تشعب طرق النمل ومثابرتها للوصول لهدفها هي الصورة المثلى لتقريب حالة الوافدين إلى بيت علي مبارك بحثا عن قطرة دم مخلوطة بماء زمزم. فاضت أعداد الطالبين عن حيز المكان، فلم يعد دم علي مبارك ترياقا للسعار، فمع ادعاء إياس موسى أن رشفة واحدة تخرج المس وتبعد العين، تزاحم الرجال والنساء وتحول بيت علي مبارك إلى مقصد يقصده القريبون والبعيدون. ألم ينته دمه بعد؟ زفر العمدة بجملته مخبئا بغضا عفيا ترعرع ونما بين ضلوعه القابضة على كره علي مبارك، وكلما وصلته أخبار النجاحات التي يحققها دمه في شفاء المسعورين ضاق صدره وتطاير شرر كرهه على مسامع جلسائه الخلص: علي مبارك أحط مخلوق على وجه الأرض. لم يكن ليستطيع التصريح بهذه الصفة لأهل الحي بعدما حظي علي مبارك بمكانه رفيعة وحصد ألقابا تقربه مرتبة من الأولياء، وكلما رأى اصطفاف الطوابير للحصول على قطرة دم سفه تلك العقول واتهمها بالجهل، فعزم على تثبيت الشكوك في أذهان مرتاديه: والله لو أن له دما بغزارة مياه بئر زمزم لنفد منذ ثالث يوم... أحس بالعيون الحارقة تخترق وجهه وتنشط الألسن لتنافح عن علي، فكسر تحفزها مظهرا إشفاقا كسيحا: لم أقل قولي إلا إشفاقا عليه، فلو أنكم تمدونه بما يقوي بدنه.. وندم أشد الندم على هذه المقولة التي وجدت قبولا من الجميع. فتداعى الأهالي لتقديم المال والأطعمة، وتبرع الجزارون باستخلاص جوف ذبائحهم لترميم دم علي مبارك، وتخير بائعو الخضار أنضج فواكههم وأهدوه، وجلب له العسل والسمن من بلاد قصية، وأقسمت عليه من يراودها شك أو يقين من إنها معيونة قبول حليها، وأفتى رباح الكحلي دفع زكاة الأموال إليه كونه من أبناء السبيل.. ولم يقف على منفذ الفتوى (ابن السبيل) إلا العمدة الذي تذكر مقدم علي مبارك عابرا للحي وسائلا عما يقيم به أوده، وعندما تمنع الأهالي عن إطعامه لجأ إلى كن دجاج حسن معافا وخبأ ثلاث بيضات في جيبه السفلي، بعد عملية اختلاس أفشلها نقيق الدجاج، فقيد قسرا وأوقف أمام العمدة بصلف رافضا الاعتراف بفعلته إلا أن انتفاخ جيبه حفز العمدة لخمشه، فإذا بيده زهكة من البيض، وجرى سائلها على فخ علي مبارك، وجرى معها خنوعه المتقوض أسفل خيزرانة العمدة التي تركت على ظهره أثرا داميا، فانتفض صائحا بالعمدة: سوف أشرب من دمك كما أسلت دمي. ارتاع العمدة لصفاقة هذا الغلام وهم باللحاق به أو إرسال أحد أعوانه لتتبعه، إلا أن حسن معافا أقسم عليه بأن يكف عن ملاحقة ذلك الصبي الذي أكمل حياته بين أزقة الحي يمتهن مهنة من يستخدمه. انتفض العمدة حينما لاح له خاطر أن تقوده الأقدار لأن يقف متوسلا للحصول على قطرة من دم ذلك الوغد. تناقل الناس أخبارا متعددة عما يحدثه دم علي مبارك من معجزات في علاج مرتاديه تقترب من الكرامات، ولم يعد أحد يصل لبيته إلا محملا بمال أو هدية، فغشي المكان خلق كثير ووجد بعض البائعة مجالا للاسترزاق بجوار بيته، فبسطوا فرشا واستظلوا تحت ألحفة علقوها لمواجهة أشعة الشمس وعرضوا بضاعتهم، وابتكر نعيم جلال لعبة قماشية مخاطة بخيوط ملونة ومطرزة بالصدف يتبضعها الزوار حماية من العين، مكللا عرض لعبته بقسم غليظ أن خيوطها غمرت في وعاء صبت فيه أصباغ مزجت بدم علي مبارك.. ولحق به باعة آخرون في عرض نماذج من بضاعات مختلفة الأنواع