الخان قديم، بُني في الزمن العثماني، يُقال إنه أقدم عمارة باقية كما هي، بلا ترميم، في مدينتنا. هل هذا صحيح؟ لم يُرمم أبداً؟ ناس الخان - ونحن مثلهم - يميلون الى المبالغة في أحاديثهم، مع أن حياتهم لا ينقصها التشويق (والتقلبات) أبداً. الخان عمارة واحدة ضخمة، تبدو بلا نهاية، لكنها ليست كذلك. لا أحد يعرف عدد سكانها. قبل نصف قرن أجروا مسحاً سكانياً لكن منذ ذلك الحين زادت الطبقات (بالعامية نقول لكل طبقة: «طابق»). هذا كلّه عمار غير قانوني، بلا رخصة، لكن ما العمل والناس تزاوجوا وتكاثروا؟ سنّة الحياة هذه. ألا يعتبر العمار ترميماً؟ لكن العين لا ترى بيسر هذا العمار الجديد. إنه غير مرئي تقريباً. والسبب بسيط: الأشجار الجديدة لا تظهر في الغابة المترامية. الخان ضخم الى هذا الحد. اعتقدنا في زمن مضى أنه سبع طبقات. لاحقاً اكتشفنا أنه سبعون طبقة. والبعض يقول 72. لكن هذا كلّه تكهنات ونرجع لاحقاً الى هذا الكلام، لكن أولاً علينا وصف الخان نفسه. البناية مستطيلة عالية، بعدد لا يحصى من النوافذ والأبواب، تطل غرباً على البحر، وشرقاً على الجبل التوراتي الذي يظلل المدينة. إذا رسمت البناية القديمة (الخان) على ورقة بيضاء كما تُرسم الخرائط اتضح لك أن الشكل ليس مستطيلاً! إنه أشبه بحبّة الفاصوليا أو كلية الإنسان. نعرف أن الكلية هشّة، ضربة واحدة في الخاصرة تورث نزيفاً صامتاً داخلياً، يقتل خلال أيام من دون أن تدري به. هذا حدث من قبل وهناك كتاب صغير وصف مثل هذه الحالة في بلاد الروس البعيدة. لا نكتب أدباً هنا، هذا ليس وقته، وكل ما يطمح إليه هذا التقرير السريع وصف حال البناية. يُقال إنها مصدّعة. لا نصدق الأقاويل لأن الواحد عليه أن يُصدق ما يفيده لا ما يضره. الطوابق تتقاتل من حين الى آخر. كل طابق فيه مئات، فيه ألوف. الشقق تتجاور كعلب السردين وهذا يُولد ضيقاً أحياناً. في طرف كل طابق غرفة للحمام الزاجل، من نوافذها يطير الحمام الى ممالك وإمبراطوريات وجزر، قريبة وبعيدة. في غرفة الحمائم التي نسمّيها «الأرشيف» تجد الريش على الأرض وتجد قاذورات الحمائم (هذه الطيور الحلوة) وتجد خزائن السجلات الرسمية: سجلات البناية. طبعاً الغبار يغطي المكان فناس المكاتب كسالى يميلون الى إدمان القهوة والتبغ و«طق الحنك» وهي عبارة عامية أيضاً، لكن أحد مترجمي الكتب القديمة المقدسة (جاء من وراء البحر وتعلم لغتنا) أفتى أنها فصحى أيضاً. هذا لا يهمنا وليس هنا مجاله. على رفوف الخزانة سجلات سوداء مرقطة بالأبيض والرمادي، وإذا فتحتها تجد أضابير جديدة وأخرى شبه مفتتة. حجج من عهود بائدة لكنها كالدساتير ونحترمها ونجد فيها في وقت الشرّ خلاصاً. هنا أيضاً رسائل ملغزة من إمبراطوريات باقية وأخرى زائلة: الامبراطوريات زالت وبنايتنا باقية! هذه من أعاجيب الدهر. (أحياناً لا توزع الرسائل على ناس الخان، ولا نعرف). يحدث أن تتقاتل الحمائم في الفضاء الأزرق الشاسع فوق البحر الأخضر. لكل طابق سربه الزاجل، وهذه تتشابك في الهواء وأحياناً تقع الرسائل منها. مرات لا نعرف هذه الرسالة لمن، وتلك لمن، وهكذا يختلط الحابل بالنابل، ومن دون انتباه يعمد الطابق السابع الى استخدام رسائل الطابق الثالث لتنظيم شؤونه (وقت الرياضة ووقت الطهي ووقت التنزه ووقت التلفزيون)، بينما الطابق الثالث حائر ينتظر وصول رسالة لا تصل أبداً! هذا جزء من نظام بنايتنا البديع