الحلقة الأخيرة طاف سائق الأنيسة حول البوابات وقبل استكماله دورته كاملة توقف، فتنافر الركاب من مقاعدهم، أربكه تخلف ثلاثة من الركاب وتمسكهم بمقاعدهم. وقبل أن يتحرك مساعده لإنهاض الركاب، استجاب اثنان منهم وغادرا الحافلة بينما ظل الياردي في مكانه يعنف المساعد: أخبرتك أنني أريد مكانا محددا وأنت أشرت بالموافقة بهزة من رأسك. يا أخي المكان الذي تريده قريب. وأنت لا تكسر حرمة المكان بنقض العهد انعطف السائق من أمام المقود منحرفا باتجاهه ومستنكرا مقولته بصوت غليظ: صلي على الحبيب محمد... نقض العهد، أي عهد هذا؟ أليس المسلمون على شروطهم. قضم السائق على شاله مستغفرا ومعنفا مساعده الذي أظهر حيرة لم يستطع بها ردع ادعاء الياردي أو التقليل من غضب عمه. وأثناء تلك المماحكة تسابق الركاب للصعود إلى الحافلة على أمل أن تقلهم في إيابها سريعا، إلا أن شجار الياردي أبطأ التحرك، فتراكضوا لحافلة أخرى. أوقف السائق محرك السيارة وهبط، فتنافر الحمام من أمام خطواته المتريثة، وحط على بعد، فتراجع للخلف وتناول كيسا من الحب تعود على وضعه بجوار عمود تغير السرعة، وخمش منه حبيبات ونثرها باتجاه نفرة الحمام: اللهم كما خلقتنا ضعافا فارحمنا بقوتك يا أرحم الراحمين. كانت حبيبات الحصى تنغرس في عقبي قدميه المتأخرتين عن الالتحام بشراك نعله، والهواء الساخن يزفر أول زفراته الصباحية التي لا تثير ضجر المنتظرين فيعبرونها من غير الحاجة لإزاحة عرق تفصد من الجباه يسيرا هينا، إلا أن جبهة السائق كانت أكثر وفرة بعرقها الغزير، فاستخدم شاله لتجفيف جريان تقطر على وجنتيه، وقفز من بوابة صعود الركاب راجيا من الياردي النزول. احتاج السائق لكوابح صلبة توقف انزلاق عجلات غضبه، وعندما استشعر أن صبره لن يصل به سالما، ضغط على أعصابه محاولا تهدئة الموقف: إنت أش تبغى بالضبط دكة العبيد.. يا بويه دكة العبيد أيه.. أنا موقفي هنا.. ودكة العبيد قريبة من هنا والله لو كانت على بعد ثلاث خطوات فلن أنزل حتى توصلني إليها زفر السائق أخر صبره، وأخرج نقودا من جيبه: خذ هذا ثمن ركوبتك والله يستر عليك... تأبى الياردي من أخذ النقود الممدودة وأصر: أنا قلت أبغى الدكة.. يعني الدكة كان أحد الركاب العازمين على الإياب مع الحافلة يقتعد مقعدا أماميا، رغب في إنهاء الخلاف الدائر، فنهض مقبلا رأس الياردي ومتوددا إليه: تجاوز واصفح... قفز صوت المساعد في الوقت غير المناسب بتاتا: قله ينزل... ففار غضب الياردي، والتهبت أعصاب السائق فخبط بيده أحد الكراسي صائحا بمساعده: أنت مين قلك تتكلم... واضطر السائق على دفع ثمن الركوب مضاعفا وتقبيل رأس الياردي الذي تخلى عن تصلبه، بسحب النقود غاضبا وترجل من الحافلة تاركا (الكمساري) يتلقى التعنيف من عمه، بينما انتقل الراكب الوحيد للدفاع عن الكمساري. ** ** كان الياردي يسير وغضب شيطاني يتوالد من بين كلماته، فيعصف بهدوء المارة الخاشعين السائرين الهوينى، كان يطوح بيده في وجه كل من أشار إليه بالهدوء، نافلا يديه إلى الأمام والخلف ومتفوها بكلمات معطوبة. توقف ليسأل عن دكة العبيد، فلم يوفق إذ غاص جسده بين الجاليات الهندية والإندونيسية، ومع إلحاحه في السؤال تكون الإجابات كلمات غريبة لا يهضمها، فيغادر، ثورة غضبه المستمرة لا تمكنه من الهدوء أو تكسبه تعاطف الذين يمرون به أو يمر بهم، فانتقل إلى الجهة المقابلة، مخترقا بسطات الباعة. صفت البسطات في خط موحد، وأتقن الباعة عرض مأكولاتهم والنداء عليها، ومن لم يجهد صوته بالنداء تكفلت