ها هو بوتن يفاجئ العالم كله بقرار الانسحاب العسكري من سوريا، مثلما فاجأه من قبل بقرار التدخل. وكما نجح في تبرير قراره الأول وتسويقه عالميا وتحقيق نتائج هامة من ورائه، يعتقد بوتن أن بوسعه ليس فقط تبرير قراره الأخير وتسويقه عالميا أيضا، وإنما يبدو كذلك على يقين من أن النتائج التي ستتحقق من ورائه لن تقل أهمية وستضيف كثيرا إلى ما تحقق بالفعل. كان قرار بوتن بالتدخل العسكري في سوريا قد أثار سيلا لم ينقطع من التحليلات والتعليقات، ومن المتوقع أن يثير قراره بالانسحاب سيلا أكبر من هذه التحليلات والتعليقات. غير أن معظم الكتابات التي تناولت هذا الموضوع حتى الآن نظرت إلى سياسة روسيا تجاه الأزمة السورية بعيون هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المنخرطة في هذه الأزمة، ومن ثم غلبت عليها مسحة أيديولوجية منحازة وعجزت بالتالي عن رسم الصورة الكاملة والدقيقة لهذه السياسة بأبعادها المختلفة، وهو ما سنحاول تجنب الانزلاق إليه في مقالنا هذا. من المسلم به أن روسيا الاتحادية ليست الاتحاد السوفييتي السابق، وأنه لم يعد للاعتبارات العقائدية المستندة إلى التحليلات الماركسية أي وزن في حسابات السياسة الخارجية لروسيا المعاصرة. ومع ذلك، يصعب فهم السياسة الخارجية الحالية لروسيا الاتحادية بمعزل عن الدروس المستفادة من حقبة التدخل السوفييتي في افغانستان، من ناحية، أو عن النهج التوسعي لحلف شمال الأطلسي، من ناحية أخرى. فالقوى الدولية والإقليمية التي كان الاتحاد السوفيتي يعتبرها معادية ومناهضة لتمدد نفوذه على الساحة الدولية تكاد تكون هي ذات القوى التي تعتبرها روسيا الاتحادية كذلك. وكما حاولت هذه القوى من قبل توظيف جماعات "المجاهدين" لوقف تمدد النفوذ السوفيتي في العالم ولإلحاق هزيمة عسكرية به في أفغانستان، ها هي تسعى حاليا لتقزيم روسيا الاتحادية ومنعها من استعادة دورها كقوة عظمى، بل يمكن القول انها قطعت شوطا بعيدا على طريق تحقيق تلك الأهداف، وصل إلى حد محاولة حصارها إقليميا بضم الدول المجاورة لها إلى حلف شمال الأطلسي ونشر الصواريخ البالستية فيها. ومن الواضح تماما أن بوتن أخذ على عاتقه أن يتصدى لهذه السياسة الأطلنطية، خصوصا بعد تمكنه من إعادة بناء النظام السياسي الروسي على اسس جديدة قابلة للدوام والاستقرار. في سياق كهذا، يتعين النظر إلى قرار بوتين بالتدخل العسكري في الأزمة السورية باعتباره جزءا لا يتجزأ من سياسة روسيا الخارجية الرامية لفك الحصار المضروب حولها من حلف شمال الأطلسي، وامتدادا طبيعيا لذات السياسة التدخلية التي تجلت من قبل في أزمتي جورجيا وأوكرانيا وتمكن بوتن خلالهما من تسجيل نقاط متعددة في مواجهته مع هذا الحلف. وفي تقديري ان القرار الذي اتخذه بوتن في سبتمبر الماضي بالتدخل العسكري في الأزمة السورية استهدف أولا وقبل كل شيء إعادة التأكيد على أن روسيا الاتحادية تخلصت من عقدة الهزيمة السوفيتية وانطوى على رسالة موجهة للغرب بضرورة التعامل مع روسيا باحترام وأخذ مصالحها على الساحة الدولية في الاعتبار منذ الان فصاعدا. ومن المثير للدهشة أن بعض التحليلات الغربية تعاملت مع هذا القرار باعتباره تحركا أهوج وغير مدروس وأنه يتيح للغرب فرصة جديدة لاستدراج الروس نحو فخ يشبه الفخ الأفغاني. غير أن بوسع أي دارس مدقق لهذا القرار أن يثبت أنه بني على حسابات تقول: 1- ان إدارة أوباما، والتي تدرك أن الحرب لن تحسم من خلال الضربات الجوية وحدها، لن تتورط بتدخل بري مباشر في سوريا مهما كانت التطورات على مسرح العمليات العسكرية هناك. 2- أن القوى التي تقاتل نظام بشار الأسد تتبنى أهدافا متناقضة بما يكفي للحيلولة دون إقدام الولاياتالمتحدة على تقديم دعم نوعي يمكنها من حسم المعركة عسكريا لصالحها. 3- أن الانتصارات التي حققها تنظيم داعش في كل من العراقوسوريا، والعمليات الإرهابية التي ارتكبها في بعض العواصم الأوروبية، خاصة في باريس، تعيد هذا التنظيم إلى صدارة المواجهة مع الغرب مرة أخرى، باعتباره يمثل خطرا على مصالحها أكبر بكثير من الخطر الذي يمثله النظام السوري الحليف لروسياوإيران، وبالتالي سيدفع المعسكر الاطلنطي، إن عاجلا أو آجلا، نحو إعادة ترتيب أولوياته والتخلي عن مطلبه برحيل بشار قبل بدأ المرحلة الانتقالية. ولأن بوتن كان على قناعة تامة بأن النظام المرشح لحكم سوريا، في حال سقوط نظام بشار الأسد، لن يكون باي حال من الأحوال نظاما صديقا لروسيا أو مراعيا