أمام لغة باذخة وأسئلة قلقة نحاول سبر أغوار نصوص الألواح، نفتح ولو كوة في تآويل ناجي، تلك التآويل التي ربط نهايات النصوص والعالم بمتى فتحت مغاليقها ولفائفها.. «وتلك قيامتي التي لن تقوم حتى تزاح عن ألواحي لفائف التأويل» ... لعبدالله ناجي فتنة السؤال عن احتمالات حيوات داخلية في اللغة/ لغة الشعر، في ذرات التكوين ومجرات الكون ودهاليز السير والتاريخ.. له نبوءة الشعر، إلهامه، وليجند خيل حرفه ليركض في مدارات الرؤيا والرؤية ويصعد سماوات الخيال الشعري ليقطف لنا تفاحة الغواية وربما تفاحة الحياة... تلك الحياة التي رهنها بداية بقوله «إن اكتمالك بي هو احتمال لأكثر من حياة» وترك المخاطب بدلالاته المعنوية يسيح في عوالم التأويل، ولم يكن ذلك التأويل إلا اكتمال الروح والجسد، اكتمال الروح والروح، اكتمال الماء والطين، اكتمال الأرض والسماء، اتحاد الكون بمجراته في نظام محكم.. هكذا يصعدنا ناجي في مدارات نصوصه لنكتشف عوالم أخرى. مأزق التسمية لم يختر الشاعر عبدالله ناجي عنوان ديوانه «الألواح» إلا بعد أن تماس فكريا ولن أقول تناص - مع ثقافات عدة وكتب مقدسة ولعله في صوفيته هذه.. «صوفيتي بين اثنتين؛ خطيئتي، .. وفناء نفسي»، لعله بيت النية لكتابته بهذه التسمية رغم معرفته بما سيخالجها من ظلال دلالية تحيلها إلى معتقدات وتشكيك.. «وهمى رذاذ غوايتي فطفقت أخلع كل لبس ..... لوحت للآتين أين مضوا؟! هنا سيناء قدسي ...... «قرأت كوميديا الأزمان، هل حلم مأساتنا؟! هل خطايا الكون ملهاة؟! ...... «وجدت بالأمس.. مصلوبا على زمن ماض وأرقب أيامي وأنتظر..» ..... وتحصينا من منزلق تأويل التسمية استند الشاعر إلى قاعدة ثابتة انطلق منها ليشع برؤاه تمثلت في اللوح الأول «نشيد الابتداء»: سأمجدك إلهي.. لأني منك أتيت، وإليك أعود»، وفي اللوح الثالث عشر قداس «سكنت روحك .. هذا الكون ليس لنا، سألتك الآن يا موتي، متى ابتدأت نبوءتي؟ ولماذا كنت أنت.. أنا؟... وهنا يكفي لتطرح بقية تساؤلاته المشرعة والمشروعة. تعرف الألواح في اللغة بأنها: كل صفيحة عريضة من خشب أو غيره يقول الله تعالى: { وحملناه على ذات ألواح ودسر }.. وذات الألواح: السفينة. لوح الحجر / لوح الحضن: لوح مستو يوضع على الحضن والركبتين بدلا من استخدام المنضدة. لوح الموج: لوح رفيع يثبت إلى جانب قارب أو سفينة لصد الماء. اللوح: كل صفيحة يكتب عليها {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة} اللوح المحفوظ: سجل به علم الله وتقديره {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} ألواح الجسد : عظمه ما خلا قصب اليدين والرجلين اللوحان: دفتا الكتاب لوحا الشريعة / لوحا موسى عليه السلام: اللوحان اللذان كتب عليهما الوصايا العشر والصحيح أنهما عدة ألواح وليسا لوحين اللوح: العطش اللوح: الهواء بين السماء والأرض هذه بعض المعاني للألواح ماديا، أما معنويا فالسياقات تختلف والدلالات تنزاح إلى التحولات الزمكانية والإنسانية بالذات وهنا نشير إلى المقصود بألواح ناجي هي تآويله الشعرية حسب رؤيته وإن كنت أرجح المعنيين الأخيرين، العطش، الهواء بين السماء والأرض، ربما الشاعر لم يكن يدرك هذين المعنيين إلا أن رؤاها وإلهامه الشعريين يشيران إلى ذلك، مترجمين العلاقة غير المتصالحة بين الإنسان وذاته، بين الأرض وساكنها، بين اليابسة والماء، بين الأرض كمكان كجسد وبين الأرض كتحولات كيميائية وانزياحات شكلية، وبين علاقة الهواء في هذه الأرض والسماء؛ السماء بغيبياتها ودلالاتها، تمثل ذلك بوعي داخلي وهاجس شعري.. وهنا تظهر قضية نقدية مهمة وهي نبوءة الشعر فهل الشاعر متنبئ، ألواح موسى تلقاها من ربه، وألواح ناجي صاغها من إلهامه الشعري، تلك الحالة الشعورية التي تتلبس الشاعر فيصبح أداة توصل لما يتلقاها من بوح تلفظه لسانه أو يخطه قلمه دون تدخل منه، وهنا الفرق بين الشعر كصنعة والشعر كطبع.. وقيل قديما جرير يغرف من بحر والقرزدق ينحت من صخر. ...... سندلق الآن بعض أسئلة الألواح لنشربها سويا: «ظلام سيمحوني ظلام يعيدني.. ظلام!!! فهل هذي المجرة حوت؟ ..... أجوع! لماذا الجوع بي كل جنة مدادي ماء والصحائف قوت ......... لنحلق في أسئلة اللوح الرابع «رذاد كوني» فهي تعد بؤرة الديوان من وجهة نظري وتتكامل مع اللوح السادس في «نشيد الألواح» أنا لن أكون سوى أناي .. خلقت أشيائي بنفسي عزفي بكاء أناملي ودمي على أطراف كأسي يقول: «ماذا ستبصر.. حين تبصرني سوى تاريخ جنسي!!» ..... من أجل ماذا لن يكون دمي معي؟ من أجل جنسي؟! كن نفسك الأخرى لماذا... لا أكون أنا ورجسي؟! ... «أغيب.. تفيق أسئلتي، أفيق أنا.. فلا تأتي» «ظلام، جوع، مدن، ذهاب، إياب، قلق الرحيل، أين مضوا؟!، من أنت؟، ماذا في شمالك؟، ما بين شيطان وقس. ألواح ناجي تحمل ألق المرحلة وهي وإن كانت تكشف تماهي الماء والطين، والروح بصورها الثلاث «المطمئنة، اللوامة، الأمارة بالسوء»، المترادفات: السماء والأرض، الرجل والمرأة، الروح والجسد، وبداية الرحلة وحالة الطريق، إلا أن النهايات تظل مفتوحة في كل السياقات، تحملها الأسئلة على أجنحتها تظل محلقة بلا إجابة.. «في أقاصي الحطام .. المدينة تهوي على نفسها، تتأرجح الفصول، القوانين تدلق أحشاءها، والجهات تبيع ملامحها، ويضيع الزمن... قلق الغواية الأولى لآدم عليه السلام مازال مرافقا لبينه، قلق الغيب، قلق المصير، وبما أن الإنسان مخير في أعماله فسيظل معلقا في مشجب الغيب، بين قلق الوجود والعدم، تلك النهاية التي لم تأت بعد وظلت مفتوحة في النصوص في لفائف التأويل التي لن نحاول أن نفضها لتبقى قيامة ناجي خامدة إلى .... الأبد.