والأغراض كالسراويل والفانلات والكوافي والشالات، وكلهم أقسموا أن بضاعتهم باركها دم علي مبارك. ** ** كل من كان بالحي وصل إلى بيت علي مبارك لتطبب وتنوعت الأدواء والشكوى، فانتقلوا من علاج السعار والتحصن منه إلى طرد عين خبيثة أو استخراج جن أو إحياء بطن عاقر أو تزويج عانس أو استئصال خراج أو إصلاح ذات البين أو طلب النجاح في عمل أو الكشف عن سحر ظاهر أو مخبوء... اختلطت الأمراض والشكوى وظل العلاج متركزا على تناول رشفة دم. انكب الأهالي زرافات وأفرادا بحثا عن علاج لأي شكوى يجدونها، الكل قدم لهذه البركات إلا إبراهيم عاشور وأخته أميمة. فبعد الإحصاء الذي قام به إياس موسى بمعاونة عمر الياردي، ومراجعة كشوفات المتطببين وماذا قدموا من هبات وهدايا، تنبه عمر الياردي لعدم ورود اسم إبراهيم عاشور، فصاح مدعيا الويل والثبور إن لم يتم تدارك الخطأ الفادح: إبراهيم الوحيد الذي يسكن مع الجن وتسكن فيه، ولا بد من تطهير جسده وإلا انتقل بجنه إلينا. انقلب المتجمهرون حول بيت علي مبارك مطالبين بإحضار إبراهيم عاشور لكي لا تفسد تحصناتهم وتعود الشرور من خلال جسد أولاد عاشور، وأصروا على طلبهم مع تناقل خبر ما قالته زينب منور نقلا عن زوجها المسعور أن إبراهيم كان حاضرا في صفوف الجن ليلة شن الحرب عليهم، وليلتها قام باختطاف حامد المنفوش وأجبره على هد جدار قائم مفسحا منفذا لخروج كلاب الجن وعقرها للأهالي. واستغل الياردي هذه الرواية، مدعيا أن إبراهيم غدا من أهل الأرض ويجب استرجاعه. ** ** في ليلة انصباب أهل الحي لصحن بيت عاشور، كانت أميمة جزعة على أخيها الذي داهمته حرارة ارتفعت عشوائيا، فلم تمكن جسده الصلب من الانتصاب، وأغرت العجز أن ينال منه فلم يمكنه من الخروج لمجابهة القادمين من فجاج الحي لتكسير البوابات الخلفية لمنزله مع التنادي بقتل كل دائبة سعت في ذلك المكان. كانت تلوذ بعمق الدار حينما تخلص إبراهيم من نصائحها وجزعها، متحاملا على ضعفه ومتوكئا على (شومته)، ليخترق الردهات بتقاعس يقيمه بعناد المثابر ويغالب ضعفه بالسير باتجاه قفص أودع به كلابا شرسة. محبس الكلاب على بعد عشرة أمتار من البوابة الخلفية المتداعية، والتي تحيل ما بين الشارع ومجموعة غرف تقوضت وتداعت أسقفها فغدت خرائب تعيش بها كل الكائنات الباحثة عن فضاء لا تصله قدم، وإن جاورت تلك البوابة منازل استخدم أصحابها عرصات تلك الخرائب مرمى للقمائم أو تخزين فوائض حاجياتهم، ولا أحد منهم يخاف من كلابها أو المخمورين المستترين بها في ليالي سمرهم. وكان إبراهيم يخفي في تلك الغرف الشيء الكثير مما لا يحب أن يعرف عنه أحد من أبناء الحارة، ومن الأشياء المخفية هناك قطيع كلاب دربها على إطاعة أوامره مهما صعبت. لم تمر بأميمة ليلة أصعب من تلك الليلة التي وجدت فيها نفسها وحيدة لا تقوى على حماية نفسها أو أخيها الذي طالما شعرت أنها في مأمن بوجوده، إلا أن حالته المزرية وانهيار قوته وتداعيه أشعرتها بفداحة أن تكون امرأة في مواجهة حالة حب وكره في آن. انشغلت أذناها بتجميع كل الأصوات الخارجية الناقمة على بيتهم، وبالانصات جيدا لأنين خافت يخرج مع أنفاس أخيها، ومع تعالي الضجيج وصيحات الفتك خشيت أميمة على إبراهيم فلحقت به إلى منتهى الحدود الخلفية