شيعت جموع غفيرة من المثقفين والأدباء والمسؤولين، أمس، جثمان الأديب الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك الذي توفي أمس الأول عن عمر ناهز 80 عاما، وقد أديت الصلاة عليه بعد ظهر أمس في جامع الراجحي في مدينة الرياض، ووري جثمانه الثرى في مقبرة النسيم، لتفقد المملكة برحيله شخصية فذة مزجت بن الثقافة والفكر والعلم، حيث جمع الراحل بين صرامة العلم وفضاء الأدب، وبين دقة المعادلات الكيميائية وفضاء وخيال اللغة الشعرية. ويتقبل ذووه العزاء للرجال في الرياض في منزل الفقيد في حي الروضة، وللنساء في منزل ابنه بسام في حي المربع، كما يقام العزاء في الأحساء في منزل عبدالله بن إبراهيم آل شيخ مبارك بحي المباركية بالهفوف. وعبر عدد من المثقفين عن حزنهم لرحيل المبارك، وأكدوا أنه شخصية استثنائية من الصعب تعويضها، لافتين إلى العديد من انجازاته على الصعيدين العلمي والثقافي. وقال ل«عكاظ» عضو مجلس الشورى السابق الأديب حمد القاضي إن الوسط العلمي والأدبي في بلادنا والعالم العربي فقد رجلا أديبا وعالما هو الدكتور راشد المبارك، هذا الرجل كما أبدع في تخصصه العلمي بمؤلفات قيمة أفاد منها المعنيين بالشأن العلمي، فقد أبدع في الميدان الأدبي شاعرا مجيدا، فعلى قلة شعره أراه من أبرز الشعراء في عصره. وأضاف القاضي: إلي غير ذلك من مؤلفاته التأملية التي يقرأ فيها طبائع الناس والحياة، ناهيك عن ندوته الأدبية العلمية التي يقيمها في منزله، والتي كان يرحمه الله يشرف عليها بنفسه ويضع لها برنامجا ذا خطاب متنوع في الشأن العلمي والأدبي، حيث تدور فيها حوارات علمية بين النخب التي يستضيفها، أسأل الله له الرحمة كفاء ما خدم وطنه ومجتمعه. من جانبه، أكد الدكتور سعد البازعي أننا فقدنا بوفاة الدكتور راشد المبارك علما من أعلام المشهد الثقافي، وأشار إلى أن الراحل كان رجل علم بالمعني الحديث، فهو متخصص في العلوم البحتة، ورغم ذلك كان مثقفا ثقافة أدبية وفلسفية وهو يدرك مسؤولية المثقف ويلتزم بها ويتجلى ذلك من خلال المنتدي الثقافي الذي يديره ويشرف عليه، ما منحه مكانة فريدة بين المثقفين، فقد قدم خدمة مختلفة للمثقفين . وأضاف البازعي: سوف نفتقده طويلا، فليس لدينا الكثير ممن يملكون مؤهلاته وإسهاماته الأخرى، فقد علمت من أصدقائه المقربين أنه يحب مساعدة الآخرين، ليس في الجانب المادي فحسب، بل على جميع المستويات، فهو حريص على كل من يطلب مساعدته أو دعمه. ويقول البازعي: أذكر أنه دعاني مرة لتقديم محاضرة في المنتدى الذي يعقده في منزله، وما زلت أذكر حرصه على جميع التفاصيل، وكان عدد الحضور كبيرا جدا؛ لما يتمتع به من مكانه بين المثقفين، كما أن رئاسته لهيئة الإشراف على الموسوعة العربية العالمية التي تلقت الدعم من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان يرحمه الله والتي تتكون من 30 مجلدا وتعد الأكبر بين الموسوعات العربية يوضح مكانته العلمية التي تميز بها، ولا أقول إلا أننا فقدنا مفكرا مهموما بأوضاع أمته ومنشغلا بقضايا وطنه رحمه الله وأدخله فسيح جناته. كما عبر عضو مجلس الشورى الدكتور محمد نصر الله عن حزنه لرحيل المبارك، مشيرا إلى أنه يشكل مع جيله ظاهرة ثقافية فريدة. وقال نصرالله: «نعلم أنه جاء في طليعة الحاصلين علي درجة أكاديمية عليا في الجيل الأول الذي ساهم في إقامة الجامعات السعودية، وهذا الجيل لم يقتصر على التخصصات الأكاديمية، وإنما حاول أن يمتلك راية فكرية تعبر عن جميع الظروف المحيطة بدول المنطقة وفي المملكة، فقد ولد في أسرة مهتمة بالعلوم الدينية والأدبية، هذا بالإضافة إلى اهتمامات الدكتور راشد يرحمه الله الأدبية والثقافية منذ أن كان طالبا في