للشعر عند العرب خصوصية كبرى تتجاوز حدوده كنوع من الأنواع الأدبية، إلى حد أنه كان ديوانهم لعشرات القرون، ومن بين الشعراء الكبار الذي تحتفي بهم الذاكرة الجمعية والشعرية للعرب يطل محمود درويش كنموذج لآخر الواقعيين على حدود اليقين الشعري. وهنا نلتقي بالإعلامية إيفانا مرشليان التي قدمت بعد 5 سنوات من رحيل درويش الكتاب الوثيقة «أنا الموقع أدناه»، باعتباره تلويحة الوداع الأخيرة لما بعد الرحيل. في الكتاب، إيفانا تسأل، ومحمود يجيب ويرسل رسائله لنا، وهنا إيفانا تستعيد أجواء هذه الأسئلة والأجوبة وتاريخ الكاتب منذ أن كان فكرة ملحة إلى واقع ضروري، التزم به الشاعر وتحملت عبقه المحاورة وجاءنا بعد 5 سنين صوت محمود درويش ليقول لنا، هذا أنا، رحلت ولم أغب، ابتعدت ولم أنأ. هنا درويش لا كما نريده نحن ونتذكره، ولكن كما أراد أن يقدم نفسه معنويا وشعريا وإنسانيا بعد أن غاب جسديا فقط.. فإلى نص الحوار: - بصدور «أنا الموقع أدناه»، كأن محمود درويش يستكمل تراجيديته الشعرية، ببيان ما بعد الرحيل، وهذا يستدعي التساؤل: هل حاول درويش إعادة النظر في إجاباته بعد كتابتها، أم بقت بحلتها الأولى كماهي، رغم توالي السنوات وتعدد التحولات؟ *لم أشعر يوما، منذ عودتي النهائية من باريس - حيث مكثت ستة أعوام (1987 - 1993) أنني خبأت في مكتبي الخاص وبين سطور هذه الأوراق أي نوع من التراجيديا، لأنها لم تكن كذلك. ساد لدي هذا الشعور، ولأكثر من اثنين وعشرين عاما، لأن مناسبة كتابة هذه المخطوطة ارتبطت في مخيلتي بأقصى ما يمكن أن يشعر به إنسان من سعادة. اليوم أعرف، مع ابتعاد المشهد، أنها كانت خرافة أكثر منها سعادة. ولا أبالغ إن قلت، إن درويش أهداني في تلك الأمسيات المتكررة، نشيد أناشيده في الحياة والغربة والسعادة والفراق والفقر والانتظار والتعاسة، مع ما يمكن إعادة بعث حياتنا، وغربتنا وسعاداتنا وفراقنا وفقرنا وتعاستنا مجددا... من عبقرية الشعر وخيال صاحبه الذي فاجأني منذ أول لقاء بيننا : «يا رهيبة، في داخلك حزن دفين ... وأنا كذلك». بعد اللقاءات المتكررة وانتهاء الشاعر من كتابة أوراقه، وكان ذلك في أواخر ديسمبر 1991، خرج من مكتبه وجلس قبالتي وسألني بكل جدّية: «هل ستضيّعين أوراقي كما تضيّعين أغراضك الثمينة في المترو؟»، أجبته: «لا تخف، سأحرص عليها حرصي على نفسي. وبما أنك لففتها جيدا في المغلف البلاستيكي خوفا من بلل المطر، ستكون في مأمن من التلف ومن الضياع». شعرت للحظات أنه كان مترددا ولا يعرف ماذا يفعل. هل يسلمني إياها أم يبقيها لديه وينهي المسألة باعتذار صغير وفنجان قهوة؟ فاختصرت عليه طريق الحيرة: «لا بأس أستاذي. لا تخف. أنا لا أريدها. ابقها معك إن كنت حائرا. يكفيني أنني تعرفت إليك، لا أريد أكثر من ذلك. ولكن ، دعني على الأقل، أنقل الأجوبة للمجلة، إنهم يطالبونني بالمقابلة منذ أكثر من شهر... فهل تقبل»؟ حينها، أفرج عن المغلف وقال لي «لا، لن أعذبك بنقل الأجوبة. أنا مش هالقد سيئ ... إنها لكِ . فقط أريدك أن تعرفي أنها أكثر بكثير من أوراق لمقابلة. كنت فرحان أنا وعم اكتبها وقلقان وكان بدي احتفظ فيها لنفسي. بس يلا خديها بسرعة قبل ما إرجع غيّر رأيي». أخذت الأوراق في تلك الليلة ووضعتها في مخبأ أمين في غرفتي بالمدينة الجامعية، وعندما زارني في نفس المكان لأول مرة، في عيد الميلاد من العام التالي، أول سؤال تبادر إلى ذهنه «أرني مخبأ المخطوطة»، وعندما تأكد من ذكاء وأمان المخبأ تابع مرتاح البال «الآن نشرب القهوة... أرني كيف تحضرينها بوسائلك البدائية»، وراح يفتش في تفاصيل غرفتي الصغيرة ويقرأ في كتبي وأوراقي وقال لي «ذكرتيني بس كنت طالب. متلك، كنت عايش من ماشي». بعد ميلاد ال 1992، لم يطالب برؤية المخطوطة، لكنه كان يسأل عنها باستمرار «كيفها البنت؟ عم تنتبهي عليها»؟، إلى حين رؤيته إياها مجددا ضمن الكتاب شبه الكامل في العام 2005، وذلك بعد موافقته على مضمون المقدمة. الوقت المناسب الخمس سنوات بعد الرحيل، هل كانت مصادفة أم كان يقصدها تماما، وهل برر لك هذا الاختيار؟ * مسألة الخمس سنوات، لا أعرف تماما إن كانت مقصودة أم مصادفة، لكنني نفذت كلامه حرفيا كما أوصاني. بداية، في 15 نيسان 2002، في فندق الكومودور حيث وقّع «حالة حصار»، اجتمعنا وتكلمنا مطولا، ومما أذكره عبارة منه أثارت استغرابي «كل واحد بموت، الناس بتنسيه بعد سنة... كأنو ما كان». أجبته: إلا أنت يا أستاذ محمود. بعد عمر طويل، رح تكون من بين الناس الخالدين». وبعد أن تكلمنا عن الكتاب، أشار إليّ : إنشريه في الوقت المناسب . إجعلي منه مفاجأة. يعني لازم أقل شيء 5 سنين بعد السفر " . المرة الثانية التي تكلم فيها عن زمن النشر، كان في ربيع ال2008. كنت يومها في العمل، في بيروت، وتحادثنا سريعا بعد أن هنأته بعيد ميلاده. قال «أنا مسافر وإذا بدك إنشري الكتاب، ولكن بعد 5 سنوات على السفر». فأجبته «أكيد أستاذ محمود، متل ما بتريد... بس إنت لوين مسافر؟ وإيمتى رح تزور لبنان لنلتقي؟ فتهرّب من السؤال ومازحني: كيفها البنت؟ ضيعتيها أو لسه؟ ثم أكملنا في أمور عادية وأنهى كلامه» إلى اللقاء... انتبهي عحالك». - المقدمة للحوار جزء لا يتجزأ منه، ووقعت بتاريخ 2013، ولكنها تسجيل وثائقي لدرويش الباريسي إبان الحوار وتتكامل مع شهادات الحوار بشكل جذري، بل تسد فراغاته أحيانا، هل أطلع درويش على مسوداتها، وهل هناك تفاصيل أخرى لما حول الحوار لا زلت تحتفظين بها ولم يحن الوقت لإعلانها؟ حوار وثائقي المقدمة هي نتاج حوارات عدة مع الشاعر في انتظار انتهائه من كتابة المقابلة الأساسية بخط يده. كنت كلما عدت إلى غرفتي، أدون سريعا الحوار الذي دار بيننا، كي لا أنساه. كنا نتحدث في العديد من الأمور الجدية والأدبية وأحيانا العادية والأقل من عادية، كحالة الفواكه والخبز مثلا، أو إهمال ناطور المبنى الذي كان يعطيه درويش ملاحظات كثيرة حول النظافة وضرورة الاهتمام بمظلات سكان المبنى المبللة بالمطر. مرة مثلا، سألني درويش وكم كان غاضباً «إيفانا شو يعني إنت واحد مجوي بالفرنسي»؟ أجبته وأنا أضحك: حرام عليك ، ما بعرف. فرد كالبرق «عم تكذبي علي؟ بتدرسي صحافة بالجامعة وما بتعرفي شو يعني مقرف بالفرنسي»؟. إن الجو الذي أحاط بهذه المخطوطة الجدية نسبيا، تخللته لحظات لذيذة ومضحكة إلى درجة تستحق التدوين. إلى هذه الدرجة كان الشاعر درويش ساخرا ومضحكا في أجوبته السريعة كالرصاص. لم أغفل عنها ودونت بعضها ولا تتصور كم ضحك عند قراءتها إذ قال لي: برافو عليكي، ما نسيتي شيء من جنوني. أما لماذا وقعتها ب28 كانون الثاني 2013، فلأنني نقحتها لآخر مرة في ذلك تاريخ وهو تاريخ ميلادي. فقط للذكرى. - الأنثى، إيفانا، المحاورة، هل لهذه الثلاثية علاقة بأن يأخذ الحوار هذا الشكل الدراماتيكي، ليكون في النهاية بما يشبه، نشيد الوداع الأخير؟ *بعد عامين، حصل فراق عفوي: قررت فجأة أن أترك باريس وأعود نهائيا إلى لبنان لأسباب شخصية، لا أحب التوقف عندها. الشاعر أيضا حقق عودته إلى أهله وأرضه وعاش مرحلة أخرى، افتتحها في العام 1995، بعد تركه النهائي لباريس واستقراره بين الأردن ورام الله. لكن القدر كان أقوى منا، وفي ذات أمسية من العام 1999، عدنا والتقينا وتحادثنا كالغرباء بين آلاف المعجبين. وتكررت هذه اللقاءات في السنوات اللاحقة، وخصوصا في العام 2002، حيث اجتمعنا وقال لي: أعرف أن لديك أسئلة كثيرة تطرحينها علي. تفضلي. قولي ما تشائين... أريد أن أسمعكِ. استمع إليّ جيدا ثم أخبرني بهدوء: «يا إيفانا الحرية تمنها كتير غالي. ما تنسي هالشي، وأنا إنسان بحب حريتي وبقدس حرية الآخرين. بس ما بيمنع إني كنت دايما لوم نفسي: ما كان لازم زعّلها للرهيبة. بس إللي عملتوا كان لازم يصير». لولا هذا الحوار في نيسان 2002 مع درويش، لاعتبرت نهاية مقدمتي تراجيديا. لكن بعد حديثنا، سميتها البداية. حيوية الكتاب - حافظ الحوار على حيوته بما احتواه من آراء ناصعة وصريحة حول ماهية (الشاعر والإنسان والفلسطيني) في الحياة، هل تعتقدي أن هذه المحاور وتقاطعها هي الهاجس الأكبر لشاعرنا في مسيرته الإنسانية والشعرية؟ طبعا، ورغم الإطالة، وإشاراته المتكررة من تعبه بسبب طول الأسئلة، أحب الشاعر أسئلتي التي تمحورت حول الطفولة والأم وريتا والبعاد والتشرد والحنين وهوية الخيام وبيروت والقهوة والشعر والالتزام بالأصوات الواجب تمثيلها دائما، والمصادفة التاريخية والسياسية في إبرازه كشاعر لفلسطين دون سواه، بالإضافة إلى ماهية القصيدة لديه وخيبة الأمل التي قد تصيب ملايين القراء بعد ألف جيل، بعد أن فرش لهم الدنيا انتظارا. لن أتحاشى التواضع هنا، لكنني أفخر بأن درويش هنأني في الزيارة الثالثة، بعد تدوينه لعدد من الأجوبة وقال «الواضح من أسئلتك إنك بتعرفيني كلني أكتر ما بعرف حالي. والله إنت رهيبة... فتحتي شهيتي لأكتب حياتي بخط إيدي». على أن درويش في تدويناته، كان يكتب، كما تقول، هواجسه التي لم تفارقه طوال مسيرته الإنسانية والشعرية. الرسالة السرية - بعيدا عن أن يكون الكتاب أسئلة و أجوبة، هل هناك رسالة ضمنية تلمستيها في أجابات درويش وأراد إيصالها لنا بعد رحيله وغيابه جسديا وماديا عن حياتنا؟ * الإجابة على هذا السؤال صعبة جدا، فأنا أعرف أنه أراد تمرير رسالة ما لأحد أو لإحداهن ربما، ولو بعد جيل أو جيلين. ولكني لا أعرف تحديدا ما هي الرسالة ولمن؟ ما أعرفه إني سألته مرة، وكان يغني بصوت عال جدا وبفرح غريب: ما أكثر ما يجعلك تتمسك بامرأة؟ فأجابني: عندما أستطيع أن أكون حرا أمامها... في المرأة يأسرني أمران: الرقة والبراءة. إن فقدتهما، تصير المرأة كأي كائن عادي غير مثير للاهتمام. لا للسياسة - ما هي الأسئلة التي استنكف درويش الإجابة عليها، و هل لا زلت تحتفظي بها؟ * لا أذكر كل الأسئلة، لأنه ترك لديه القائمة كاملة ووضع دوائر حول تلك التي لم ينو الإجابة عليها. لكنني كنت أذكى مما يظن، إذ عدنا وتحدثنا في غالبية المواضيع، حتى تلك التي حذفها، فتركت المقبول منها وأدخلتها في حوارات المقدمة. لقد حذف الشاعر كل ما يتعلق بالسياسة مبررا ذلك: إنت جايي لتتهميني وتقوليلي إنو غلطنا في حقكن بلبنان أم جايي لمقابلة أدبية؟ ومما حذف من الأسئلة السياسية: حول المسألة الفلسطينية وتحولاتها ومنعطفاتها التاريخية في لبنان: هل تظن أنكم كنتم السبب في نشوء الحرب اللبنانية؟ وفي سؤال آخر: إنت عضو في منظمة التحرير الفلسطينية، هل تتفق مع ياسر عرفات؟ هل أنت موافق على مبدأ تقديم البدل المادي الرمزي وهو دولار واحد لكل عائلة فلسطينية في لبنان، بينما زوجات المسؤولين من الشهداء يمنحون ثروات شهرية لا تعد ولا تحصى؟ وأيضا: لماذا أبعدتم المسيحيين الفلسطينيين من المعادلة الوطنية الثورية، وجعلتم منها ثورة إسلامية ضد الاحتلال؟ لقد حذف درويش الأسئلة هذه معللا الأمر أنه سبق وأجاب على أسئلة شبيهة بها، وأن لا رغبة لديه في دمج السياسي بالأدبي في المقابلة. أحتفلنا معا - صدر الكتاب ودرويش لم يره وكان يعرف أنه لن يره، هل احتفل بعد الانتهاء منه؟ * احتفلنا معا قبل صدوره، وتحديدا عندما قرأ المقدمة واعتبرها في حكم المنتهية. قال لي: المقدمة خلصت، يعني الكتاب صار جاهز. رفعنا كأسي الماء بعفوية وقلنا لبعضنا، الكلمة عينها: مبروك! أسطورة حنان - أخيرا، ماذا تبقى من درويش في ذاكرة إيفانا؟ * الشاعر الراحل باق في مخيلة كل من قرأه، وسمعه يلقي قصائده أو التقاه ولو لمرة واحدة. إنه من الأشخاص الاستثنائيين الذين يعصون على النسيان. لا أدري لماذا لم أنس بعد ابتسامته وحنانه الفائق. كان أسطورة حنان. كنا كلما تمشّينا في شوارع باريس، يفاجئني بلقم صغيرة من الجبنة الفرنسية، يخرجها من جيب معطفه وقد لفها بعناية فائقة: لقد حضّرتها لك، بتكوني جوعانة... وبعض حبات الحلوى نتقاسمها مع الحمامات الرمادية التي غالبا ما كان يطعمها حصته الصغيرة.