لبيتهم، أسعدها أنها وجدته قد استعاد عنفوانه بالإمساك بحنجرة المنفوش ورفع شومته على هامة شخص آخر لم تستبن هيئته آمرا إياهما بهد الجدار الحاجز ما بين محبس الكلاب والشارع الخلفي لمنزلهما، ولم يدعهما إلا بعد أن تقافزت الكلاب للخارج مستجيبة لتحريض أخيها. وعندما انطلقت الكلاب مسرفة في نباحها، بعد أن قضم أحدها كتف حامد المنفوش وتركه يجمع هلعه بالصراخ والاستغاثة، تهاوى إبراهيم في مكانه وكأن عنفوانه زفرة روح هبت فجأة وحين توهجت بتحقيق مرادها همدت وانطفأت في مكانها، فسارعت إليه في جلسته ليستسلم لتطبيبها فمررت أصابعها على خصلات شعره بحنو: ما الذي يحدث يا إبراهيم؟ لم تكن تعلم شيئا سوى أن حياتهما يكتنفها خطر داهم، فقلل من جزعها، وتحلق بعنقها متخذا من قامتها المنثنية عليه معينا على النهوض، فساندته ومضت به إلى الدهليز المنتهي بغرفته، إلا أنه جذبها نحو الروشان لرؤية تجمع أهالي الحي حول بيتهما، وما يحدثونه من صراخ وتنديد وقتل لكل الحيوانات والقوارض والقطط، ومع تراكضهم أمام الكلاب المهاجمة وتساقطهم ودهس بعضهم بعضا، تصاعدت فرحة أميمة وصفقت متهللة مما يحدث للأهالي من فزع وانفضاض من أمام بيتهم. ** ** وقف بعض أعيان الحارة يطلبون من إبراهيم عاشور الخروج إليهم.. وكان عبدالله البركاتي أكثرهم حرجا من أداء المهمة التي كلفوا بها من قبل أهالي الحي؛ لذلك تنازل عن ترؤسه للمجموعة، وأوكل بكري عبيد في مفاتحة إبراهيم عاشور بما جاؤوا من أجله: كيف انساق الجميع لقول رجل مختل كعمر الياردي؟ ليس الوقت مناسبا لمثل هذا السؤال يا بركاتي؟ خرج إبراهيم متلثما بشال أحكم تثبيته وحرص على إظهار عينيه فقط، رافعا صوته بكلمات الترحيب والتهليل، مفسحا للأعيان الطريق للدخول، كان حتى تلك اللحظة غير مدرك لمجيئهم، ترحيبه وإغداق نعوت التبجيل لمقدمهم، أعاد إليهم الشعور بأنهم مقدمون على ارتكاب خطأ جسيم بحق إبراهيم، فتمنعوا من الدخول معتذرين ومتحججين بأنهم يحملون رسالة قصيرة من الأهالي، فأظهر إبراهيم أدبا زاد من ارتباكهم ولكي يكسروا ترددهم: نحن نخشى عليك يا إبراهيم مما لحق الحارة من سوء.... وفقد بكري عبيد طريق الكلام، فاصطدم بحكايات قديمة، وتاريخ، وشائعات، ولم يكن ليخرج من حديث مغلق إلا إلى حديث آخر أكثر ضيقا مما سبقه، فقاطعه عبدالله البركاتي ممسكا بكتف إبراهيم: لا شك أنك سمعت بما أصابنا وقد تحصن الجميع إلا أنت وأختك ونخشى أن تكونا الباب الوحيد الذي يدخل منه الجن إلينا، ونحن مبعوثون لندعوك إلى الاقتداء بنا فيما فعلنا بأنفسنا وهو أن تتحصن أنت وأختك من الجن. قطم إبراهيم ضحكة خرج نصفها وتماسك بسؤال أراد سماع جوابه: ومن هو صاحب هذه الدعوة. طوح البركاتي يديه في الهواء: أصبح قول الياردي متبعا في هذا الحي وهو من تذكرك وأوصى بتحصينك. وعندما علم إبراهيم بأن التحصين رشفة من دم علي مبارك، أكمل ضحكته عاليا: من دواعي سروري، فنفسي تتوق لشرب دم علي كاملا. كان جليلا في استقباله لهم حتى أن جمال بامحسن أنكر ما يشاع عن رداءة سلوكه، وتواعدوا على التجمع بجوار بيت علي مبارك بعد صلاة العصر من الغد، موافقين على اشتراط إبراهيم أن يحضر الجميع طقوس ارتشافه للدم، وأن تغيب أخته عن الحضور ريثما يتحصن قبلها. ** ** يبدو أنك