لمصالحها، والأرجح أن تقوده جماعات إرهابية قد تشكل خطرا مباشرا على أمن روسيا نفسها، بالنظر إلى حجم المتطوعين لقتال نظام بشار من اصول قوقازية، فقد كان من الطبيعي أن يدرك أن قراره بالتدخل العسكري في سوريا يمكن أن يحقق له فوائد استراتيجية عظيمة، شريطة أن ينجح في تحييد الولاياتالمتحدة والقوى الإقليمية الحليفة وألا يشعل فتيل أزمة إقليمية أو عالمية تصعب السيطرة عليها، وهو ما تحقق بالفعل. تجدر هنا ملاحظة أن بوتن كان حريصا على أن يقتصر التدخل العسكري الروسي على ضربات جوية وصاروخية، وألا يؤدي إلى أي احتكاك مع اي طلعات جوية تقوم بها الولاياتالمتحدة أو الدول الحليفة لها فوق سوريا، وهو ما نجح في تحقيقه بالفعل. صحيح أن المخاوف من وقوع احتكاك عسكري مباشر مع تركيا تزايد عقب إقدام هذه الأخيرة على إسقاط طائرة عسكرية روسية، لكن يلفت النظر هنا أن حلف شمال الأطلسي لعب دورا فعالا في اتجاه التهدئة وليس التصعيد، وأن روسيا أثبتت أن لديها أوراقا كثيرة للضغط على تركيا وردعها عن نهج التصعيد، في مقدمتها الورقة الكردية. وقد ساعدت هذه العوامل مجتمعة على تمكين روسيا من حصد جوائز عديدة من تدخلها العسكري في سوريا، وذلك على كافة الصعد العالمية والإقليمية والمحلية. فعلى الصعيد العالمي برزت روسيا كلاعب قادر على التدخل في بعض الأزمات الدولية بفاعلية تفتقر إليها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وضمن ألا تعالج الأزمة السورية في غيابه أو على حسابه. وعلى الصعيد الإقليمي نجح هذا التدخل في دعم وتقوية مركز حلفاء روسيا الإقليميين، مثل إيران، دون أن يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بعلاقات روسيا مع القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة بل وربما يكون قد دعم هيبة روسيا لدى هذه الدول، بعد أن اثبتت أنها أكثر قدرة على التاثير في مسرح الأحداث من الحليف الأمريكي. وعلى صعيد الصراع المحتدم على الساحة السورية نفسها أدى التدخل الروسي إلى تمكين النظام السوري من استعادة ثقته بنفسه ومن تحسين وضعه الاستراتيجي على ساحة القتال بعد أن تمكن من إعادة تمركز قواته على الأرض، وبالتالي أصبح هذا النظام مهيأ لدخول المفاوضات من موقع افضل. لكن الأهم من ذلك كله ان التدخل العسكري الروسي أدى إلى تهيئة الشروط المواتية للتوصل إلى هدنة وإلى استئناف المفاوضات في ظل توقف فعلي لإطلاق النار، وهو تطور يحدث لأول مرة منذ اندلاع الأزمة السورية، وما كان ليتحقق لولا التدخل العسكري الروسي. غير أن روسيا ظلت مع ذلك تتحسب من حدوث أمرين يمكن في سياقهما فهم قرار بوتين بسحب قواته من سوريا: الأمر الأول: خشيتها من بقاء الأزمة السورية دون حل لسنوات طويلة، بكل ما يحمله ذلك من استنزاف اقتصادي في وقت تعاني فيه روسيا من أزمة اقتصادية حادة بسبب الانخفاض الكبير في أسعار النفط والغاز. الأمر الثاني: خشيتها من اتخاذ بعض القوى الإقليمية، تدخلها العسكري كذريعة لتقديم اسلحة نوعية اكثر تطورا لبعض فصائل المعارضة السورية على نحو يخل بموازين القوى العسكرية المتصارعة على الأرض، وبما يساعد على استدراج روسيا نحو الوقوع في مصيدة جديدة. قرار بوتن بالانسحاب جاء بالغ الدلالة في توقيته، وبالغ الذكاء في أهدافه ومراميه. فمن حيث التوقيت، يلاحظ انه اتخذ في توقيت مثالي، عقب التوصل إلى هدنة أوقفت القتال وسمحت بفتح خطوط امداد لإغاثة السكان المحاصرين وأقنعت كافة الأطراف بضرورة استئناف المفاوضات في جنيف، مما يجعل من الصعب على النظام السوري أن يعتبر القرار تخليا عنه أو تضحية به قبل حسم المعركة، خصوصا وأنه انسحاب جزئي وليس كليا ويعيد التواجد العسكري الروسي في سوريا إلى ما كان عليه قبل سبتمبر الماضي. أما من حيث الأهداف فهو قرار يبعث برسالة جادة إلى كل الأطراف الدولية والاقليمية مفادها أن روسيا جادة في البحث عن تسوية سياسية حقيقية وأن القضية الأساسية بالنسبة لها تتعلق بالدفاع عن مصالحها والحفاظ على أمنها وعلى موازين معينة للقوة في المنطقة وفي العالم، وليس تمسكا بشخص او بنظام حليف، وبالتالي يجعل من روسيا لاعبا رئيسا يمسك بأغلب خيوط الأزمة. قرار بوتن بالانسحاب العسكري من سوريا لن يشكل حائلا أمامه للعودة لاستئناف تدخله العسكري من جديد إذا لم تسفر المفاوضات الدائرة في جنيف عن حل يتوافق مع المصالح الروسية في المنطقة. حينها سيصبح بمقدور روسيا أن تلقي باللوم على تعنت الأطراف الأخرى.