مر هنا.. كعابر قلب.. يتأنق بالكلمات كعادته، يرتدي السماء وبداخل جيبه الأيسر مازال يحتفظ بعصفور وينبوع ورائحة سجادة مثقوبة بالنجوم.. زارني ذات بوح كتب يقول (هل أحدكم يذكرني؟ بائع العلكة مثلا، والنورية الفاتنة، أينعت دمعتها، لما قرأت كفي ومضت.. هل أحدكم. يضبط ساعته، ينتبه لغيابي؟ العابرون كل مساء، فتاة الحانة، درج البيت، صبية الحي، الذين ضحكوا من وراء ظهري.. لأنحني أكثر).. أعرفه جيدا.. ولكن... أنظر إليه أبتسم... أتنبه. أقول له "أنت! أنت!.. خليك بالبيت"!؟ يصمت قليلا.. ثم ينظر إلي ويقول "بل أنا الذاكرة المثقوبة التي مازالت تحتفظ برعود الشتاء وأمطاره، بالينابيع وقطعان الماشية التي ترن بأجراسها كلما مرت من هناك... من عيناثا أتيت.. وبقلب تلك الأم مازالت أعيش.. روحي بحر وألم ويدي سقف، وعطور الدنيا لم تنسني رائحة الطين القديمة.. ألوح له "أقفز فوق قدمين.. أناديه..." أتدخل هنا لتبوح.. عبر المكشوف".. ينظر لي بحزن ليقول "قلبي من ريش".. وبداخلي طفل يبكي وحدته.. مع الوقت يخمد بركان الحزن ولكنه أبداً لا ينطفئ بل يصبح جزءاً من الروح الشاعر اللبناني والإعلامي النبيل "زاهي وهبي" يدخل عبر نفق المكشوف ليقول لي "هل أنا حزين حقا إلى هذا الحد؟ يأتي من هنا ليبوح بعشقه لأم تعرف على الحياة من خلال سجادتها وصلاتها، يأتي هنا ليكتب مزيدا من أحلامه وأوجاعه التي مازال يحملها في قبضة كفه، يتذكر هنا الطفل "زاهي" الذي كان يركض تحت المطر، ثم يقف قليلا.. بأناقة شديدة ليقول "الفقر هو أخي الأكبر الذي علمني"، هنا ينادي المدن التي كانت كما النساء.. وهنا تتناثر أحلامه ليقسم بأنه لا يحسن التقاطها ولكنه مازال يحمل نصف قلبه الذي يحن لنصف آخر أخذه أحبته معهم. الشاعر الحزين والمتألم، والإعلامي الأنيق والنبيل "زاهي وهبي" هنا يتحدث عبر المكشوف عن خساراته وعن ذاكرته، عن الحب واللقاء. وعن أغنيات فيروز. وعن حيرة المطارات وتوقعاته.. وبعد كل ذلك أقاطعه لأقول انظر إلى الأضواء، انها هناك! ولكنه يقول لي "أضواء العالم لن تمحو من ذاكرتي ضوء قنديل الكاز المعلق في الحجرة التي كنت أسكنها". وهو يلقي الشعر فخاخ الذاكرة * الخطوات الثقيلة ماتزال هنا.. الأصوات نفسها والصمت المتقطع والأيام التي تتسرب من شقوق الحائط.. جميعها لم تزدنا إلا التصاقا بالذاكرة المنكسرة القديمة.. بأي ذاكرة كبرت الحياة بداخلك؟ وهل نجوت من أوجاعها وفخاخها؟ - لعلي ابن ذاكرة مثقوبة، كثرة الحروب التي عشتها والهجرات التي أُجبرت عليها بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل جعلت ذاكرتي أشبه بغربال تتسرب منه المياه سريعاً شأني شأن أبناء جيلي جميعاً ممن عاشوا مثلي أزمنة الحروب اللبنانية المتعاقبة، لكن تبقى سنوات الطفولة الأولى أشبه بسنام الجمل الذي أعود إليه كلما أصابني ظمأ روحي أو عطش وجداني، ولعل طفولتي الأولى التي كانت بصحبة رعود الشتاء وأمطاره وثلوجه وبرفقة الينابيع والعصافير وقطعان الماشية التي ترن بأجراسها صبحاً ومساء، فضلاً عن أمي بردائها الأبيض وسجادة صلاتها ويديها المرفوعتين نحو السماء في غرفتنا الترابية الضيقة التي كانت تتسع لتغدو مجرةً بكاملها بفعل تلك الأم التي ترقد الآن تحت تراب عيناثا في الجنوب اللبناني على مشارف الجليل الفلسطيني. بالله عليك سيدتي مَن ذا الذي ينجو من فخاخ الذاكرة وأوجاع حنينها، فما بالك إذا كانت على النحو الذي أشرتُ إليه. لا أعرف ماذا أقول «ففي كل يوم أتذكرها وأسأل نفسي» كيف تكونين هنا وتكونين هناك»!؟ ترويض الألم * أتستحق الحياة أن نعيشها بكل هذا الألم والانسحاب إلى الحرمان؟ ولماذا يبدو دائما هناك مكان لا نستطيع الوصول إليه مهما تقدمنا بخطواتنا إلى هناك؟ - نحمل آلامنا معنا تماماً كما نحمل آمالنا، نكبر رويداً رويداً ونظن أننا نجونا، لكن مع الوقت نكتشف أن الندوب الأولى التي تصيب الروح والوجدان والذاكرة لا شفاء منها ولا فكاك، لذا جلّ ما نستطيعه هو ترويض الألم وتدجينه لنقدر على هذه الحياة ولو قليلاً. أما هل تستحق الحياة كل هذا، فالأمر شائك ومعقد، وكثيراً ما أسأل نفسي: الحياة نعمة أم نقمة؟ خصوصاً وأنها دار فناء لا دار بقاء، لكن ما يعزيني ابتسامة طفلتي أو طفلي الصغيرين، تغريدة عصفور، رفرفة فراشة، نوتة موسيقى، ملوانة رسم، صوت مغنية يتلوى عند منتصف الليل، وفكرة قصيدة جديدة. لولا الشعر لكانت حياتي حقاً مضجرة إلى حد الرغبة بالرحيل. أما المكان الذي لا نستطيع وصولاً إليه مهما فعلنا فهو الحلم المستحيل، لو كانت كل الأحلام ممكنة لفقدت الحياة الكثير من سحرها وغوايتها. الوصول يعني الموت، والمكان الأخير الممكن والمتاح لجسدنا الترابي هو القبر. * كتبت (كمياه على المرآة، كجسر بين سحابتين، مقيم، بين فكي الاحتمال).. أتحب أن تدخل في متاهة الاحتمالات؟ أي انتظار وهبته لعمرك ونذرت أن تعيش لأجله؟ - وفي قصيدة أخرى أقول: "تُسعدني إقامتي الدائمة في الاحتمال"، تخيلي لبرهة انتفاء الاحتمالات واستقرار العيش على سوية واحدة معروفٌ بدايتها ونهايتها في آن؟ أظن الحياة لا تعود ممكنة البتة، يغريني الاحتمال، ويسعدني الانتظار، خصوصاً انتظار ما هو غير منتظر وغير متوقع، أحياناً الانتظار يكون أجمل من اللقاء نفسه، مرات كثيرة يكون اللقاء أقل متعة من متعة الاحتمالات المفتوحة على آفاق وتصورات لا تنتهي. في حياتي اليوم انتظاران جميلان ممتعان ومتعبان، الأول أن يكبر طفلاي أمام عيني وناظري وأنا أستعيد بهما طفولتي وأحلامي القديمة المتروكة عند قارعة الفقر والحرمان والحروب الكثيرة، والثاني أن تظل القصيدة رفيقة دربي تشاركني السراء والضراء وتخفف عني وطأة العيش وأثقال الحياة، إذ لولا الشعر لمت ضجراً أو انتحاراً. مع زوجته رابعة وطفليه دالي وكنز عصفور وينبوع * للأمكنة سطوة تموت وتحيا بأرواحنا، تعيدنا إلى ذات الرائحة التي تعيش فيها قلوبنا وتدمع من أجلها، تفعل بنا كل ذلك الأمكنة القديمة ولو عدنا إليها بعد أزمنة.. وماذا عن "بلدة عيناثا" ماذا بقي منها بداخلك؟ أمازال الحنين يأخذك إلى صديقيك "ينبوع وعصفور" في تلك الغرفة الصغيرة فوق الجبل الفلسطيني؟ - كما ذكرت مراراً أول صديقين في حياتي كانا عصفور وينبوع ماء. وُلدت في غرفة من حجر وطين كان يتفجر داخلها في فصل الربيع ذاك الينبوع الذي كنا نحفر له مجرى صغيراً قرب الفراش وكان رفيقي الأول، مثلما كانت طيور السنونو تشاركنا غرفتنا فتقيم أعشاشها داخلها. لا أظن فرصة كهذه تتكرر كثيراً في هذه الحياة، حتى لو شاء الكائن البشري مصادقة ينبوع وعصفور لما استطاع إلى ذلك سبيلاً وبسهولة، لذا لن أقول ان الحنين يسكنني إليهما بل أقول انني أحملهما معي في حلي وترحالي، وبالفعل فإن للأمكنة سحرها وسطوتها، تتغلغل عميقاً في الذاكرة وفي الوجدان، ولهذا فان عيناثا تبقى حاضرةً فيّ على الدوام، ولطالما رددت أن كل عطور الدنيا لن تنسيني رائحة الطين في غرفتنا العتيقة وكل أضواء العالم لن تمحو من ذاكرتي الضوء الشحيح لقنديل الكاز الذي كنا نضيئه بالأمل والصبر والسلوان. لكني مع ذلك لست ماضوياً بل أستعين بماضيي على حاضري وما تبقى من أيام آتية. بركان الحزن * ثمة ليلة واحدة.. تغير من حياتنا أو ربما قراراتنا. تنقض علينا فنستطعم مخالبها في القلب، تخطف منا الفرح، فيما تبقى الفاجعة تنزف.. أي ليلة عشتها ومازلت تستطعم حرائقها بداخلك ؟ وكيف تشفى من عتمة الطريق فيها؟ - فجر تلك الليلة التي لا أنساها جاء صوت الممرضة متهدجاً لتخبرني أن أمي التي رقدت ليلة واحدة في المستشفى قد فارقت الحياة. ثمة لحظات خارج المكان والزمان عشتها دفعة واحدة واستعدت شريط حياتها كفيلم سينمائي سريع، بركان من الحزن تفجر في داخلي وآخر من الدمع تفجر من عيني، وأسئلة كثيرة ارتسمت في خاطري، وعلامات استفهام برسم السماء. مع الوقت يخمد بركان الحزن لكنه أبداً لا ينطفئ، بل يتجمر ويتخمر بمرور الأيام ويصبح جزءاً من الكينونة والوجدان، ولعل ذكراها الآن هي القنديل الذي يضيء عتمة الطريق ويوقد شمعة في كل ظلام. * قلت في أمك (صديقة الرقيات، مسحت جبيني بزيت راحتها. ضئيلة القامة، عباءتها غابة، عصفورة حنان). ما الذي يرتعش في قلبك حين تعود مع هذا النص إلى وجه "أمك" وكفيها.. وجع الحزن الطويل؟ أم بكاء طفل وحيدا؟ - هو بكاء طفل وحيد ممزوجٌ بوجع الحزن الطويل، لا أعرف ماذا أقول أو كيف أقوله، نعم يرتعش قلبي مثل ريشة في مهب جوقة من الأعاصير، وأستعيد كفيها الضئيلتين الشافيتين اللتين كانتا ولا تزالان تضيئان الطريق. صدقاً لا يمر يوم واحد من دون أن أذكرها وأتذكرها وأقرأ لروحها الفاتحة والكثير من الشعر، كأن أقول: كيف تكونين هنا وتكونين هناك، في الغيمة وفي التراب، في الوردة وفي المحراب، بل كيف تكونين الغيمةَ والتراب، الوردةَ والمحراب، الهاوية وأعلى الجبل، الصخرة وآلام الظهر، يا حنان العتمة وشهقة الضوء، يا عين النسر ويا نعومة الرماد. الأغاني تحرك الجروح العتيقة وتعيدنا إلى أزمنة وأمكنة جارحة لفرط شفافيتها أشواق وورد * وفي نص آخر قلت (جارة السنونو، منديلها البحيرة، ماء دافق على المنحدرات، مرة عانقتني، نبت قمح في شرفتها، ونزلت سماء، طاحونة الضحك أمي.. نافورة ماء، أول الينابيع.. خاتمة النساء) الآن حين تقف أمام قبرها.. بماذا تهمس لروحها؟ وبماذا تبوح؟ وهل تزورك في منعطفات الألم لتمسح على رأسك وتهدهدك كما لم تكبر يوما ما؟ - أقف عند قبرها فأذرف دمعةً وكثيراً من الورد، واشم عطر ترابها، وأهمس لروحها بكل ما تختزنه نفسي من شوق وحنين، وأحدثها عن ابنتي كنز وابني دالي قائلاً لها ليتك هنا لتلاعبيهما وتقرئي على جبينهما بعضاً من رقياتك الحميدة، أو ليتك على الأقل حيث أنت تشعرين بوجودهما وتحرسين سنواتهما الغضة بصلواتك وأدعيتك إيمانك الرحب الفسيح. كل ليلة، قبل أن يغالبني النعاس أتمنى أن تزورني في المنام، أن تمسح جبيني براحتيها، أن تهدهد روحي وتبارك ليلي لتنقشع العتمة ويحل الضياء الأبدي. * شيء ما في المطارات يمنحني منفى وجودي يمكنني من تفكيك ملامح الناس فيها، وعد حقائب يسافرون بها ويعودون محملين بمآتهم بعد أن يدسوا تذاكر الأوهام بجيوبهم ويرحلوا... ما الذي تمنحه إياك المطارات حينما تسافر؟ كيف هي حقائبك حينما تملؤها بأروقة المدن ومخيلاتها؟ وأي المدن التي تشبهك؟ - للمطارات رائحة لا تشبه أي رائحة سواها، رائحة هي مزيج من عطور وأنفاس ولهاث وعرق، رائحة تبعث على الأسئلة والحيرة وتحفز المرء على مزيد من الفضول والتوقع، كأن يراقب الوجوه ويخمن: هذا عاشق مسرع لملاقاة حبيبته، وتلك امرأة فرغت لتوها من حكاية حب متعبة، وهذا رجل يمعن التفكير في ما ينتظره في غربته الجديدة، وذاك شاب يحلم بالتخرج من جامعته ليعود إلى حضن دافىء في وطن آمن مستقر.. تخيلات وتصورات كثيرة تبعثها المطارات في نفسي فضلاً عن مزيج من مشاعر الغربة وحب الاكتشاف معاً. أما المدن فتلك حكاية أخرى مختلفة تماماً، كل مدينة هي أشبه بكتاب جديدة أو رواية رائعة، ولكل مدينة سحر ومزاج يختلف عن سواها، والمدن عندي تماماً كالنساء، منها ما نقع في غرامه من النظرة الأولى ومنها ما يرواغنا ويلاعبنا ويخادعنا، منها ما ينفع للصداقة ومنها ما لا يصلح إلا للحب، ومنها ما لا تستطيعين معه لا هذا ولا ذاك. بيروت تشبهني بتناقضاتها وقلقها، فلورانس بانحيازها للغواية والجمال، فيينا برقتها وهدوئها الفاتن.. وأسمح لنفسي القول ان أفضل خارطة لاكتشاف مدينة جديدة هي رفقة امرأة من نسائها! ولدت وفي فمي ملعقة من تعب، والفقر كان معلمي ومحرضي الأكبر اختراع العزلة * كتب واسيني الأعرج (قلوبنا لاتعرف التواطؤ.. عندما تتعب. تصمت وتنسحب). أي القلوب التي تواطأت عليك فمشيت إلى الانسحاب؟ أي صمت يسرقك من الضجة لتعيش لحظة العزلة والكلام الذي لا يسمعه أحد؟ - لحسن حظي أنني قادرٌ على اختراع عزلتي وسط مهرجان من البشر. جلّ ما كتبته طوال مشواري مع الحبر والورق كتبته إلى طاولات المقاهي، فور بدء الكتابة أنفصل كلياً عن المكان والزمان، أعيش لحظة سحرية لا مثيل لها، لكني حقاً لا أستطيع هذه العزلة داخل غرفة موحشة ومغلقة أو داخل مكتب بارد ومرتب، أصنع عزلتي وسط الناس لأنني أحب الحياة وضوضائها، تؤنسني همسات البشر الى الطاولات المجاورة، أنفصل عنها حين أريد وأعود اليها حين أريد، انها عزلة في قلب الحياة! أما القلوب التي تواطأت فكثيرة، منها ما كان تواطؤاً جميلاً ممتعاً، يشبه تواطؤ الأم مع أبنائها، ومنها ما كان مؤذياً قاسياً دفعني فعلاً إلى الصمت والانسحاب. فعلاً معه حق صديقنا واسيني الذي أمتعني ذات لقاء بحوار مترسب في قاع الذاكرة لفرط عمقه وجماله. السنوات الخضراء * غنت فيروز (سألوني الناس عنك ياحبيبي، كتبوا المكاتيب وأخذها الهوا.. بيعز علي غني ياحبيبي. ولأول مرة مامنكون سوا) أيمكن لأسئلة الآخرين العشوائية عن من أحببناه أن تحرك جراحنا التي نحاول دائما الهروب منها؟ أيمكن للأغنيات التي تحمل حكاياتنا أن تحرك ذلك الجرح بعد الفراق؟ - للأغاني مفعول العطر، نشم رائحةً ما فتحيلنا فوراً إلى أمكنة ولحظات، إلى أيام عشناها وكنا فيها مثال الشغف والحماسة والحب المتقد الوهّاج. كلما سمعت فيروز شطرني صوتها نصفين وأعادني صبياً شقياً يركض تحت المطر، ينصبُ أشراكاً للعاصفة أو يطارد فراشتين، ورجعت عاشقاً يافعاً يرتجف في انتظار اللقاء الأول والقبلة الأولى. صوت فيروز صديق الأيام الصعبة والليالي الموحشة، والشاهد الدائم على قصص الحب والفراق، فكيف لا تحرك الأغاني الجروح العتيقة ولا تفتق ما التأم منها وتبلسم، كيف لا تعيدنا إلى أزمنة وأمكنة جارحة لفرط رقتها وشفافيتها. آه ثم آه ثم آه من سؤالك يا عزيزتي فتح الذاكرة على مصاريعها وأعادني إلى سنوات خضراء يانعة ملأى ثماراً وزهراً وعطراً وسحراً وابتسامات دامعة! أناقة الحب * كيف تتأنق للحب حينما تواعده عند سور الحديقة؟ أتجلسه على مقعد مجاور للشوق أو تتركه يختار مقعده بنفسه؟ - أتأنق للحب كما لا أتأنق لسواه، أؤمن أن الحبيب يستحق منا الذهاب لملاقاته بأبهى حلة، لكن الأناقة ليست خارجية فحسب، بل تنبع أولاً من الداخل، من العاطفة الكامنة تحت الجلد والنيران المتأججة في العظام، الأناقة هي أولاً سلوك يومي ونمط عيش وأسلوب تعامل مع الآخرين، فكيف اذا كان الآخر هو الحبيب نفسه. لأجل امرأتي أزين قلبي وصوتي وهمساتي الخافتة وروحي العنيدة وأدعوها للجلوس على مقعد قلبي لا إلى جواره، حينها يصير قلبي حديقة وسوراً وسياجاً يحميها من الحسد والغيرة ومن كل ما يمكن أن يصيبها في حضرة الوجد والعناق. غواية الحياة * كتبت (الليلة سوف أدعو الريح إلى العشاء، أراقصها، أصارحها بما عندي، لم أعد أخشى أحدا، تجرني كسرة ظاهرة في آخر الأحلام).. أمازلت تراقص الرياح حينما تشتهي أن تقف عند آخر الأحلام؟ كم حلما خلفته وراء ظهرك ومضيت؟ - تناثرت الأحلام مني كما يتناثر الدقيق على شوك في يوم ريح. عند مفترقات العمر الكثيرة خسرت أحلاماً وأمنيات وتركت قصص حب ونساء باكيات، لم أكن في ذلك عامداً متعمداً بل هي الحياة وسنتها التي لا يقوى عليها أحد، لذا نحاول بالشعر، بالقصائد، بالأغاني والموسيقى استعادة بعض ما سقط منا على الطريق، لكن الطريق متعبة وشاقة فكيف لا نخسر مواقيت ومواعيد وأحبة وكيف لا يصير دمعنا ورداً على سياج الحدائق، ومع ذلك أظل أراقص الرياح وأغويها، بلا غواية تغدو الحياة مملة قاتمة، الغواية مفتاح أساس كي لا نشعر بالاكتمال أو الاكتفاء فنكون كمن يحكم على نفسه باليباس أو التصحر والموات. صداقة الفقر * ليس هناك أقسى من فقد يقذف بداخل قلوب الفقراء حجارة الجوع والتعاسة والبؤس ثم يقفل الباب عليهم ويمضي.. بماذا تشعر حينما تشاهد الفقراء؟ أيمكن للفقر أن يكون يوما صديقا وأن يخلص لنا؟ - لطالما كان الفقر صديقي، ظل لصيقاً بي حتى مرحلة متقدمة من عمري، ولولاه لما كنت ما أنا عليه اليوم، بكل ما يعنيه الذي أنا عليه من ايجابيات وسلبيات. لم يطرق الفقر بابي كما أي زائر آخر بل ولد معي، ولطالما رددت أنني وُلدت وفي فمي ملعقة من تعب. لكن الفقر كان حقاً معلماً ومحرضاً كأنه الأخ الأكبر الحاني، لولاه لما اتقدت في نفسي شعلة التحدي والإصرار والرغبة العارمة بتغيير واقع الحال.لا اغالي حين أقول ان الفقر كان دافعي الأول للقراءة والكتابة ومحرضي على اعتبار الكتاب زوادة ثمينة في رحلة الحياة الشاقة. حتى اليوم أكثر ما يدفع دمعتي للإطلالة مرأى إنسان عاجز أو مظلوم أو غير قادر على تأمين لقمة العيش. فالفقر ليس دائماً صديقاً لأنه حين لا يلعب دور المحفز والمحرض يغدو عدواً شرساً وقاسياً يودي بأصحابه إلى التهلكة، ويظل فقر العقل أشد أنواع الفقر وأكثرها مضاضةً. دالي وكنز * حينما تنظر إلى وجه أبنائك (دالي وكنز) ماذا تلمح فيهما من أيام وحقول؟ وأي المخاوف التي تخشاها عليهما؟ - يقول الحديث الشريف: "الأبناءُ مجبنةٌ مبخلة"، وبالفعل لا خوف يسكنني ويرافقني ليل نهار مثل خوفي على كنز ودالي، أتمنى أن يأخذ الله من عمري ويضاف في عمريهما. يا الله، كم أحلم لهما بأيام رغيدة وبلاد آمنة. لكن من أين نأتي بالأمان في هذي البلاد القاتلة والمقتولة وفي غمرة هذا التشظي المميت الذي يصيب بلاد العرب. حقاً نكاد نفقد مقدرتنا على الاحتمال، ولولا شغفي بهما وحبي لهما وخوفي عليهما لما كنت قادراً على الاستمرار في العمل والكد والكدح، لقد سئمت حقاً الشغل والوظائف والمهام، لكني كلما عزمت على الانسحاب والتوقف أجدني قد بدأت من جديد كرمى عينيهما المفتوحة على جداول وحقول وبساتين لا عد لها ولا حصر. صوتهما موسيقاي وهمسهما صلاتي إلى الباري عز وجل كي يحفظهما ويحفظ كل أطفال الكون. كتبت يوماً لابنتي: أصلي خلسةً كي لا يسمعني أحدٌ سواه، لا يحفظك أحدٌ سواه، كي لا تقعَ الحربُ مرةً أخرى، لتظلَّ سماؤك ماطرةً وأيامُك مشمسةً، ليكلفَ قمراً آدمياً بحراسة نومك، ليرحلَ الغزاةُ قبل أن تتعلمي المشي، ليسقطَ الطغاةُ قبل أن تنبتَ أسنانك الحليب. نصف قلب * الحزن أن تعيش العمر بأكمله وأنت بنصف قلب وبوجع كامل.. عيناك لا تشبع من الحزن.. لماذا؟ ألديك نصف قلب؟ أين النصف الآخر؟ - نصف قلبي الآخر أخذه معهم أحبة وأصدقاء رحلوا عن هذه الدنيا تاركين حسرات لا تنتهي وأحزان لا حصر لها. ماذا أفعل اذا كان الحزن بصمتي في هذه الدنيا، نحن قوم نتوارث الشجن أباً عن جد، لكن شجني مثمرٌ والحمد لله، لولا هذا الشجن الناعم الشفيف ربما لما كتبت حرفاً واحداً، انه المصهر الذي يعيد صياغة كل ما أعيشه وأختبره، ليتحول داخله إلى شعر ونثر وأمنيات طيبة لجميع بني البشر. الموت السريع * الموت الأجمل هو الموت الذي يزورنا ليأخذنا معه ويرحل دون أن يترك لنا فرصة التفكير أو الخوف أو خوض حكاية مرض.. أتخشى المرض الذي يذكرك بمصير الموت؟ أي موت سلمك للألم بعد أن جعلك شاهد على حكاية فقد؟ - كانت والدتي رحمها الله تردد دائماً: "يا الله، يومٌ صداع، ويومٌ وداع، ويومٌ على أكتاف الرجال"، أي تتمنى الموت السريع المفاجىء كي لا تمرض ولا تعاني. وبالفعل فان الموت الأجمل هو الذي يأتي بغتةً، بلا مقدمات أو أجراس إنذار. صراحةً لا أخشى الموت، أعتبره مجرد ممر إلى حياة أخرى، في إحدى قصائدي أقول: "الجسدُ ليس نهاية مطاف، المادة ليست قدراً، القلب ليس مجرد مضخة، الموتُ عتبة، فقط عتبة"، وهذا إيماني الراسخ، الموت مجرد عتبة نتخطاها إلى حياة أخرى عساها أخف وطأة. لعل هذه القناعة تخفف منسوب اللوعة والحسرة على من رحلوا، لكن يظل الفراق صعباً وقاسياً وباعثاً على الدمع والأسى. أما المرض فيخيفني ويرعبني، أخشاه جداً ولا أتمناه لمخلوق في هذه الدنيا، وغالباً ما أردد الحديث الشريف: "الصحة والأمان نعمتان مجهولتان". وكم أتوسل إلى الباري عز ووجل أن يديم هاتين النعمتين علينا جميعاً. الموعد * ماهو السر الذي لم تقله يوما لأحد؟ - لم يحن موعد قوله بعد. فيروز في مقهى واسيني الاعرج داخل زيتونة معمرة في تونس زاهي وهبي