رغم صرامة انتمائه للسلك العسكري، إلا أن القراءة والكتابة روضته، ويعتبره الكثير «أدميرالا» مسكونا بالهجرة والرحيل، والبحث والتنقيب، ورصد مكامن الجمال والفتنة، إنه الروائي والقاص عمرو العامري، الذي تصحبه «عكاظ» في هواجس مشتركة. واعترف العامري، أننا لا نقرأ لبعضنا، بل قال إن هناك عدم احتفاء بالمنجز المحلي من قبل المنابر الأدبية كجزء من محنة الثقافة المحلية، إضافة إلى نرجسية النقاد الذين ينظرون للمبدعين من أبراج دخلوها وعجزوا عن النزول منها. أين تضع نفسك في خضم الكم السردي الهائل، هل تنافح عن الجمال أم تقاتل في سبيل عدم تداعي قواميس اللغة ؟ هذه عدة أسئلة في سؤال واحد، ولا أظن أني معني بالأمرين كقضية، ونحن عندما نكتب في الغالب نقتحم الكتابة دون نيات مسبقة، أعني هنا الكتابات الإبداعية، نحن نكتب لأننا نريد أن نكتب، لأنه نعتقد أن لدينا ما نقول، ولأن الحياة تضيق بنا ولا بأس أن نسند قواميس الكلام بما نظن أنه وافر وشهي، وأن ننافح عن الجمال هذا الذي يمنح الوجود المعنى والقبول، وأن نضع بصمتنا كعابرين لهذا العالم اليوم، ولن نكون فيه غدا، ولا أضع نفسي في أي موضع تاركا ذلك للمتلقي، وحتما سأسعد لو أنزلني حيث أجد لديه القبول والتقدير، كون ثقتي بالناس والجمال مطلقة. الرواية.. هل هي فتح القلب للقارئ أم العقل أم الذاكرة ؟ ربما تختلف الإجابة من راو إلى آخر، وشخصيا أكتب لإفراغ الذاكرة، فمثلا كنت أشعر أن ذاكرتي تحتشد بكم هائل من الحكايات والمشاهدات والفلسفات والرؤى، وكان لدي يقين أني كثيرا ما شاهدت وعاصرت وقرأت، وأنه أصبح لي رؤيتي الخاصة للعالم والكون والأشياء يجب أن أقولها، ولم يكن هناك من ملاذ لذلك سوى أبطال روايتي، وشركائي في الانتصارات والخيبات أحملهم بعض وزري، وتنفست كثيرا بعد آخر عمل، ورفضت ملاحظات الأصدقاء المقربين الذي دفعت لهم بمسودات أولية، وكنت أعرف أني لو عدت لأتلفت كل شيء ولتراجعت، فإصدار رواية هو أشبه بإرسال مولد للحياة وعليك تحمل وزر حضوره لهذا العالم. هل شاكلت ماركيز في «لا أحد يراسل الأدميرال» بوعي وعن قصد أم مصادفة ؟ مزيج من الاثنين؛ فعندما بدأت كتابة سيرتي الذاتية ليس للأدميرال من يكاتبه كنت قد وضعت لها اسما مسبقا؛ هو «أنا» ثم عدلتها إلى «أنا حكاية لم تتم»، ولا أعرف كيف تذكرت رواية ماركيز «لا أحد يكاتب الجنرال» التي قرأتها قبل 15 عاما، أو «ليس للكونيل من يكاتبه» في ترجمة أخرى، وأعجبني العنوان غير أني أبدلت الأدميرال بدلا عن الجنرال، كوني كنت أحمل هذه الرتبة العسكرية كضابط بحري سابق، وأنا سعيد بهذا العنوان لأنه منحني (أو منحت نفسي) لقب الأدميرال، وهي مفردة عربية تحولت من أمير البحر إلى الأميرال أو الأدميرال في اللغات الأوروبية، ووجدت أن الوقت قد حان لأستردها وأتفرد بها. الروائي متسول هناك دائما نقص.. هل ترى ما نشعر به من حرمان محفزا ومحرضا على الكتابة ؟ هناك حرمان نعم، هناك نقص لا، إلا إذا كانت كلمة نقص هنا تأتي كمرادفة أخرى للحرمان، ولا تعني الدينونة، باعتقادي أنه يجب أن نتجاوز نظرية أن الكتابة بديل وتعويض عن حرمان ما، فالكتابة منجز إنساني منفصل وقد يمنحه الحرمان وهج الحزن لا أكثر، وإلا كيف يكتب شاب أو شابة في العشرين من العمر لم يتشربا بعد المعاناة والحرمان. إلى أي مستوى كسرت حاجز السيرة الذاتية في عملك الأجد تذاكر العودة ؟ حاولت كثيرا ولا أعرف إن كنت نجحت أم لا، والرواية دائما تتغذى على الذكريات والعالم الفسيح والناس الذين عرفناهم، وكذلك الأنات والأصوات التي نحملها في داخلنا وتساعدنا على رحلتي العيش والكتابة، والمقولة السابقة لأزابيل اللندي وأنا أتماهى معها تماما. هل يمكن أن يتحول الروائي إلى متسول أو استغلالي عندما يوظف حياة الآخرين في رواياته ؟ من أين يكتب الروائي إذا لم يكتب عن الآخرين والحيوات الأخرى، وما هو كائن في الجوار، حياة الآخرين هي حياتنا بشكل أو بآخر، ولو كتب الآخرون يوما ما حكاياتهم لكتبونا نحن أيضا، ثم لنتسول يا أخي، وهل نحن نتسول الهواء عندما نتنفسه، هي رؤية قد تكون صحيحة للبعض لكني أختلف معها. ألا يدل توظيف الآخرين على ضعف وتراكمية التجربة ؟ أخاف أن يتوقف الكل عن الكتابة إذا ما تلبستنا حساسية البحث عن منجزنا وتجربتنا الفردية فقط.. وهل ننتظر حتى نبلغ الخمسين لنكتسب تجارب ونكتب، ثم ليس كل الكتابات تجارب متراكمة.. المبدعون يخلقون متخيلهم الخاص بهم ويكتبون.. هذا سؤال قاس ربما. وما مدى تسليمك بمقولة «القرويون حين يشتهرون يغدون أكثر نرجسية»؟ ليتهم يفعلون ذلك؛ ولكنهم لا يفعلونه أبدا، القرويون عندما يشتهرون يعوزهم التقدير الذاتي لأنفسهم، ولأنهم يخافون هشاشة السقوط فإنهم يتخندقون أحيانا خلف التمظهر بالنرجسية، القرويون ولدوا ليكون صفحة واحدة بيضاء، ولن أنكر أن هناك من يفعل.. تلك سنة الحياة. ألوان الحزن هل ما يزال لديك متسع للكلام ؟ تعرف أنه عندما أجلس مع كبار السن ألاحظ شيئين، فمنهم من هو زاهد في الكلام، ومنهم من هو مسرف ولا منطقة في الوسط، وقد حاولت تعليل ذلك من خلال نماذج أعرفها، واكتشفت أن الذين يحيون في الضجيج يصمتون بعد أن يتقدموا في السن، والآخرون تولد لديهم شهية البوح، وأظن أني أنا من النوع الثاني.. لدي الكثير مما أقول، وسأظل أثرثر، وعندما نكبر لا يغدو لنا من منجز سوى الحكايات. أتشعر أحيانا دونما سبب أنك حزين ؟ أكتب بحزن ولكني لست حزينا دائما، مثلي مثلك مثل الآخرين الذين يتلبسهم الحزن والفرح وما بين البين، ولكن لماذا أكتب بحزن، ربما لأني رفعت سقف توقعاتي كثيرا من الحياة والناس والهبات التي لن تأتي، وربما لأني أجد نفسي في الحزن، فالحزن لون واحد، وأعرف أن هذا ليس جيدا ومقيتا، ربما غير أني وجدت أن الناس تتماهى كثيرا مع الحزن، بل وأخاف أن تنكرني لو غادرته، ولهذا أكتبه أكتبهم هم أيضا وأكتبني. متى سيصمت شهريار عن الكلام غير المباح ؟ عندما لا تكون هناك شهرزاد لتستمع. هل نهرب بالسرد من جحيم الواقع إلى نعيم المتخيل؟ نكاد نعيش الآن بكاملنا في المتخيل.. وكل عوالم الافتراض هذه هي متخيل يحتوينا بعيدا عن فقر وبؤس وجحيم الواقع، وفيه نخلق جناتنا وعوالمنا الساحرة، ونبتهج بها رغم إدراكنا أنها متخيل، ترى كيف سيغدو هذا العالم لو عشنا على الحقائق فقط..؟ حتما لن ننجو.. وكم ستبدو لي الحياة فقيرة دون أوهام. متنفس كتابي ألا يمكن الاستغناء عن السريالية في زمن خفت فيه حدة التابوهات ؟ إن كنت تعني بالسريالية الاحتماء بالرمزية في الإبداع فهو شأن أدبي ولا دخل له بالتابوهات والتي فعلا خفتت كثيرا وما عادت لها تلك السطوة، وربما نحتاج سنوات آخري لنغادرها.. لقد أقمنا داخلها طويلا. هل غدت الرواية لعبة من لا لعبة له ؟ أتفق معك أن هناك طوفانا من سيل الروايات.. غير أنه للكل حق التجريب ومن ثم سيبقى الحقيقي والمختلف ويتلاشى الضعيف، فالرواية غدت المتنفس الكتابي والنفسي مع ندرة المنافذ الأخرى، والكل يجرب والكل يتنفس، ولهذا يصمت الكثيرون بعد الرواية الأولى.. بعد البوح الذي كان يختلج.. بعد صرخة الاحتجاج. من استوقفك من كتاب الرواية محليا وعربيا ؟ سأعترف أني متابع غير جيد للإصدارات المحلية.. ونحن في الغالب لا نقرأ لبعضنا.. نقرأ للآخر، وهناك عدم احتفاء بالمنجز المحلي من قبل المنابر الأدبية كجزء من محنة الثقافة المحلية.. إضافة إلى نرجسية النقاد الذين ينظرون للمبدعين من أبراج دخلوها وعجزوا عن النزول منها، وبقوا هناك يجترون ذات الأسماء والمقولات منتظرين من الآخر تقديم قرابين المدائح والتزلف لهم، ولم يبق غير المبدعين يقرأون لبعضهم من باب الامتنان وجبر الخواطر، وهنا دعني أطرح سؤالا ربما يكون خارج النص: وهو هل كانت جوائز وزارة الثقافة في أثناء معرض الكتاب لهذا العام والعام الذي سبقه مثلا مقنعة للمثقف ومطمئنة لدور وزارة الثقافة والنقاد الذين تستعين بهم؟، وهذا سبب آخر يجعلنا لا نرتهن للأسماء التي تلمع تحت الضوء، وحتى عربيا لا انحياز إلى اسم محدد، وحتى الروايات التي حققت جوائز أدبية عجزت عن الإيمان بها.. وربما تكون سوق البامبو ولا سكاكين في مطبخ المدينة استثناء. انحياز للحكاية أين النقاد من تجربتك السردية، وهل النقاد إما ساخط أو مشارط ؟ تجربتي السردية قليلة وهذا ليس تواضعا.. ونتاجي المحدود أوصلته بقدر ما أستطيع لكل المهتمين وهذا كل ما أستطيع فعله. أنا أجد سعادتي بالاحتفاء بي من القارئ العادي ومن الأصدقاء والذين منحنوني الكثير من الاعتزاز والثناء وزرعوا داخلي الإيمان بما أكتب أما النقاد فهم آخر ما أهتم به ثم أين ومن هم النقاد وربما نستطيع أن نعلن موت النقد. هل سنرى في رواياتك الكثير منك بعد تقادم الزمن وغياب الشهود ؟ بكل تأكيد.. بل والكثير مني وليس أنا فقط.. كل من يكتب يترك جزءا منه شاء أم أبى. وكيف نجوت من العواصف الذاتية في داخلك وأنت تكتب سردا لا يخلو من فانتازيا ؟ يسعدني ظنك أني نجوت.. لقد حاولت كثيرا الانحياز للحكاية رغم إيماني باللغة.. وعندما أعود لقراءة ما كتبت أجد أن اللغة تسرقني دون شعور.. وأنا أسكن اللغة.