أمطار مستمرة وبرد قارس وأفواه أشبه بالمداخن تتصاعد منها الأبخرة. أسير بجانب الجسر .. أنتظر عربتي المعتادة.. لمحتها.. نعم لمحتها تحت الجسر .. فصرخت منادية مؤشرة بمظلتي تعالي، العربة قادمة.. لم أر تجاوبا فاقتربت منها.. أين دارك جدتي، أهو قريب من هنا.. رسمت قلبا.. ثم مسحته بقدميها.. هل تسمعينني ؟ نعم أسمعك؟ وما الذي يجعلك مستمتعة بهذا الجليد.. أطرقت رأسها في الأرض ولم ترد.. توقف المطر .. ساد الهدوء بالشارع.. وإذا بصهيلٍ من بعيد أمسكت بيدها.. انهضي فمنزلي قريب لنتناول حساء ساخنا.. فنفضت ذراعها بقوة.. دعيني يا ابنتي.. فأنا لا أخاف من قهقهات المطر ولا من شبح البرد.. عشت في العراء مع من أحببته... والذي أصبح زوجي فيما بعد.. وتقاسمنا أرغفة ولحوما من خلف «القمامة».. وعشنا على قروشٍ معدنية أكلها الصدأ.. لقد رماني زمنا قبل أن ترميني أما.. وكان الجسر ظلي وداري.. احتضنني بالربيع، أأكون خائنة وعديمة الوفاء بالشتاء.. ستموتين من هول العواصف وقسوة البرد.. هه هه هه لا تضحكيني يا ابنتي.. عشت هنا قرابة ال 40 عاما ولا أشتكي المرض ولا الجوع.. فالظلام ستارتي والشمس سراجي.. وصوت أقدامهم أعلى الجسر أشبه بمنبه صباحي.. معلنا أنه بدأ وقت الكفاح.. دعيني يا ابنتي فلست ارتاح لصوت التلفاز .. لأرى كذبات العالم.. ووعودا سافلة.. وتلك أنهار من الدم ورائحة العفن.. يوهموننا بالحرية.. لندفع لهم كل ما نملك حتى نشعر بالأمان بديارهم المثقوبة.. ونحن من سبقهم للحرية.. هنا لا أقفال ولا مساحات ضيقة.. هنا لا وقت.. لدي لاستقبال ضيوف قد صبغوا ملامحهم بألوان الزيف حتى أصبحت أشبه بالدمى.. هنا أقابل المارة وأدل الضائعين.. وأتناول فتات الخبز مع المتسولين.. وأضحك وأرقص مع المجانين.. أعلم أنك ستضحكين ولكن هذه هي حياتي بالفعل.. لا يهمني ما يقوله العالم عني.. الأهم أنني أنام بسلام.. استدارت مني ونامت مستلقية.. ووضعت قبعتها على وجهها لتخفي ملامحها الشاحبة وتظاهرت بالنوم.. صهل الحصان وضرب بحوافره منبها عودة المطر، فتركتها راكضة إلى عربتي.. وركبتها معلنة الذهاب إلى سجني.