رفع الدكتاتور إصبعه في الهواء، «غرز» سبابته المعقوفة في ذاكرتنا وخط في وجوهنا سؤاله الوضيع: من أنتم؟! فهبت أرواحنا -نحن الشعب العربي- المكبلة بالظلام، سمعنا صليل الحديد وتخلع القيود، والصدأ يطفر من تفتق الأقفال.. كنا متيقنين بأننا على مقربة من النافذة، مددنا أيدينا فلم يعد الجدار يسند أكفنا ولم يأخذ بليلنا كما اعتاد كلما ادلهم الليل.. مددنا سواعدنا عن آخرها، فارتبكت العتمة وتساقطت سحجات عددنا الأيام بها وتناثرت على الأرض، واختلطت علينا أصابعنا في علامات الوقت، كنا نترقب يوماً كهذا الذي لن نحفره في الجدار ولا نعلمه إلا على أجسادنا بإظفر الضوء ولسعة الشمس.. كنا وعدنا النافذة أن لا ندعها عند انخلاع الباب، أقسمنا أن نطوي قضبانها بين ضلوعنا النافرة ونصعد الدرج دفعة واحدة، ونأخذ في شهقة عميقة نفساً طويلاً مثل صرخة نبي في بئر عتيقة. تلك النافذة مليئة بنظراتنا التي لم تصل، مرصعة بأحلامنا المحرمة، تلك التي كلما سمعت وقع البساطير، طيرناها وأغمضنا من جديد على حلم صغير، لنربيه حتى يشتد الأمل في جناحيه.. لكنها الجدران التي تخلعت وتخلت، لم تعد تحبس النافذة، بل انشقت ولم تعد تحمل سقفاً ولا حديداً.. وكان الهواء لذيذاً ونحن جوعى، لكأنها وليمة السهل حين ترصدتها نسور الجبال.. لكننا لم نرَ المائدة، كان الصدى يرتج في السفوح والوديان: من أنتم؟! فاندفعنا دونما ألم، بأجساد لم تزل موسومة بالأثقال، ذهبنا ولم نسمع الطريق، وكل نجم تراءى حسبناه دليلنا، ولم نتردد عندما خالف دربنا الشجر وظننا أغصانه إنما تهش الغربان عن دربنا. وكلما رددت الريح: من أنتم؟! ولفحت وجوهنا الحروف، لكزنا الألم في خاصرته حتى أزبدت أجسادنا، وتطاير الحصى من لطم الحوافر وضاعت عيوننا في الغبار.. من أنتم؟!.. ليتنا فكرنا قليلاً في السؤال.. ولم يأخذنا الإثم مثل صخرة ندفعها إلى الأعالي.. من نحن؟ لربما لم نقفز هكذا من الحافة دونما أن نتوقف لأخذ نفسنا الأخير، لربما تلفتنا قليلاً وأخرجنا النافذة من صدورنا وعددنا الأحلام ثم غرسناها، وأين هي الأحلام التي رافقتنا من تلك التي نقشنا بها الظلام.. لربما توثقنا من الأكتاف التي رافقتنا والأكتاف التي هوت وتلك التي تتحين الطليعة بعد أن تتقطع الأنفاس، لربما كان علينا أن نتوثق من تلك اليد التي تقبض على الحبل، قبل أن نقفز من الحافة، قفزتنا الأخيرة.