الرائحة بجذب زبائنها، كانت نفس الياردي قد هفت على التهام صحن (تقاطيع) مع الثوم المدهوك بالخل وفصوص الليمون وشرائح البصل، فتابعت عيناه يدي الطاهي الممسكة بملعقة خشبية تقلب محتويات الصاج بسرعة وخفة مظهرا براعة بقذف مقادير البهارات وصائحا: يا واد لا تخلي زبونك جائع... فيستجيب الصبيان لحمل صحون التقاطيع والكبدة وتوزيعها على المنتظرين انتهاء طلباتهم. كان الياردي تواقا لتناول إفطار يعيد إليه توازنه، إلا أن انشغاله بالوصول إلى الموقع قبل بدء التحريج أعمق رغبة من جوف معدته الفارغ: أين تقع دكة العبيد. أطلق سؤاله في اتجاهات مختلفة وصل به إلى مسامع البسطات المتجاورة، فتقافزت أيدي الباعة تشير له بالاتجاه إلى أسفل حارة الشامية، من خلال زقاق ضيق ينتهي ببرحة، ومع بساطة الوصف وقربه لم ترق له أيادي الباعة الموجهة له، فصاح بأحدهم: فهمت.. هل تراني ناقة يجب الإمساك بخطامها. وواصل ضخ الكلمات المعطوبة، ليسمع عشرات القامات السائرة في نفس الاتجاه، وعشرات الوجوه المغايرة لسيره: كل هؤلاء لا يعرفون الدكة.... وأطلق ضحكة عالية: الكل يتنصل من الدكة لكي لا يتهم... كان يتقدمه دليل بلبسه الناصع البياض، محفوفا ببعض الرجال المحاذين له مظهرين الحفاوة به، اغتاظ الياردي وأخذ ينادي عليه مكررا: يا عبد... يا عبد ازداد غيظا للإهمال الذي واجهه، فكرر بصوت مرتفع: يا..... تراجع اثنان ممن يسايران الدليل وامتدت يد أحدهما إلى كم الياردي وجذبه بعنف: تأدب يا هذا. نفر الياردي مستنكرا جذبه بتلك الصورة، وعمق عينيه في وجه جاذبه: وإن لم أتأدب. رفع الآخر قدمه وهبط بحذائها الثقيل على مقدمة أصابع الياردي يهرسها هرسا، فارتفعت صيحات الألم التي أشغلته عن اللحاق بخصمه أو متابعيه، فاقتعد الأرض يتلوى ألما مطلقا خلفهم التهديد والوعيد. ** ** يقابل باب الدريبة زقاق ضيق اخترق حي الشامية بانحدار ممهد انتهى ببرحة تتوسطها دكة عريضة ارتفعت عن الأرض بمقدار ذراع ونصف، واستوت في اتساعها بمقدار ستة أذرع تغطيها طبقة أسمنت اكتسبت لمعة أطفأت عتمة الأسمنت، ومن جانبها الأيمن استقرت عدد من الدرجات يصعدها العبيد تباعا حين يبدأ العرض. وقد اصطف في مواجهة الدكة الأعيان والتجار والباحثون عن الشراء، وقبل العرض تكون العيون تتابع خطوات شيخ الدلالين الذي يخبئ ثروته في منعطف يبدأ بمخزن العبيد وينتهي بالدرجات المحدودة الموصلة للدكة. يقول شيخ الدلالين إن اليوم غير الأيام التي مضت كيف انتظر وسنرى.. ظهر شيخ الدلالين بزيه الفاخر مخترقا حلبة العرض يتقدمه عبدان ومجموعة أخرى تلتف به وتأتمر بأمره لا شغل لها إلا تركيز أبصارها لإشارة سيدهم فينفذونها من غير أن يتكلم، أعطى ظهره للدكة وتفرس وجوه الحضور مظهرا حبورا زائدا، وهو يعلن عن مفاجأة العرض ووعد أن مفاجأته سوف تروق للأثرياء فقط، وكلما غاب وجه أحدهم عن بصره استعاض بذكر أسماء الأعيان واحدا واحدا: لم تمر عليكم كالتي سترونها.. فهل أبدأ العرض أم انتظر لكي لا يغضب أحد من الأعيان ويتهمني بأني فوت عليه فرصة الشراء.. اختلطت الأصوات بين متريث ومستعجل، وتزاحم علية القوم للوصول إلى مقدمة الدكة، ومع تزاحمهم تزداد حماسة النخاس في استثارة تشوقهم، استنكر البعض من تدافع العامة للمقدمة، فصدرت إشارة من يد شيخ الدلالين، فانطلقت مجموعة من العبيد واصطفت صفعا محكما أبعد الناس عن الأعيان الذين تفرغ بعض عبيدهم برفع المظلات الشمسية على رؤوس أسيادهم وانشغل آخرون بالترويح على وجوههم بمراوح خزفية، وعندما استشعر النخاس