كلما تحرك في زوايا المكان زاره هناك الوقت الذي مضى ليذكره بعمر سابق مر كلمح البصر لايدري أعاشه بكل ذلك القدر من الذكريات التي تمر به سريعا لتنقض على عالمه الداخلي وتعيد نقل الصورة كما هي، كلما وقف لدى الشرفة في باريس تأمل الرصيف المجاور لبيته في جو شتوي غارق بالبرودة ليأتي يلامس قلبه الذي مازال يحتفظ بكل الحكايات والفصول وبامرأة عاشت معه لأكثر من سبعة وخمسين عاما ولم يسأم من طول الطريق معها، في العزلة وقف يتأمل هؤلاء العابرين بأجزاء من حياته التي مرت سريعا وكأنها تمتطي جواد الزمن حيث الأوجاع والحنين وبعض التفاصيل الصغيرة التي كلما طرقت عليه باب الروح فتح القلب لها وأجلسها لدى المقعد المجاور للمدفأة حتى تشفى من بردها. الحياة والحب وهم.. والموت هو الحقيقة الشامخة في تلك اللعبة الناقد والأديب عابد خزندار.. من باريس يكتب للمكشوف ليقول لي «عشت طويلاً ولكنني في كل مرة أتوقف لأتساءل كيف عشت هذا العمر وما الذي كان يشبهه « بوجه يكسوه ملامح الهدوء والرضا يبوح بالأشياء الكثيرة التي مرت في حياته ووخزت قلبه بالحزن، عن عزلته حينما دخلها بعد أن منع من السفر لتسع سنوات، ثم عشر سنوات في عزلة مشابهة لها في باريس.. أيام باردة قال عنها بأنها احتجزت عزلته في الروح والجسد ولكنه بقي حراً من الداخل لم يعش تلك العزلة الطويلة إلا لأن مصيره أن يكتب.. هنا «عابد خزندار» يعترف لي بأن عواطفه التي كانت تجول وتصول بداخله كانت من ورق، وبأن الأوراق في دفتر المشاعر كثيرة سوى من الحب الحقيقي الذي هو في نهاية المطاف «وهم»، فالحب والحياة لعبة واحدة تدار بذات الطقس الذي يدفعنا لأن نعيش الوقت موهومين بأشياء لاتأتي أبدا. عابد خزندار... عبر المكشوف.. يبوح باليد التي يشتهي دائما أن تمسح على رأسه لتقول له لاتحزن، ويبكي حينما يتذكر رفقاء العمر الذين ماتوا ويشتاق حينما يتذكر زوجته.. ولكنه بعد كل ذلك.. يتحدث ويبتسم ويحزن ثم ينظر إلينا ليقول»ماهذه الضجة الكبيرة.. لاأسمع شيئا ولا أرى الضوء بداخل النفق».. منى عابد خزندار مئة عام من العزلة * في وقت ما.. حينما نحتاج إلى أن ندخل العزلة، فإن شيئا ما يأتيك في الظلام لينبش فيك كل التجارب وبعض الورق الذي خبأته في القلب.. في العزلة.. هناك.. نجد الطريق، وربما نتيه عبر الممرات، نقف ولكن مامر بالروح لايتوقف أبداً.. كم عزلة عشتها لتكتشف بعد أن تخرج منها بأنك مازلت الرجل الذي لم تلتقه بعد؟ بماذا يذكرك وجه وصوت «عابد خزندار» حينما تسمعه في الوحدة؟ - أكاد أقول إنني عشت مئة عام من العزلة، تماما كما قال جابرييل جارثيا ماركيز في روايته بهذا العنوان، والعزلة لا تقاس بالسنين وإنما بالشعور والإحساس، وهناك عزلة فعلية عزلة الجسد، وعزلة نفسية هي عزلة النفس، وقد عشت الاثنين، أولاهما حين أوقفت لمدة عامين ومنعت من السفر لمدة تسعة أعوام (لأسباب قيل إنها فكرية) وعشت في ثمانينيات القرن الماضي عشر سنوات في باريس في غربة، والغربة كما قال ابن النحاس: حسّنوا البعد وقالوا غربة.... إنما الغربة للأحرار ذبح والعزلة النفسية مفروضة فرضا على الكاتب إذا كان صادقا مع نفسه بمجرد أن يخطّ أول حرف على الورق، وأنا الآن أعيش وحيدا في باريس منفياً عن نفسي ومن نفسي. زوجة عابد خزندار شمس الحسيني منطقة القلب * كتب ميلان كونديرا (حين يتحدث القلب لايعود لائقا أن يصدر العقل اعتراضا).. إلى أيهما تصغي لأحكام القلب أم لاعتراضات العقل؟ وكيف تتصالح مع قلبك؟ - يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال :« للقلب منطقه الذي لا يعرفه المنطق» ولذلك فإنّ القلب لا يصغي لصوت العقل، وعلى نقيض ذلك فإنّ القلب غالبا ما يجعل العقل يزيغ ويضل، ولهذا أضاع شمسون دليله، وأضاع مارك أنطوني ملكه وحياته، والأمثلة كثيرة في التاريخ موت الإحساس * نعيش في الضجة التي معها أصبح سماع الصوت صعباً والالتقاء بالكلمات محال.. مع أقل مايمكن أصبحنا نعيش.. ودون أن نشعر فقدنا الرؤية.. في هذه الضجة الكبيرة ماذا تسمع؟ أما زال هناك مايستحق أن نصغي إليه بعد ندرة الصدق وقلة الضمير؟ - في هذه الضجة وخاصة التي تنوء بكلكلها على العالم العربي الذي يعاني من جرائر ربيعه، لا نسمع شيئا ولا نعي شيئا، وحتى الإحساس قد تبلّد، ومع الأسف لا نرى بصيص ضوء في آخر النفق. مع ابنته سارة الشقاء الأبدي * يأتي الحزن إلينا حينما يكون للأشياء انعكاس أعمق مما يراه البسطاء.. كلما نزلنا إلى العمق كلما كان هناك «لسع» ساخن لأقدامنا.. فالتسطيح يقلل من عمق الهموم.. أتمنيت - يوما - أن تنزل برؤيتك للأشياء إلى مستوى «السطح» حتى لاتشقى أكثر بما تعرف؟ وهل ثمة ضريبة للتأمل والفهم العميق للحياة؟ - نعم هناك ضريبة للتأمل والفهم العميق للحياة وهي الشقاء تماما مثلما قال عمر أبو ريشة: تتساءلين علام يحيا هؤلاء الأشقياء... المتعبون ودربهم قفر ومرماهم هباء الواجمون الذاهلون أمام نعش الكبرياء.. الصابرون على الجراح المطرقون على الحياء أنستهم الأيام ما ضحك الحياة وما البكاء... أزرت بدنياهم ولم تترك لهم فيها رجاء تتساءلين وكيف أدري ما يرون على البقاء... إمضي لشأنك.. أسكتي أنا واحد من هؤلاء فجيعة الوقت * كتب محمد حسن علوان ( ظننت أني بلغت عمرا أعرف فيه بدقة مايمتعني وما يؤذيني، ولم يكن ذلك صحيحا. افتراضاتنا حيال أنفسنا تتشعب كلما كبرنا حتى يصبح اليقين شائكا وبعيد المنال ) أتملك ذلك اليقين الذي يحيمك من كل مايمكن أن يأتي ليغير قناعاتك صوب الأشياء في الحياة؟ أتعرف مايمتعك وما يؤذيك بعد طول هذه التجربة؟ - يقول محمد حسن علوان: «ظننت أني بلغت عمراً أعرف فيه بدقة ما يمتعني وما يؤذيني، ولم يكن ذلك صحيحاً» وأنا بلغت الثمانين ولم أعرف حتى الآن ما الحياة وكيف أحيا، ونحن مع بالغ الفجيعة إذ تعلمنا كيف نحيا(هذا إذا حدث) يكون الوقت قد فات، كما يقول الشاعر الفرنسي أراجون. يد حانية * أحتاج أحيانا لأي شيء يمسح على رأسي، يضع يده على خدي الأيمن ويهمس» لاتحزن «.. أشعرت يوماً برغبة في أن يخفف عنك أي شيء فظاعة آلامك وأحزانك؟ وكيف تواسي نفسك حينما تمشي في ممر الذكريات الموجعة؟ - الإنسان يحتاج دائما وليس أحيانا، إلى يد حانية تمسح أحزانه، والشاعر يقول: ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع وكانت زوجتي رحمها الله، والتي رافقتني سبعة وخمسين عاما من حياتي الرفيقة التي أجد لديها السند والعون والحنان، عندما كنت أتعرض لأية أزمة أو خيبة أمل، وعندما رحلت أصبحت أردد هذا البيت يا ترى هل عند من ظعنوا .... أنّ عيشي بعدهم كدّ وكدح رضا لاري سكاكين الغدر * كثيرا مايأتيني الانكسار والخذلان من أكثر الوجوه التي وثقت بها ثم مدت يدها لتطعن الظهر من الخلف وتمضي.. أي سكين غادرة تسللت إلى روحك لتخذلك؟ أقبضت على أحدها متلبسة؟ ماذا فعلت لها؟ - ما أكثر السكاكين الغادرة التي تسللت إلى روحي وخذلتني، والتي قبضت على بعضها متلبسة، ولم اكتشف البعض الآخر إلاّ بعد سنين، والإنسان يجب ألاّ يتوقع الخير في كلّ الناس، وصدق زهير بن بي سلمى حين قال: والظلم من شيم النفوس فإن تجد .... ذا عفة فلعله لا يظلم أما ما أفعله حين اكتشف الغدر أو الخيانة، فإنّي أعزي النفس وأترك للزمن أن يمحو ما حدث، واستمر في مواصلة الناس ومعايشتهم، ولا أقول ما قاله المتنبي: ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روّى رمحه غير راحم ونادرا ما نجد « الكرام » الذين قال عنهم أبو تمام: إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن عاطفة الورق * ثمة عاطفة مثل الورق.. كلما كتبنا عليها أحلامنا كلما طوتنا مع خيباتها.. ثم لانجد حيلة من الخلاص من كل ذلك سوى بتمزيق الورق كله ورميه من النافذة.. نفعل ذلك حتى نشفى من عاطفة مثقوبة.. كم ثقب أحدثته عاطفة من ورق بداخلك؟ ولماذا يحولنا من نحب بقلة إنسانيته إلى أوراق ترمى من فوق سور الألم؟ - تسألينني قائلة: إنّ ثمة عاطفة مثل الورق، وأنا أقول إنّ كلّ العواطف مثل الورق، وأنا قضيت كلّ حياتي وقد بلغت الثمانين الآن أتساءل: هل هناك حب حقيقي؟ أم انّ الحب هو اللحظة التي نكتشف في نهايتها أنّ الحب كان وهما، على أن هذه اللحظة هي أسعد ما يمرّ علينا في حياتنا ولذلك لا أمزّق الورق لأنه تجذر في الذاكرة، إنه عمري وعمر الإنسان هو قدره، على أنني في نهاية المطاف سأردد ما قاله علي محمود طه : أنا من ضيع في الأوهام عمره وجع الفقد * كتب علاء خالد (بدمعة معلقة، أتذكرك كثيرا في السفر، أتحرش بالجموع، بهواتف الشارع، أبحث عن صوتي وهو يتحدث إليك، وهو يتجسس من بعيد على صوتك، عبر مسافة منتهية.. عبر لغة عاطفية تتناثر حولي.. حكايتك تقربني أكثر من الناس).. أبداخلك دموع معلقة تذكرك بمن غيب الموت أجسادهم عنك؟ أمازلت تفتش عن أصواتهم في السفر والشوارع وعبر وجوه الأناس الذين تلتقيهم؟ عند مكتبه في بيته - شوقي يقول: وما ينبيك عن خلق الليالي .... كمن فقد الأحبة والصحابا وخلق الليالي أو الحياة نفسها رحيل بعد رحيل ووداع بعد وداع، ونحن خلقنا للنوى، وأنا اتلفت حولي فأجد أنني فقدت الزوجة التي شاركتني في الجزء الأكبر من عمري، وكنت أقول لها دائما هذا البيت لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أينا تأتي المنية أول وفعلا لم أكن أدري،، ولكن شاء الله أن تسبقني إلى الدار الآخرة مع أنني الأكبر سنا والأكثر أمراضا، ولكن لكل واحد أجله ولكل أجل كتاب، وأتلفت حولي أيضا فأجد أنني في كل يوم أفقد صديقا أو زميلا في الدراسة، وآخر من فقدت من الأصدقاء رضا لاري وحزام العتيبي وفوزي عبد الوهاب خياط، والحياة مثل الحب وهم، والحقيقة الوحيدة فيها هي الموت وإنّا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا ومقدرينا خوف النهايات * نعيش البدايات وعيوننا على نهاية الطريق.. وكأننا شعوب لاتعيش إلا بأوجاعها.. ترتبط بما تفتقده أكثر مما تمتلكه.. أي حزن ذاك يمنحنا الخوف من كل شيء!.. أتخاف من النهايات؟ أم أنك تخاف أن تعيش الخوف في صورة الفقد والغياب؟ - لا أخاف من النهايات لأنها محتومة، وحمزة شحاتة يقول: ما ذا يريبك من مآلك.. أفغير أنّ الليل حالك والموت خاتمة المصير.. وإن بدا لك غير ذلك ويقول أيضا: اليوم تعطيك الحياة وقودها ... وغدا ستصبح للحياة وقودا وقد يقال إنّ حمزة شحاتة كان متشائما، لكن كلّ المفكرين العظام كانوا متشائمين مثل نتشه وكارل ماركس وفرويد تكريمه من إحدى الجهات الحياة والموت * قبل المحطة الأخيرة في الحياة.. هناك دائما كلام نود أن نقوله، أن نقوله كما نحسه دون تزييف أو تجميل، ربما هي الحقيقة أو الكذبة التي لطالما اشتهينا أن نكذبها ولم نستطع.. أتخاف الموت؟ وماهو الكلام الذي تحب أن تقوله لكل الأشياء التي حولك والذي طال الوقت وأنت تحتفظ به بداخلك؟ - قبل المحطة الأخيرة في الحياة لن أقول سوى إنني لو عشت حياتي من جديد فلن أعيش سوى الحياة التي عشتها حتى الآن، أما الموت فقد قلت آنفا إنني لا أخشاه، لأنه محتوم نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بدّ من شربه ولكنّي في نفس الوقت أقول: المرء يأمل أن يعيش وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره وتخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره فوزي عبدالوهاب خياط امرأة مذهلة * كتب الشاعر عبدالرحمن بن مساعد (مذهلة.. كل شيء فيها طبيعي وموطبيعي أجمل من الأخيلة.. طيبها قسوة جفاها.. ضحكها هيبة بكاها.. روحها. حدة ذكاها. تملؤك بالأسئلة.. مذهلة) التقيت يوما ب» مذهلة « كل شيء كان فيها طبيعيا ومو طبيعي؟ أتحب المرأة التي ضحكها وبكاؤها وروحها وذكاؤها طاغ في الحضور؟ - تسألينني عمّا إذا كنت أحب المرأة التي ضحكها وبكاؤها وروحها وذكاؤها طاغ في الحضور، وأنا أقول لك إنني أحب كلّ النساء، ولكل امرأة جانبها المضيء حتى ولو لم تكن جميلة، والجمال هو دائما في عين الرائي، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ومعايير الجمال تختلف من عصر إلى عصر، فالمرأة الهركولة أي الممتلئة ونؤوم الضحى التي كان يعشقها الأعشى لا تجد من يعشقها الآن. بكاء الذاكرة * سأبقى أمد يدي لكل شيء.. سأقبض بها على يد من أحب وسألوح بها إلى من يغادر.. سأمدها وأنا أعلم بأن مطرا نقيا أبيض سينزل من السماء ليغسلها ويهبها الفرح.. لمن تمد يدك ملوحا؟ أبكيت يوما لأنك مددتها طويلا لمن لايستحق؟ - تسألينني إذا بكيت يوما لأنني مددت يدي طويلا لمن لا يستحق، بالطبع بكيت ولكن سرعان ما أنسى والعمر قصير ويجب ألاّ نترك للأحزان أن تغشاه وتطغى عليه ضحكات الشتاء * يزورنا الشتاء ليهبنا ألواناً باذخة تحرضنا على أن نتحول إلى أطفال يضحكون مع الأشجار ومقاعد البحر وأرصفة المقاهي والطيش والحب.. ماذا يفعل بك الشتاء؟ وكيف تتناغم مع المطر حينما يدق نوافذ الروح؟ - لا اعتقد أن الشتاء وخاصة شتاء باريس التي أعيش فيها يهبنا ألواناً باذخة تضحكنا، وهذا مايقوله البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما وأنا لا أقضي الشتاء في أرصفة المقاهي، ولكن بجانب مدفأة يذكي نارها الحطب، أما المطر فأنا أحبه وأنا قابع في منزلي، وليس معرضا نفسي له في الخلاء صدق الأسرار * ماهو السر الذي لم تقله يوماً لأحد؟ - السر الذي لم أقله لأحد، لن يبقى سراً إذا قلته الآن، والحب يبتذل إذا تحول إلى كلمات، ولهذا يجب عدم البوح به، وإذا كان صادقا فالآخر سيشعر به، ثمّ إنّ بعض الأسرار كما قالت نازك الملائكة يأبى الوضوح.