إلى الأديب الراحل محمد طملية ________ نفلت السماء جدائلها في وجهه فحجبت الرؤية عنه .. ما الوقت الآن؟. يسأل نفسه، يسهم قليلا ثم يجيب: لا أعرف! . يكتب على ورقة مهملة بضع أحرف غير مترابطة، يغطي رأسه ثم يرفعه، يلتفت يمنة ثم يسرة ويفلت ورقته ليقتعد الأرض. استطالت قدماه لمنتصف قامته. أرخى يديه فوق رأسه، وأصابعه تعبث بسيجارة مشتعلة، يدورها بطريقة ذكية، فلا تحرق ولكنها تحترق، فيما بدت عيناه كقطعتي زجاج لامعة. بالأمس فقد الحياة لبضع ساعات. قال لي الطبيب: كنا في حيرة لاختفاء النبض عدة ساعات، بالرغم من أنه كان يستجيب لنداءاتنا. عندما استيقظ، لم يكترث بالأطباء من حوله ، قام من مجلسه وأخرج سيجارة، ثم طلب رؤية سلمى .! نظر إلي قائلا: أحضر لي سلمى!. الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، أين سأجد سلمى؟. استكان بحنو، ثم رمق السقف بنظرة عجلى، قلب الأوراق أكثر من مرة كأنه يبحث عن كلمة ضائعة، تفحص السطور ثم صرخ بي: ألم تحضر سلمى بعد !؟. وجهه يزداد شحوبا كلما ابتسم فتبرز عظام فكيه وتمتد عنوة لتختلط بابتسامته قبل أن ينبس: الزجاجات الفارغة تعلم السرقة. ثم تعلو ضحكته شيئا فشيئا، وأنا ساهم بالعلاقة بين الزجاجات الفارغة والسرقة. «لا تفكر بما قلته لك، لا يوجد أي علاقة للزجاجات الفارغة بالسرقة. ويقهقه هذه المرة بصوت عال. الأغطية البيضاء التي تدثر بها كشفت لون وجهه المصفر، فبدت مثل لوحة فنية لحقل قمح لم يكتمل حصاده بعد!. أتدري!، الكلمات التي تفلت من براثن قلمي لحذر من سلطة أو لخوف من أن أعتقل، ترجع إلي كوجع قديم بين أكتافي، هنا تحديدا.. ويدير ظهره ويضع يده بين كتفيه. كم كلمة حق لم أكتبها خوفا من صوت البساطير في الليل !. «كانوا يأتون إلي قبل صلاة الفجر. كأنهم لا ينامون أبدا. انهض قبل وصولهم مسندا رأسي للجدار، فيفقدون متعتهم بمجرد إدراكهم بأنني مستيقظ. ينهض من سريره. يقف محاذيا للشباك الذي يفضي إلى الجهة الخلفية للمشفى، يبدو المشهد لحجارة غطتها الرمال. وآلات قديمة أهملت فنما عليها الصدأ لتبدو مثل شخوص هدهم التعب فاستراحوا بجانب الصخور. يشعل سيجارة أخرى ثم يهرش لحيته البيضاء. يطرق ساهما، ثم يؤشر بإصبعه إلى حيث الصخور والآلات: ترى من أي قبيلة هم ؟، هيئتهم على الأرجح تشي بأنهم من قبائل مجهولة.. يضحك بشكل متقطع، ثم يردف: أتظن أن إقامتهم ستطول ؟. تصيبني رعشة حينها. وأشعر بأنني سأفقد عقلي قريبا، أقف مطلا برأسي إلى حيث أشار، لا شيء في الخارج غير خردة صدئة. يفتح الجارور، ثم يخرج كومة من الأوراق، يرميها باتجاه السقف و يحرك يده صاعدا نحو الأوراق المنتشرة في الغرفة... «يطير الحمام، يحط الحمام» يغيب الحمام، هل سيموت الحمام؟. تتساقط الأوراق في الاتجاهات كلها، يناغيها كأسراب حمام لا يراها سواه ، يقترب من كل ورقة بحذر، ثم ينظر إلي بشكل خاطف. أليس لديك شيء لنطعم هذا الحمام المسكين.. قليلا من الحنطة مثلا.. يا أخي. يمسك ورقة بين يديه، يضمها إلى صدره ، يهدهدها كمن يحنو على حبيبته. «عندما تفرغ الزجاجة فإن ذلك يعني انتهاء الليلة، هذا مؤشر الاحتضار وانتهاء صخب لا يطول، أغنية تسري عنك قليلا من هموم يومك ولا تجدها مضحكة». يطير ورقة من فوق ناصية الشباك، يودعها كمن يطلق حرية لطائر ثم يرسل قبلاته الأخيرة لها. هل أنت مصغٍ ؟. يسأل.. «زجاجة توشك على الانتهاء وصديق يجلس قبالتك ويحدثك عن حبيبة ضائعة لها ملامح حبة برتقال وعيون جوز الهند ورائحة الأناناس». يا لها من حبيبة فاكهة!. وفي المكان قطة حالمة تنظر إليك بعينين ذابلتين، وتود لو أنها أصبحت هدهدا أو نورسا لتعرف السر وراء الجدار. «هي الزجاجة الفارغة يا صديقي، ترى من خلالها نفسك، أجوف ومحاطا بزجاج بلا لون من الجهات كلها، وهم من الداخل ، وفوهة ضيقة تخنق أنفاسك بقاعدة هشة قد يكتب لها النجاة أو الكسر..» .. الكسر .؟. هل ذكرت شيئا عن الكسر؟. أشعر بدوار وقلة تركيز. لم أعد قادرا على متابعة أسئلته أو حركات جسده، أتشبث بظله الذي اختلط مع المرايا من حولي فيختفي بمجرد الالتفات عنه. لاتزال القبائل المجهولة في ذات المكان، وقرص الشمس نازفا في خاصرة السماء. يلفني شريط دائري من الزجاج يعكس صورة لشخص واحد في الغرفة، شخص استطالت لحيته وابيضت، وتناثرت من حوله أكوام من الورق المهمل. يطير الحمام فوق رأسي، ولا يحط إلا ليصبح خربشات على ورق أبيض. سلمى لم تصل بعد والنبض يناوشه الرحيل.. لم يتبق فوق المرآة غير انعكاس وجهي، وبضع زجاجات فارغة.