منذ زمن بعيد وأنا أبحث في نفسي عن سر تلك الغبطة العارمة التي تنتابني كلما أفكر في السفر إلى لندن .. المدينة التي كلما ضحك النهار ترفع سحابة يدها وتصيح رعدا ومطرا .. مشاهد متفرقة تنتابني وصور قديمة تتناثر ألوانها حولي .. كأن كلا منها يشبه لوحة معلقة ضمن إطار صور لأمكنة محدودة ولقطات مجردة من الزمان لا يفسدها تعاقب الأيام .. كأن الذاكرة تعي جمال الأمكنة قبل الأوقات فتبقى ساكنة .. ما أن وصلت لندن حتى ذهبت لأنبل أساتذة العصر .. محمد صادق دياب .. استقبلتني على الباب راعية الأسد «أم غنوة» وبصوتها الجداوي الحميم همست يا أبا غنوة فؤاد هنا .. ظهر بعدها الفهد الاستوائي .. نفس الشموخ .. نفس رفعة النفس .. نفس الإحساس الراقي .. ظل جميلا أبو غنوة رغم كل الظروف لأن جماله أسلوب حياة .. لم يكن ذلك الجمال يوما ملامح أو هنداما أو عمرا زمنيا رتيبا .. سألني ما الذي جاء بك في هذا البرد القارس؟ قلت له جئت لأحذرك وأهددك قبل أن ينفلت من كفي الزمان .. أحذرك أن لا تكذب على نفسك وتصدق أنك أتممت مهمتك بعد نصف قرن في كتابة الجميل، وأن عقدك الوظيفي كصانع جمال حقيقي في هذا الكون انتهى، وأهددك إن لم تفجر في أعماقك من جديد طاقة الشفاء فسوف نطلق النار على القمر الذي ربيته حتى اكتمل .. قال لي وهل أنا مهم إلى هذه الدرجة قلت له لقد عشت مع أبي وأمي ستة عشر عاما ثم اغتربت عنهما وعشت مع كلماتك ما تبقى من العمر فكيف تجرؤ على هذا السؤال .. هل سمحت للأوكسجين أن يطرح عليك نفس السؤال وأنت تتنفسه كغاز في أحلك الظروف فكيف تسلب مِن من أصبحت بعض غلافهم الجوي من نفس الحقوق!!. ثلاث ساعات من دغدغة المشاعر قضيتها مع البحر الذي يفرض لونه كما يشاء .. من يجعلك بعد الجلوس إليه تؤمن بأن الجبال ليست متشابهة ولا النجوم بنفس الحجم .. وأن الإنسان كتلة من طين لا قيمة له إن لم يبدع .. فعلا الجلوس إلى أبي غنوة يجعلك تؤمن بأن الله قد خلق الكلمة لتتكاثر وتنتشر وتصبح متاحة لكل الناس يتداولونها ويتبادلونها ويتقاضون على استعمالها الحب فهذا «الجداوي» خلق ليبدع جاعلا من الإبداع عملة نادرة كالماس تعرف قيمة نفسها وارتقى بالكلمة فأصبحت راقصة باليهفي بحيرة البجع ونفخ فيها العواطف فجعل منها مشاعر تسيل لها الأجفان والوجدان .. حتى تعرف محمد صادق دياب لا يكفي أن تقرأ له فقط فما يكتبه بعض منه وليس كله .. لا بد أن تجلس إلى محمد صادق دياب لتعرف شكل البشر عندما يمارسون الحب من الأعماق وكيف هم يظهرون على إنسانيتهم رغم كل الظروف .. كتب لي قبل أن أودعه على آخر رواية له «مقام حجاز» النبيل فؤاد «مقام حجاز» لبهائك ومن يشبهك في بهائك!! قلت لعبد المحسن الحليت «ذلك الشاعر العظيم الإنسان الذي صدره بيتك والذي لا تعرف غير أشعة الشمس خصائله والذي إن أتيت إليه في غمرة الأوجاع تستكين» والذي يرافق أبا غنوة كظله هل عرفت الآن سبب ادعائي الأخير في التلفون أنني من أغنى الناس .. لقد منحني أبو غنوة حبه الذي لا تعادله كنوز الأرض .. حملت ما كتبه لي أبو غنوة تحت قلبي وأنا أودعه .. وسؤال كبير يرتسم على شفتي خجلت من أن أتفوه به إليه وهو منذ متى وأنت كبير هكذا ياسيدي .. أحسست أن السؤال عبيط كأنني أسأل خريطة العالم منذ متى وأنت خريطة لهذا العالم!! فيا حبيبنا .. يا أيها الكبير .. يا من تسبح كالأسماك في مياه قلوبنا .. ابق لنا .. ابق لنا كثيرا في هذه الحياة .. ابق لنا .. فبوجودك يا سيدي على ظهر هذا الكوكب تصبح الأرض قابلة للسكنى والحياة ممكنة!! [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة