال المعارضة لنظام الأسد، وليس كما قيل حينها: لمحاربة الإرهاب (تنظيم الدولة وجميع فصائل الإسلام السياسي). لذا رأينا: كيف أن الطيران الروسي كان يصب جام غضبه على ما يعتبره الغرب قوات للمعارضة المعتدلة، التي في حقيقتها تمثل الخطورة الأساسية لنظام الأسد، كبديل مقبول من الشعب السوري والعالم. عندما تم إضعاف المعارضة المعتدلة ميدانية، وتمكين قوات النظام من تحسين مواقعها على الأرض، أضحت هناك فرصة أكبر للأسد ونظامه بأن يخرج بأي شيء من محادثات جنيف بين النظام والمعارضة، التي يرعاها مبعوث الأمين للأمم المتحدة الخاص للأزمة السورية ستڤان دي ميستورا، تحل مشكلة الفترة الانتقالية، ومعها الحرب. روسيا، وإن لم تكن أعلنت هذا صراحة، ليست مع بقاء الأسد، حتى أثناء الفترة الانتقالية، لكنها تبحث عن ضمانات لمصالحها الإستراتيجية في سورية، مع أي حكومة سورية قادمة. كما أن موسكو، لم يعد اقتصادها يحتمل تواجد عسكري مفتوح في سورية.. وهي تبحث عن مخرج لأزمتها الاقتصادية بسبب تدني أسعار النفط، ولن يكون لها من سبيل لذلك، إلا بالتفاهم مع الرقم السعودي الصعب، الذي يشكل الطرف الأكثر حضورا في الأزمة السورية مناوئا لها. كما أن موسكو لا تريد أن تفتح جبهة مع أنقرة، قد تتسبب في تصعيد على مستوى أممي، لا تقوى احتماله، بل هي لا ترغب فيه. أخيرا، وليس آخرا، موسكو لا تستطيع تحمل العبء الأخلاقي الثقيل من استمرار حملتها العسكرية في سورية، التي تجاوزت كل محاذير خيار الحرب، ولم ترعو من الإتيان بأفظع جرائم الحرب، التي تدينها المواثيق الدولية. كما لم يكن التدخل الروسي في سورية مفاجأة، كان انسحابها من سورية متوقعا. وفي كلتا الحالتين خسرت روسيا الكثير، والكثير جدا.