شهد جيلنا بداية مأساة ما عرف بالقضية الفلسطينية، إلى أن جاء اليوم لنجد من هم محسوبون من جلدتنا ودمنا وعروبتنا وديننا من يشكر نتنياهو على ما يرتكبه من جرائم ويحرضه على التخلص من المسألة الفلسطينية بقذف غزة ومن بها من فلسطينيين في البحر! تماما: هذا كان حلم رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين: من أن يأتي يوم تطلع فيه الشمس ولا يرى غزة على الخريطة فقد ابتلعها البحر! مات رابين وبقيت غزة وسيموت بعده الكثير من زعماء إسرائيل وستبقى غزة. بل إن التاريخ يقول لنا وكذلك حقائق الجغرافيا أن كيان إسرائيل كله سيقذف به في "مزبلة" التاريخ وستبقى غزة وفلسطين كلها رمزا لحرية الإنسان وإصراره على العيش بكرامة وإباء، فهذه صنعة الله التي فطر الإنسان عليها. ترى ما الذي حدث لضمير بعض من العرب حتى يتبلد ضميرهم ويتجمد الإحساس في موصلات جهازهم العصبي ليصلوا إلى هذه المرحلة من إنكار الذات والهوان والعداء مع النفس والضمير، لتنقلب الحقائق عندهم ويتهاوى نظامهم القيمي لدرجة تحدي المنطق ومجافاة العقل وغياب الضمير، بل وحتى الإقدام على ما يشبه الانتحار الجماعي تاريخيا وثقافيا وحضاريا، ليصبح عندهم العدو أخا والأخ يصير عدوا.. والخير ينقلب لديهم شرا والشر يتحول إلى خير! هل يتصور هؤلاء حتى في أكثر كوابيسهم ظلمة أن إسرائيل يمكن في يوم من الأيام تصبح صديقة وفية للعرب، وأن يتحول الفلسطينيون إلى أعداء ألداء للعرب! كيف يلوم العرب على قوم منهم محاصرون وجوعى في آخر ما تبقى للعرب من تخوم الرباط في سبيل الله دفاعا عن عزة العرب وكرامتهم، أن يأبوا ضيم الاحتلال.. ويرفضوا ذل الأسر.. ويغضبوا لعار السكوت عن تدنيس مقدسات العرب والمسلمين. لقد ذهب الوقت الذي كان فيه العرب، ومعهم أحرار العالم، يستنفرون العالم بأسره من أجل الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، من المنظور الإنساني الصرف، عندما تقدم إسرائيل على أي من سلوكياتها الحمقاء، مدفوعة برعونة القوة وأحقاد التاريخ وأساطير التوراة، للتنكيل بالشعب الفلسطيني. في موقف نجد بعض العرب يتعاملون مع الحدث الجلل وكأنه لا يعنيهم، وكأن غزة واحدة من جمهوريات الموز، أو أن أهلها ليسوا عربا ولا مسلمين يقطنون إحدى جزر المحيط الهادي على تخوم المحيط المتجمد الجنوبي، نرى الرئيس الأمريكي، وهو بالطبع محرج مما يتفاعل في داخل الرأي العام الأمريكي الذي يشاهد طائرات آل إف 16 تدك مساكن المدنيين الأبرياء في قطاع غزة وتترك ضحايا منهم أطفال ونساء وشيوخ.. نرى الرئيس أوباما يسارع في تقديم وساطته لوقف إطلاق النار.. وهو وإن توجه بخطابه لإسرائيل إلا أن مفهوم الوساطة الذي عرضه، لا يعني سوى أنه يعرضها أيضا على الفلسطينيين في قطاع غزة، وهذا - في حد ذاته - اختراق دبلوماسي وسياسي غير مسبوق لأهل غزة. بعد هذا كله هل نلوم الفلسطينيين لو اتجهوا بقضيتهم إلى قوى إقليمية ودولية، لتستغلها هذه القوى ضدنا نحن العرب. هم كثر، هذه الأيام، من خصوم العرب ومنافسيهم الإقليميين من بودهم ارتداء قفاز القضية الفلسطينية حاد المخالب ونافذ الاختراق، ليهاجموا به العرب ويصفوا مع العرب خلافاتهم. الفلسطينيون في هذه المواقف الحرجة والصعبة لمواجهة عدوان إسرائيلي جبان يختبئ وراء قبة صواريخ باتريوت ومسلح لأسنانه بأحدث أسلحة الدمار والفتك، لا يريدون من العرب سوى دعمهم السياسي والإعلامي، وهو أدنى ما يمكن أن يوفره العرب للفلسطينيين الصامدين في قطاع غزة، دون أن يحرج ذلك العرب أو يربك أولويات سياستهم الخارجية، في هذه المرحلة الحساسة من تاريخهم. غزة، في محنتها الراهنة، تتطلع لعودة الوعي لضمير العرب، تجاه أخطر قضية في أمنهم القومي، من أجل مصلحة العرب، أولا وأخيرا.. ومن أجل السلام في أرض الرسالات.