القاهرة». وتابع نصر الله «حاول الراحل أن يمثل دور المثقف العضوي الذي يخرج من عاجية المؤسسة إلى حركة المجتمع، ومع رؤيته المركبة المزاوجة بين علوم الدين والفلسفة وعاش حالة من قلق فكري ترنح بين هذين العاملين، وقد انعكس ذلك في مؤلفاته، فقد زاوج بين الكتابة الدقيقة في العلوم والكتابة الحرة في الفكر والأدب والشعر، ولا شك أنه له شطحات نابعة من هذا القلق الفكري ويتضح ذلك حول رؤيته للمتنبي، فقد حاول أن ينتزع ما انطبع في أذهان القراء تجاهه، بالإضافة إلي موقفه النقدي من شعر نزار قباني». واستطرد نصر الله قائلا: «في نظري أن كل ما سجله الدكتور راشد من موقف نقدي يريد أن يكون رؤية فكرية مستقرة وصادقة ليكون مفكرا مستقلا وناقدا حرا، أضف إلى ذلك ما عرف عنه من شهامة شهد عليها كل من يحضر مجلسه من أدباء ومفكرين، فقد كان دائما يتصدر لحل كل مشكله يتعرض لها من يلجأ إليه». وختم نصرالله حديثه بقوله «المبارك ظاهرة ثقافية وأدبية واجتماعية قل أن يجود الزمان بمثلها، رحمه الله رحمة واسعة وألهم ذويه الصبر والسلوان». المفكر والباحث الدكتور عاصم حمدان قال: «عرفت المفكر والأديب راشد المبارك قبل ما يقارب ربع قرن من الزمن، وكان عندئذ عضوا في مجلس الإعلام الأعلى، وعندما تحدث رحمه الله في المجلس الذي ضمنا، وجدته في حديثه يمزج بين الأدب والعلم، وهو ما يدل على رسوخ ثقافته العربية والإسلامية وانفتاحها على المعطيات العلمية في الحضارات الأخرى، وقد أشاد عندئذ بكتاب الفيلسوف العربي ابن رشد والموسوم (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، وهو كتاب يصنف على أنه في المنهج الذي يستطيع من خلاله المفكر التوفيق بين الحكمة وبراهينها العقلية وبين الشريعة المعتمدة على الغيب. وقد كان رحمه الله من القلائل الذين كانوا يجمعون بين التخصص العلمي البحت والاهتمام بالفكر والأدب، فهو إضافة إلى أنه كان متخصصا في الفيزياء والكيمياء، فقد كان شاعرا وأديبا ومحبا للأدب قديمه وحديثه، وصاحب نظرات نقدية مهمة في الشعر والأدب، إضافة إلى كونه مفكرا ذا نظرات بعيدة تتطلع للمستقبل. وكان لمجلس الدكتور راشد رحمه الله وصالونه الأدبي الأسبوعي دور في إثراء الحركة الثقافية في المملكة، والإفساح في المجال لجميع الآراء كي تطرح ما يفيد المجتمع والتنمية في بلادنا. وقد عرفت أسرة آل مبارك بالعلم والأدب منذ قرون عدة، حيث برز منها شعراء أبدعوا الشعر كما أفتوا في فقه إمام دار الهجرة الإمام مالك، وهي مدرسة اشتهرت بريادتها في فن أصول الفقه، وهذا ما أكسب الفقيد ذلك الإبداع الفكري والأدبي على حد سواء. إضافة إلى ما عرف عنه رحمه الله من اتساع الأفق ومحبته للجميع، ودعوته للحوار بين جميع الأطياف المختلفة، ونبذه لثقافة الكراهية والإقصاء، التي لم تجر على الأمة سوى الكوارث، وأذكر أنه خلال جلسات الحوار الوطني السادس في المدينةالمنورة، وحين تحدث البعض عن الاختلاط أشار الدكتور راشد إلى تعدد الآراء الفقهية في ذلك وتحدث برأي تفصيلي في هذه القضية، فاعترض أحدهم عليه قائلا إن هذا ليس من تخصصه وإنما مجاله الفيزياء والكيمياء والأدب وليس الفقه، فرددت عليه قائلا: إن تكلم الدكتور راشد في العلم الشرعي فإن هذا تراثه وتراث آبائه وأجداده. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون». ويقول الناقد والباحث سعيد السريحي عن الفقيد «عرفت الدكتور راشد المبارك رحمه الله يوم أن أجريت معه حوارا مطولا نشرته (عكاظ) في إطار تلك الحوارات التي تستهدف تبين الجوانب المختلفة للشخصيات المتميزة، والتي نهضت بدور فاعل في تطورنا الإداري ووعينا الثقافي. استوقفني في الدكتور راشد رحمه الله هذه الشخصية المتكاملة من جوانب عدة جمعت له التمكن من تخصصه العلمي وثرائه الثقافي وحسه الناقد، والذي كان يقلب من خلاله الجوانب المختلفة لقضايانا الفكرية وجوانب التنمية المختلفة، فيرى فيها ما لا نراه وما لا تكشف عنه النظرة العجلى للأشياء. ولم يكن ذلك الثراء حائلا دون أن يتمتع الدكتور المبارك رحمه الله بالتواضع الجم الذي يجعل منه شخصية محببة لا يبعدها تميزها عن المجال الذي يجمعها بالناس، ولذلك فإننا حين نختلف على قيمة هذا الدارس والباحث أو ذاك، فإنه لا بد أن نقف على القيمة التي كان يشكلها الدكتور راشد المبارك وعلى حجم الفجيعة بفقده». الباحث الإسلامي والمحلل السياسي مهنا الحبيل قال «رحل رجل المبادرات، حيث تعتبر شخصية الدكتور راشد المتميز بالثقافة العربية ومزجها في العلاقة العميقة فكريا واجتماعيا وسياسيا للوطن العربي، فشخصية الدكتور راشد شخصية فذة صنعت لنفسها مسارا مختلفا في حياتها. والده الشيخ عبدالعزيز بن حمد المبارك أحد أبرز العلماء الدعاة ذوي البصمة والحضور في المحافل العلمية والاجتماعية، بل والسياسية في تاريخ الخليج العربي من أول القرن الرابع عشر حتى منتصفه، وأمام هذه القامة الاجتماعية التي سجلها الدكتور راشد وراثة وأصالة كانت له رسالة ثقافية اقتحمت الرواق الثقافي العربي والديوان الوطني ببعده الرسمي والأهلي، حيث ازدحمت نجد بأساطين نبلائها الاجتماعيين والفكريين، فمن الطبيعي أن تزدحم الأوراق حوله، فما بالك إن كانت أوراق ورواق سجلت لراشد بن عبدالعزيز، فلا يكاد ترتحل من داره مضافة إلا حطت بعدها مضافات يصارع الناس إلا أن يزدحموا على بيته ولا يزدحم عقله عن تعقبهم بالمكرمات، ورغم أنه عرف بأنه ذلك الأحسائي المتجذر بانتمائه، لكنه أبحر في علاقاته وثقافته بين أركان الوطن وبين العروبة الكبرى، فعرف المشهد الفكري الوطني المحيط منه الأحساء وساحة ثقافتها وثمر نخيلها الفكرية قلال تمر وقلال أدب وعبر حيث رحلته الفكرية الواسعة إلى الوطن العربي الكبير، فأضحى رصيده التفاعلي في تنقله العربي والغربي جسرا حيويا لذلك التواصل مع شخصيات ومثقفي الوطن العربي الزائرين أو القاصدين للعاصمة ليقدم عبر ندوته الأحدية شتلات ورود منوعة من مفكرين ومثقفين متعددي التوجه». أما عضو مجلس الشورى عبدالله السعدون، فقال «للأديب الدكتور راشد مكانته وعرف عنه مساعدة الآخرين وبعيدا عن الطائفية والنوعية والمنتدى الثقافي الذي كان كل يوم أحد يجمع فيه كافة أطياف المجتمع، حيث يحضره من داخل وخارج المملكة وعرف عنه ككاتب ومفكر، ومن المواقف التي عرفتها عنه حضر لدارة حمد الجاسر وهو متعب وأصر على الحضور واستفاد منه الجميع وعرف عنه الفلسفة وشموخها ووضح الأخطاء التي يقع بها الفلاسفة، وعرف عنه الشعر ولكن لم نشاهد ما ينشر وننتظر جمعها من المهتمين في هذا المجال؛ لأنه شعر جزل، والدكتور راشد المبارك له أعمال خيرية جليلة ويساعد دون أن يسال من الشخص، رحم الله الدكتور الأديب راشد المبارك صاحب العلم الجليل، فهو رجل جمع بين العلم والأدب». وأضاف الدكتور زكي الحريول «الدكتور والأديب راشد المبارك جمع الناس على الطيب وندعو له بالرحمة والمغفرة». يذكر أن من أبرز مؤلفات الراحل كتاب «كيمياء الكم» لطلبة الدراسات العليا والجامعية، وهذا الكون ماذا نعرف عنه. وقد نشر أبحاثا مبتكرة عن تأثر طاقة الإلكترون بتفاعل المجال الكهربي الناشئ من دورة الإلكترون حول النواة والعزم المغناطيسي الناتج من حركة الإلكترون حول محوره، في عدة مجلات علمية عالمية. وفي الفكر والسياسة والتاريخ، له كتاب «قراءة في دفاتر مهجورة» و«فلسفة الكراهية»، و«التطرف خبز عالمي»، و«شعر نزار بين احتباسين». وله ديوانان من الشعر تحت عنوان «رسالة إلى ولادة».