الذي يصعق الغرباء والرحالة فور بلوغهم المدخل. المدخل مربع، مزين بلوحات وإعلانات، تستطيع رؤية البحر والشاطئ الرملي والنساء شبه العاريات، كما ترى الجبل والثلج الموصوف في الكتب وأشجار الأرز ومنحدرات التزلج... هذا كلّه تعد به بنايتنا على نحو ملتبس وغامض وشبه خيالي: كيف تضع منحدرات ثلجية في البناية! يكفي أن تمدّ رأسك من نوافذ الطابق السادس: رقبتك طويلة كرقبة زرافة وبينما تبرمها هكذا ثم هكذا يستدير العالم حولك بكل مناظره التي لا تضاهى. تسمع لغات كثيرة وأنت تعبر الممر الطويل بين الشقق، الممر الذي يجوز أن نسميه شارعاً لأكثر من سبب: أولاً هناك أوساخ في الزوايا والكناسون يُعطلون كثيراً. (وضعنا «موكيت» أصفر لكنه اتسخ وتبقع. لماذا لا تأتي شركة التنظيف كما كانت تفعل قديماً وتفتح صناديق الاسفنج المبلول بالماء والصابون وتفرش الفتات السحري الأصفر على «الموكيت» ثم تشغل الماكينات وتمسح ويرجع «الموكيت» ناعماً جديداً بارقاً يستحلي الواحد أن يقعد ويتناول الفطور عليه). ثانياً الممر فيه حفر خطرة (بينما تمشي وتتكلم مع أصحابك تنزل قدمك في «جورة»، تتعثر وتكسر رقبتك وتؤخذ الى المستشفى). ثالثاً الممر بلا إضاءة (عندنا كهرباء وأعمدة ومصابيح لكن عندنا «التقنين» أيضاً، وكذلك أبناء الحرام الذين يضربون اللمبات بالمكانس - المكانس لهذا؟ - أو بالقوارير الفارغة منعاً لعين الحسود أو حتى بالمفرقعات النارية). غياب النور الكهربائي خطر جداً وهذا أيضاً معلوم ومسجل في المطبوعات ومرات تنتج عنه وفيات وربما تُكتب عنه الكتب لكن الميت مات ومن يُعزي الأم والأخت والإبنة والأرملة؟ لا أحد يعزي أحداً، ولا نسقي الحزين كأساً، ولا نكسر من أجله خبزاً، وإذا فعلنا فلغاية في نفس يعقوب. الى هذا الحد قلوبنا شريرة؟ ألا تجد في المدينة صالحاً واحداً؟ هل الخان سدوم وعمورة؟ بالتأكيد لا، لكن ناس الخان يميلون الى المبالغة. (وهل يحرقون في ساعة مبالغة الخان كلّه؟). أظرف (أفظع؟) ما في الخان حبّه لساعة الكلمة. «ساعة الكلمة» عبارة غريبة لا ندري كيف وصلت إلينا، وعند أمم أخرى تُسمى بعبارات أخرى. إنها الساعة التي يجتمع فيها نزلاء كل طابق على حدة، في «قاعة الكلمة» الشاسعة المفتوح نصفها على السماء والباقي نصفها الآخر تحت السقف الحجري المعرق. هنا يصعد القائد فوق خزانة مقلوبة على جنبها ويرفع يداً واحدة فيسكت الحشد ولا يعود الواحد منا يعرف نفسه. لا نعود ناساً عاديين. أنت لست أنت في تلك اللحظة، «لحظة الكلمة». لا يلفظ القائد خطاباً من فمه، الخطب الطويلة تثير الملل، وفي الحقيقة كلما زاد الكلام تلاشت من الحروف «القوة». وددتُ لو أكتب هذا التقرير كاملاً في سطر واحد. لكنني أعجز. ربما في زمن آتٍ - إذا سمحت السماء - أفعل ذلك. القائد يقدر: يلفظ كلمة واحدة، أحياناً تكون الكلمة إسماً، وهذا يكفي. فجأة لا نعود نحن. يأخذنا هدير عظيم. نصير وحشاً بعدد لا يحصى من الرؤوس. لا، هذا خطأ. نصير رأساً خرافياً مرعباً بعدد لا يحصى من الأطراف؛ وحشاً من الأطراف تقوده رؤيا ثاقبة لا ترحم. طاقة خيالية تعجّ في قلوبنا وندرك أن الحياة لنا، الحياة كلها كالحجر في يدنا، وإذا شئنا نضرب الحجر في البحر فينشق نصفين ونقطعه الى جزر الحوريات المسحورة، وإذا شئنا نضرب الحجر على الجبل فيشتعل كبركان ويقذف حمماً، وإذا شئنا وضعنا الحجر في الصحن وقطعناه نصفين وأخرجنا من جوفه لبناً وعسلاً، منّاً وسلوى. زمن المعجزات ولى؟ ناس الخان لن يقبلوا كلاماً كهذا. نعرف خبر الأعمى الذي جُنّ ودفع الأعمدة وأسقط الهيكل على رأسه ورؤوس الأعداء جميعاً. المؤرخون يجدون في الخبر نذيراً. لكننا شعراء - معظم ناس الخان شعراء يكتبون القصائد، بعضهم ينشر ما يكتبه، وبعضهم يميل الى الحياء ولا ينشر - ومثل جميع الشعراء نعرف أن الحياة هباء أيضاً وإذا كانت هباء فلماذا يكون الموت الإرادي جنوناً؟ أن تموت في الساعة التي تقررها: أن تقود الطابق في هجمة جبارة وتنتزع الى الأبد حقك في السيطرة على الطابق الذي تحتك، أو الآخر الذي فوقك، وإذا مت بينما تفعل ذلك، أين الخسارة؟ على الأقل فعلت ما أردت أن تفعله. ألم تسمع خبر المحكوم بالإعدام؟ جاء إليه السجّان عند المساء وفتح الرقاق الملفوف وأخبره أنه سيشنق ساعة الصبح، قررت المحكمة. انتزع المحكوم حزامه الجلد، وفي زنزانة الليل الساكنة، شنق نفسه. لم يتحمل رعب الانتظار طوال الليل. هذه حكاية قديمة، تجدها في المؤلفات، وليست بلا قيمة. المكتبيون اهتموا بها، وهؤلاء فاعلون في حياتنا: بين حين وآخر يُبدلون الناس في الطوابق أو يقترحون تبديلهم. عادة نوزع على الطبقات بحسب لوائح التصنيف المعتمدة: اما الوضع الاجتماعي (المرتب) أو تبعاً لأوصاف محددة في أوراقنا الثبوتية. العلامة الفارقة مثلاً: إذا كنت أزرق العينين تسكن الطابق الخامس. كل الطابق الخامس ملون العيون. وفيه نساء معمولات من الجبن الأبيض. مكان مشمس عجيب وطالما أغارت الطوابق الأخرى عليه في وقت الشرّ. لكننا منذ قرون لم نعرف حرباً. البنايات الأخرى تتحارب. غير بعيد من هنا، في الشارع الثالث بعد تمثال الرئيس، تحاربت بنايتان طوال سبع سنوات، ووقع مئات ألوف القتلى. زرعوا الحقل المربع الفاصل بين العمارتين بالألغام. كان من قبل مزروعاً تيناً وعنباً. الألغام حولت الحقل الى حفرة ضخمة من الجثث. الأولاد أيضاً ماتوا في الحقل المذكور وما زلنا الى اليوم نسمّيه «وادي القتل» مع أنه في البدء لم يكن وادياً بل سهلاً. أرجع الى بنايتنا. الأسلاف - أجداد أجدادنا - حكوا عن أزمنة فظيعة (لكن هل نصدق ذلك؟ معقول نحن نقتل بعضنا بعضاً؟ هذا غريب وفظيع ولا يُفهم!) كانت فيها الطوابق متعادية على نحو يكسر القلوب. كلها بمخرج واحد الى العالم الخارجي (هذا الدرج شبه اللولبي بناه معلم عمار بارع جاء من جنوب البلاد، درج داخل في جسم البناية، كالأدراج الحجرية في أبراج وحصون العصور الوسطى)، وإذا قرر أحد الطوابق سدّ الدرج بأكياس الرمل، فماذا تفعل الطوابق الباقية؟ لكن هذا حدث، يقول الأسلاف. معظم هؤلاء عمّروا الى المئة (كانوا يأكلون لبنة وبصلاً أخضر ولا يقربون التبغ والكولا) ثم انقرضوا. لكننا نفتح الكتب المصفرة الحواف ونقرأ: بلى، قبل ثلاثة قرون وقعت حرب أهلية قصيرة في هذه البناية! كلما قرأنا هذه السطور انتابتنا الدهشة. أمس فقط، ونحن نشوي اللحم ونشرب عصير العنب في الحقل أمام البناية، كنا نضحك ضحكاً صادقاً طيباً لا يُشك فيه، كنّا أخوة، وإذا أردنا نصنع آلة عملاقة وننشر الأرض تحت أقدامنا ونغادر هذه اليابسة العظيمة، كأننا بحارة سفينة. البناية كلّها، الخان كله، ينفصل بأرضه عن اليابسة ويتوغل في البحر مثل جزيرة، ونحن نتبادل الأنخاب ونأكل اللحم والدجاج والسمك والبيض والبندورة، الحقل ترابه أحمر - بني، خصب، وافر الغلال، نأكل ونحيا ونتزاوج ونملأ البناية زعيق الأطفال الذي نحبه. أمس فقط! والآن نقرأ في الكتاب عن هذه الحرب الغامضة: لماذا حدث ذلك؟ الأسباب لم يذكرها الكتاب. نفتح الصفحات فنجد كلاماً لا علاقة له ببنايتنا. هل انتهى الفصل؟ أم هذا الكتاب أخوت؟ الدكاكين أسفل البناية مملوءة بضاعة. إذا قلَّت المعلبات على الرفوف يشعر الواحد بالخوف، بأن شيئاً سيئاً يدنو. لهذا نملأ الرفوف ونبقيها ملآنة. في هذه الدكاكين نجد الخبز، الفواكه، الخضر، المكسرات، الشاي الخ... نجد أيضاً الناس يتكلمون الى ما لا نهاية. أينما ذهبت تلاحظ الأمر ذاته (الغرباء أيضاً يلاحظون هذه السمة): حبّ الحكي. الكلام، الكلام، الكلام. ولع شبه مرضي. نخشى إذا سكتنا لحظة أن نتلاشى. حتى أن قصة انتشرت في الفترة الأخيرة عن ناسٍ اختفوا لهذا السبب بالذات: كانوا يميلون الى الصمت ولهذا السبب تبخروا. واحد كان يعبر الطريق ساكتاً وأمام عيون المارة تلاشى في الهواء! لم يبق منه حتى الحذاء أو ثيابه! اختفى! لهذا نحكي كثيراً. ومرات نرفع صوتنا. والآخر يظن أننا سنعتدي عليه فيسبقنا ويتعدى علينا. تكون مشكلة. ويأتي المصلحون (أهل الخير) ويصلحون بيننا... الى حين. هناك أمة رمزها القومي الغابة. الغابة متراصة الأشجار، تخدم استعارة للجيش أيضاً. هناك أمة أخرى (الاثنتان في أوروبا، أعتقد) رمزها الجبال. إذا هاجمها محتلون هرب ناس المدن الى الجبال واعتصموا بالجبال وخططوا للمقاومة. هذه الأمة الأخيرة جميلة المدن، غزيرة المياه، وفيها مصارف كثيرة. في إحدى الفترات اعتقدنا أنها تشبهنا وأننا نقدر أن نكون مثلها: هذا مهم وضروري التركيز عليه. لكل طابق في بنايتنا صورة محددة عن الحياة والعالم: صورة يودّ أن يشبهها. وعن هذا ينتج الاختلاف في الكلام وما يتبعه. هل هذا صحيح؟ هل يثق العلماء بهذه التفسيرات العجيبة؟ هل يتبع التاريخ أفكار البشر وخطط البشر؟ التاريخ بهذه السذاجة؟ هناك رجل على الطابق الرابع، غير متزوج، بلغ العتي من العمر وما زال قوي الساعد: يعمل نجاراً، نصف طاولات بيوتنا هو نجّرها، وعنده - في فمه - حكمة. يقول إنه لا يصدق أي شيء تطبعه الجرايد. إذا قالت الجرايد إن الناس على الطابق الثاني تصارعوا من أجل «كيت وكيت» فأنا أقول (بحسب النجّار المذكور) إنهم تصارعوا على كل شيء إلا هذا ال «كيت وكيت». وربما تصارعوا عليه أيضاً. لكن مع أشياء أخرى. «الإنسان لغز»، يقول النجار على الطابق الرابع. «جاهل ويميل الى الشرّ»، يقول بصوت هامس. وعندما يسكت نعرف أنه خائف. هذا غير مفهوم، وهو أيضاً يبالغ، لأن حياته سلام، وحتى إذا تبادلنا الأذية لن نذهب صوبه، فهو اجتماعي جداً (لا يضر أحداً)، والكل يعتبره هكذا، ولهذا فخوفه غير مبرر. حتى لو احترق الخان كاملاً لن يلحقه أذى. عنده سلَّم خارج النافذة وينزل عليه الى الحقل ثم يقطع أشجار التوت وراء السوبرماركت فيبلغ الشاطئ: أي صياد سمك يأخذه بأي مركب الى بافوس. وهناك أيضاً يجد بيتاً وخشباً وطاولات خيالية - كطاولات ديكارت - في انتظاره. إذاً؟ كل ما ذكرته في هذا التقرير يجوز حذفه ومحوه، فالتقرير ورقة أما الخان فعمارة، بناه الأسلاف بالحجارة، وكلّه أعمدة وأقواس وعقود، وهذه غير قابلة للهدم. ليست حبراً فتذوب في الماء. وليست ورقاً فتحرقها النار على حين غرة. أما المكتوب في المؤلفات القديمة فيمزج الوهم بالتاريخ لتشويق القراء، ليس أكثر.