ستجمع بصدرك حثالة البشر. طرأت ببال إبراهيم تلك الجملة وهو يحدث نفسه بما يفعله علي مبارك من تصنع، فتزيده نفسه الحانقة اضطرابا في تحديد أولوياته في مواجهة خصومه. كانت خطواته قد وصلت إلى برحة تطل على بيت علي مبارك تجمع فيها الأهالي، وما زال التزاحم طلبا للشفاء شديدا، فعبر تلك المجاميع ليجد في استقباله نفس المجموعة التي طالبته بالحضور، ورأى أن عمر الياردي وإياس موسى قد انضما لهم، فتحرك معهم لداخل البيت مهملا طلبا تنادى به الحضور بأصوات مختلفة الارتفاع تطالبه بالكشف عن وجهه لرؤية ماذا فعل به الجن. تم إجلاسه في مواجهة على مبارك الذي أظهر مسوحا جديدا بارتداء جبة من القطيف الأخضر واحتزم بجلد دبغ جيدا وطرز بحبيبات من الفضة اللامعة وعلق سبحة مكونة من تسع وتسعين حبة من حجر الكهرمان تميل حباتها للون البني الغامق بفواصل من الياقوت الأحمر، كان أكبرها يمثل منارة السبحة معقودا بخيوط حريرية ذات ألوان حادة، يفرك حبيباتها على عجل وينثر حبات المستكى داخل مبخرة توسطت المجلس، ففاح بخورها في أرجاء المكان، لم يرفع علي وجهه في اتجاه إبراهيم بتاتا وزاد ارتباكه وغمغمته حين سمع جملة إبراهيم: أكثرت من الزبيب يا علي حتى توهمت أن دمك يجلب العافية. سارع إياس موسى بتقدم كأس احتوى على سائل محمر طالبا من إبراهيم سرعة ارتشافه: حتى أنت يا إياس أصبحت نادلا لدم علي مبارك؟ تململ الحضور من تراجع إبراهيم ومحاولته إطالة الوقت من غير أن يرتشف الدم، فسارع عمر الياردي موضحا ذلك التردد: إبراهيم يخشى من ارتشاف الدم فينكشف وجهه الذي عبث به الجن... نهض إبراهيم مزمجرا: كتب السحر والجن أفسدت عقلك ومنطقك يا عمر. وحال بين غضبته والإمساك برقبة الياردي بعض الحضور: لم تأتِ إلى هنا لإظهار فتوتك، لقد جئت استجابة لدعوتنا لك. وقد أجبتكم لكي أظهر لكم إفك هذا المحتال وأصحابه.... فارتفع لغط بين الحضور لم يمهله إبراهيم لأن يمتد: انأ على استعداد أن أرتشف كل دم علي مبارك بشرط أن يتقطر دمه أمامي. وجذب يدي علي مبارك عارضها على عيون الحضور وصائحا: هذا الأفاك يدعي أنه يشربكم دمه، فانظروا إلى يديه ليس بها أثر لوخزة أو جرح.. فهل يعطيكم من دم دبره؟ ارتج المكان بالكلمات المتقاطعة المستنكرة والمستقبحة إلا أن جلهم وافق على طلب إبراهيم بشرب رشفة دم طازجة، فاختلجت مفاصل إياس وهو يتلقى تهديدا مباشرا بأنه صاحب اللعبة الدنيئة فلم يتمالك امتصاص التهمة، فامتقع لون وجهه وتبادل النظرات السريعة العجلة مع علي مبارك الذي طلب أن يمنح وقتا للذهاب إلى الحمام، وكان ذهابه بوابة لأن يجد لنفسه منفذا للهرب مما جعل إياس يبوح بأن ما ارتشفه أهالي الحي لم يكن إلا قطرات من مشروب التوت خلطت بماء زمزم. وفي دقائق شاع ما فعله علي مبارك، فتنادى الناس للحاق به واسترجاع هباتهم له. وانسحب إبراهيم عاشور ومخيلته تحصي خصومه في مفاضلة بأيهما الأحق بالاقتصاص أولا، وإن كانت الحادثة الأخيرة تنازعه بأن يبدأ بعمر الياردي الذي هيج الناس على زعزعة وجوده باتهامه له بأنه غدا مسكنا للجن، وكلما تقاربت خطواته من منزله تذكر أن محمدوه وتلك الحجة هما من جعلاه يعيش في الظلام الدامس خشية من أن يرى الناس وجهه المعطوب بتشريطاتهما.. فيعزم على البدء بهما.