في كل جبل أصم؛ حصاة، ينام خلفها النبع، من يزحزحها ويدل الماء؛ تنشأ باسمه القرى، ويتشبه الشجر بظله. لست أنسى الحريق وهو يصيح، ولا يُراد له صاحب. عويمر: يعن بوجهه الأمرد، شاحبا وساهما أبدا، يطالع وينفذ، يبصر ما وراء الشجرة ويعرف ما تخبىء الجدران. كأن ليس وحده في المنزل الواسع؛ زهيد العتاد، بالغرف العديدة والفارغة، ذي البئر في قلبه. لم نعهده إلا طويلا، يمشي في «المنزل» هو بيته وسماه الناس «المنزل» بقصد كان يمشي ويجول فيه، بيدين بيضاوين يغلق الشقوق بالجص، وفي المغيب؛ يكشف البئر، يسرح الأشباح بأكتافهم المتراصة ويفسح لهم الممرات. ينهض إذا دخلوا يعينهم واحدا واحدا ويلتفت لحديثهم، يرفع سراجه جهة بعد أخرى نحو السماء ليتفحص الوجوه، وما تحمل. عويمر يدور في أطراف المنزل، بثبات سوي، مثل نمر أرقط أمضه الحبس، وما أن يعبر العتبة، حتى ينتاب قدمه عرج قديم. نركض خلفه في طريقه الأليفة، في وقته الذي لا يتغير، وكلما نهرَنا الآباء أقسمنا أن ليس به عرج ولا بكم. جدرانه العالية بلا أسقف، مفتوحة طينتها على السماء، نصلها قفزا من أكتاف البيوت، نتدلى من شاهق جازمين أنه لن يرفع هامته؛ وإن سقطنا، نهزز بعضنا ونخوف الصغار؛ أنه يحبس أجسادا حية أسفل غطاء البئر. نتغامز كأننا نحن العفاريت، كيف له أن يسمعنا والطبول ساخنة كيف والنشيد ممسوس ويعصب رأسه. نعرف أنه عاد، كلما سمعنا همسا ونداءات لا يجيد الجيران نطقها. نقفز من سطح إلى سطح، نعتلي الجدران ونزحف خلف صوته، نطل من النوافذ الموصدة بالمسامير، نفتش عن الظلال التي يكشها ويتحاشاها، وهو يطوف، يطوي النهار تحت إبطه، يرتب مفارش الزائرين، يلوي أعناق الليل مثلنا، يولم الكلام ويوزع المعازف بعدل. يملأ كؤوسا وطاسات يوزعها، وكلما جن الظلام دار السراج واكتظ المنزل به بوقع رقص ينتشر في الخفاء. في الزقاق الضيق نقطع دربه المعتاد، الدرب الذي حفرته قدم أعمق من أختها بمحاذاة الجدران. نقطع هرولته ونناديه، مثلما يناديه الناس، بكنية فريدة. ونرى صمته يجوب الدكاكين، وإشاراته صريحة، حد توقف المارة وإطراقة الجباه. قيل إنها دراجته النارية الواقفة مثل كلب حراسة عند بابه، لم تتحرك مذ وصل قبلنا جميعا، ولم يره أحد يقودها، كل غروب، يلمع جلدها بالصابون والزيت والشمع. أتى من قرى عديدة، محتشدا برفقة لم نرهم، هكذا قيل أول مرة. لا أهل، لا ولد ولا طلاب ثأر، لم نعرف إلا جسما ناحلا، ضاع بين الأخيلة. نار لا رفاق لها: عقد الآباء حطبهم في ليل، خشية تولع الأطفال وافتتان النساء ومرضاة لمئذنة هرمة. وفي عجلة قضي الأمر؛ انعقد الليل على نار بلا شرر ولا مأوى، حبسنا في النوم وكانت أحلامنا الصغيرة تتقلب على لهب، وبهتنا في الضحى. الحريق: كل ما نذكره، أنا صحونا على صيحات غامضة، منعنا من الأبواب، غلقت النوافذ وسدت فرج السطوح، أدخنة متقطعة تعلو البيوت ولا أحد يجيب عنها، لم يعد بعد ذاك الضحى أحد يجتزئ اسمه ومعناه. ولا انفكت الرائحة تنفذ فينا كلما التقت أعيننا. الغدر وندمه؛ يتعاقبان، ويحدقان في الظهر. كل ما أذكره في الصور، أننا صحونا على غيبته، والمنزل مطفأ، أبدل بابه بجدار آخر..النوافذ ترمدت، يلف السخام جنباته، أقداحه مهشمة وبعثر خزفه وأوانيه. كبرنا وما جرؤنا أن نتذكره علانية، ولولا أمهات نقضن النذور المغلظة، في ليل؛ ما غصصنا: آباؤنا من استدرجه ليؤنس ليلهم البهيم هم من أرسل خلفه الرسل والأعطيات هم من أشادو بناءه هم الذين جابوه آباؤنا الأولون. بعدها امتنعت الأمهات عن ترديد أرجوزته، حتى لو عصاهن النعاس. ونكس الآباء رؤوسهم؛ دوننا شيدوا سدا عابسا وتفرقوا. عويمر في الضفة الأخرى دراجة نارية، تلمع خاطفة، تشق الضباب، في ذيلها سرب من الأطياف. كلما لمحنا ظلا يعرج خلفنا؛ أشحنا وصرفت أسناننا وسحنا الندم بالقبضات.