إن حدوث المراجعات لزمن من الأزمان غالبا ما يكون ملازما لتغيرات جذرية قد أحدثها الواقع، بحيث تؤدي تلك التغيرات لكشف ما كان مخبأ، أو لتسمح بقول لم يكن بالمقدور قوله. وتجارب المجتمعات تتنازعها سلطات متعددة، كلما طغت إحداها على البقية كان لها القول الفصل (في زمنها)، وأجدني معقبا على قضية «الهاشتاق» المطالب باستعادة درجة الدكتوراه للدكتور سعيد السريحي بأنها هي دعوة سبقت زمنية التغير الذي بموجبه يمكن محاسبة من تسبب في سحب الدرجة العلمية تلك.. ولو عدنا إلى فترة a الميلادية سنجد أن قوتين ثقافيتين كانتا تتنازعان المجتمع كدعوات كل منها يدعي معرفته لمسالك المستقبل من أجل حياة أفضل، وهاتان القوتان هما ما سمي بالصحوة الإسلامية، والحداثة، وكانت السمة الجوهرية لكل منهما النبذ والإقصاء ولم يؤسس أي منهما وسيلة للحوار بمفهومي المشاركة والبناء، بل سعى كل طرف منهما إلى إسقاط الآخر ثقافيا وإظهار الاعتوار المنهجي في فكر كل منهما، ولظروف سياسية دولية قد يكون التنادي للحرب في أفغانستان من أهم محاورها، فتغلبت الصحوة واستطاعت اختطاف المجتمع بخطاب ديني مسطح مع تشويه رموز الحداثة وجعلها منهجا مقترنا بالكفر والإلحاد لدى العامة، حتى أصبحت مفردة حداثي مقترنة بالكفر، ومع طغيان الخطاب الصحوي بدأت تظهر معالم انزلاق خطابه إلى الطريق الوعر، ما حمل الدكتور غازي القصيبي (رحمه الله) ليكتب كتابا مهما (حتى لا تكون فتنة)، معريا اعوجاج الصحوة.. وفي تلك الفترة كانت الحداثة في أوج قوتها الإعلامية، ولم تكن منشغلة بالواقع الاجتماعي بقدر انشغالها بالتجديد في الخطاب الابداعي، وكان يتزعم ذلك التجديد مجموعة من الكتاب والمثقفين من خلال ما ينشر في الصحف أو ما يقال من منابر الأندية الأدبية، واكتسب الدكتور سعيد السريحي عداء التيار الصحوي، كونه كان ممثلا للتيار الحداثي لأسباب جوهرية، أهمها أنه أحد المنظرين المهمين والفاعلين في الساحة الثقافية والمشرف على المحلق الثقافي (أصداء الكلمة) الذي كانت تصدره جريدة عكاظ في ثماني صفحات استقطبت كل الأصوات الحداثية.. في تلك الفترة كانت جامعة أم القرى تحتضن الأكاديميين المناوئين للتيار الحداثي وتناصبه العداء (كقوة دينية وليست ثقافية ابداعية)، وكان من سوء طالع الدكتور سعيد السريحي أن يكون طالبا في هذه الجامعة، ومع تقدمه لنيل شهادة الدكتوراه تنادى التيار الصحوي من كل مكان واجتمعوا على استحالة إعطاء سعيد السريحي (خميني الحداثة) الشهادة العلمية من جامعة كجامعة أم القرى.. ولأول مرة في التاريخ الجامعي تسحب شهادة الدكتوراة بعد مناقشتها ومنح المناقش درجة الدكتوراه بتوصية من جهة أخرى (دينية) ليست لها علاقة بالجامعة بتاتا. وأن تثار قضية استعادة شهادة الدكتور سعيد السريحي الآن هي قضية خاسرة للمرة الثانية لعدم توفر الشرط التاريخي للمراجعة، إذ ما زال المجتمع يجني ثمرات تصدعات ثلاثين عاما من الشد والجذب من غير أن يفرز معطيات ثقافية حقيقية لما يجب قبوله أو رفضه ثقافيا لتلك الفترة الزمنية التي أظهر الواقع أن الحداثة كانت تبحث عن المستقبل، بينما جاءت ثمار الصحوة بداعش ومثيلاتها.