باقتراب الضيق من صدور المجتمعين رفع صوته عاليا: سنرى من المحظوظ اليوم... حدقت العيون نحو المنعطف الضيق الذي يفصل ما بين الدكة ومخزن العبيد، ظلت عيونهم متربصة، وكنوع من التحفيز والصدمة معا ظهرت مملوحة وارتقت درجات الدكة، فهاجت الأصوات مستنكرة غاضبة، فارتفعت يد النخاس محاولا تهدئة الأصوات: هذه محظيتها... ومن الآن فالجارية تشترط من يريد شراءها يشتري معها المحظية... كانت هذه الجملة مثيرة للاستنكار من قبل الأعيان، فارتفع صوت أحدهم: وهل أصبح الجواري يتشرطن؟ وعلى الفور تنبه النخاس أنه استثار القوم، فحاول مداراة جملته السابقة: هذا دلال... فعاد الاستنكار جليا وقبل أن ترتفع معارضتهم كانت يده قد أطلقت إشارتها، فانبعث نور لطلعة جارية خطفت الأبصار والأصوات وساد صمت ثقيل لم يتمالك الكثيرون من رفع أصواتهم: سبحان الله... يخلق ما يشاء.. تبدت نواجذ النخاس: ألم أقل لكم.. وانطلق في حماسته: والله لم نر كجمالها... لم يكن أحد من الحضور متضايقا من هذا العرض إلا عمر الياردي وأخفى صوت استنكاره تدافع الكثيرين للمقدمة، ولولا وقوف صف العبيد كعازل لتم الصعود إلى الدكة أو الاقتراب قدر الإمكان لرؤية تلك الفاتنة التي أعمت الأبصار. بخفة ورشاقة غير معهودتين قفز النخاس لأعلى الدكة، وتناول يد الجارية متنقلا بها يمينا ويسارا، فصاح آخر: لتبدأ التحريج والفوز لمن حضر تأكد النخاس من الرغبة المتأججة لدى الحاضرين للبدء، فقدم الجارية وبدأ في ترديد مزاياها. صعد من الأعيان، واستعجلوا لبدء التحريج خشية من صعود كل الحاضرين.. أفرغت الدكة من الجميع حتى من المحظية الزنجية وتبقت الجارية بمفردها ترنو للجميع وكأنها تمطر في قلوب جدباء لم تخفق يوما. ارتفع صوت النخاس: من يبدأ؟ قفز البادي بالسعر مباشرة لمائة جنيه... فوجد اعتراضا من بقية الأعيان الذين طالبوه بالتدرج، فاظهر عدم الاهتمام: أنا جئت شاريا ومن يريد أن يزيد فليزد تنحنح آخر مطلقا صوتا جوهريا: مائة وخمسون جنيها... فجاءت الأصوات الخلفية هذه مبالغ مبالغ بها، وهؤلاء الأثرياء يسدون علينا ويمنعوننا من الشراء، فتلقفه أحد الأعيان هذه ليست للرعاع كم معك... فجاءته شتيمة من الخلف لم يلتفت إليها كثيرا لأن أحدهم قفز بالسعر إلى مائتي جنيه.... وعندما سمع عمر الياردي ترديد لقب الأخير أعاد صياحه بقدر ما يستطيع من قوة: هذا اش يبغى بها.. وأخذت الأسعار تتصاعد حتى بلغت 1350 جنيها ذهبيا، وذهبت من نصيب أحدهم الذي ظهر فجأة وإرضاء لجاريته الجديدة دفع 300 جنيه لمحظيتها... وتنافر الأعيان من سوق العبيد بمجرد أن ركبت الجارية عربة سيدها. ** ** ومن ذلك المنعطف خرج بقية العبيد في طابور ممتد يقتفون أثر النخاس صاعدين الدرجات المعدودات ووقفوا في صفوف منتظمة يتقدمهم الأقصر فالأطوال، وقد احتملت الدكة أربعة صفوف.. وعاد النخاس يحرج على كل جارية وعبد وهو يسرد صفات كل منهم. تكرار صراخ عمر الياردي أزعج المحرج، فاستدعاه: منذ الصباح وأنت تصيح ولم أسمعك تدخل في المزايدة.. ماذا تريد؟ التجم صوته فجأة، فأشار للعبيد بإبعاده إلا انه تمسك بالنخاس: ما أريده ليس موجودا على دكة العرض. قلت لك: ماذا تريد، فقد بيعت أجمل جارية وأوحش جارية.. أنا لا أريد جارية. أمامك العبيد فاختر منهم ما تشاء. أقول لك طلبي ليس متواجدا على الدكة. كاد الدلال ينفجر غضبه إلا أن حيرته أمام الياردي جعلته يتريث ويعيد سؤاله: لآخر مرة أقول لك.. ماذا تريد. تطلع الياردي لعيني سالم بن علي وبصوت منخفض: أريد عبدا مولودا..