«ربما غدا» أشبه بمسدس كاتم الصوت تضغط فيه الأديبة شيمة الشمري على الزناد، فتخرج طلقات ليست من نار، بل من كلمات، كل واحدة بحجم رصاصة، لا تردي الآخر/ القارئ قتيلا، بل تسعفه على ولوج عوالم شتى مانحة إياه الحياة عبر غرس نبتة المتعة، معها المعرفة طبعا، للعيش ضمن كوكتيل من البداعة، الروعة، والدهشة.. إنها تمنح القارئ القدرة على اقتحام الحياة مع تأشيرة الدخول لجنة من الكلمات الأثيرية لا يجف جوانبها أبدا؛ لأن الاخضرار هو ديدنها. هناك تتعرش ألفاظ تنتقيها القاصة لتهبنا عالما مُبهراً مدهشاً يمر من القلب، فيستقر في العقل، وفي النفس سؤال: «أي سحر هذا»؟!.. الكلمات في مجموعة «ربما غدا» تلبس زي «شرطية» محترفة تعمل على إشاعة النظام بين تراكيب من نوع خاص تستمد تربتها من خيال خصب، أما سمادها فموضوعات جريئة لا تعترف بكلمة «قف» أبدا، ليس خرقا للقانون، إنما أمام كل ما هو شاذ مستفز في المجتمع.. تطرحه شيمة الشمري طرحاً صحيحا بومضات موحية دالة، وقوية.. والخصوبة التي تمنحها الومضات في «ربما غدا» تملأ نفس القارئ بأسا، وتمده بطاقة هو في حاجة إليها في واقع، كل ما فيه مستفز حتى النخاع. أول ما لاحظته و أنا أستمتع ب «ربما غدا» هو ذلك الارتباط الوثيق بين واقع تنتمي إليه، وبين واقع متخيل من خلال طرحها الجميل لما يجب أن يكون، هي لا تصرح أبدا بالحلول لقضايا وقفت عندها وقفات متفحصة، مطروحة بشكل أخاذ، وبلغة مخملية.. إنما كانت شيمة تكتفي بتعرية الواقع، وفضحه بأسلوب فانتازي، أقرب إلى تلك الدهشة التي تأخذنا حين نقرأ جابرييل غارسيا ماركيز.. إنها بمثل ذلك الطرح السحري تخلص لواقع عربي محض.. لا تتنكر له، إنما تعترف بانتمائها إليه، وهنا وجعها، ولذلك تملأ حقيبتها «ربما غدا» حفناتٍ من تراب الأرض التي نقف عليها معلنة التشبث بالجذور في مجتمع عربي، كل التناقضات أعمدته، ومؤسس على أخلاق زائفة وبإحكام، ولا يحدث فقط أن تنتشر فيه أفكار خردة في زمن الإعلام والتكنولوجيا بشكل مبالغ، وينظر إليها كبدهيات لا كنشاز وتكرس بشهية عجيبة من الماء إلى الماء! حرصت المبدعة في كتاباتها كافة على اقتحام عوالم كانت موصدة تنتقي منها الهامش، البسيط، والمستهلك العادي، فتحوله بلغة رشيقة إلى أجزاء مألوفة لكن عجيبة، يقف عندها المرء وقفات متأنية بعد أن كان يدير لها ظهره ويمر بها سريعا غير مكترث.. إنه الإبداع الذي يحول المردود المرفوض إلى مرغوب فيه، عبر قناة السهل الممتنع. ولنا في المجمتع العربي ظواهر شتى، ينتبه لها شهود كثيرون، فما أكثر كتابنا الذين اقتحموا المسكوت عنه، وناضلوا بالقلم لفضح أساليب القهر، والظلم، والاستبداد!! وكما جلجامش، المسافر المتعب، الذي ضرب في الأرض غربا وشرقا، وغورا ونجدا من أجل نبتة الخلود، ناضل هؤلاء من أجل نبتة من نوع آخر حرصوا ألا تضيع منهم كما في الأسطورة.. تلك هي نبتة الحرية، والسلام والديمقراطية، وإشاعة الجمال في السلوك اليومي المعيش، والكتابة باستمرار إنما مقصودة من أجل تكريس هذه القيم الجميلة، والعمل على غرسها في الأرواح، نهارا عبر فتح كوات ينفذ منها نسيم عليل في واقع ملوث، وليلا عبر ضوء يكون كاشفا، حتى يمنح الرؤية للبصير والأعمى معا.. هل أحتاج لهذه الديباجة لأقول لكم بأن المبدعة السعودية شيمة الشمري من هؤلاء.. آثرت الكتابة الكاشفة عن ارتفاع الضغط في الواقع العربي عبر جنس القصة القصيرة جدا؟ في هذه المجموعة طرحت الكاتبة ثيمات ذكية طرحت فيها صراع الإنسان مع الإنسان، أو مع الذات عبر استقرائها، وفي النصوص ترتفع جذوة الإيقاع فيها وتتوزع قفلاتها في سيمفونية بديعة تدخل القارئ في رفق وإثارة إلى جو السرد البديع في أرقى المعاني حول ما يشغلنا، ورغم إيمان شيمة الشمري بالقضية التي تكتب عنها، فهي لا تقترح حلولا لمشاكل الإنسان في صراعه الدائم، إنما تحرص على القص الجميل بغية لفت القارئ إلى الأشياء من حوله، تغمره بالحماس، وتجعله يطرح أسئلة كثيرة، الجواب عنها متروك للقراء حتى ينتصروا للحق، والجمال، والحرية... والحق أن متن قصص «ربما غدا» تفاجئنا لا بالطرح الجديد فقط، بل من خلال نهايات تترك القارئ يضمر ملاحظة: ياه.. كيف لم أفكر في هذا من قبل! وحتى لو فكرنا مع شيمة الشمري معها لا عنها فإن حرصها على الومضة/ الدهشة تستثيرنا، وتولد لدينا أسئلة مع كل نص، وهذا ما تراهن عليه عبر طرح جميل لموضوعات عالجتها بحبكة محترف لها صلة بواقع عربي مهزوز نحو الطفولة، الرجل الخنوع والمخادع، الحب، الطبيعة، الجمال، الزواج، الشرف العربي، الفراغ القاتل في مدن عربية حافية، الخوف من النهاية، وكذا الكبر، الطفولة المغتصبة، الطلاق، أزمة القراءة، غربة المثقف.. هي موضوعات متنوعة اشتغلت عليها الكاتبة وحرصت على إضفاء عنصر الدهشة في نهايات كل قصة بدون استثناء، وتركيزها على «المرأة» تحديدا داخل وخارج البيت، ففيهما تميط شيمة اللثام عن أسرار كثيرة؛ وبوجع مغلف بسخرية تقتنص عن قصد، وهي تنقد ابتسامة عريضة رغم الدراما التي تسيج قصصها.. وفي كل نهاية دهشة «مترفة» نحس معها بانسياب داخلي يغسلنا من الداخل ولو للحظات.. في قصة «صراخ» مثلا نقرأ: «تعالى صراخ الطفلة وهي تلعب مع قريناتها.. والدتها ترقبها بسعادة.. طلبت منها إحدى صديقاتها أن تهدئ صغيرتها، فقد بح صوتها من كثرة الصراخ.. تبسمت الأم وهي تقول: (دعيها تتعود على الصراخ، غدا تصبح زوجة!!)» كيف لا نبتسم مع وقع هذه القفلة على النفس.. كررت فيها الأديبة شيمة الشمري كلمة (الصراخ) في النص ثلاث مرات، وهو تكرير مقصود، لقد بح الصوت من الصراخ فهل من سامع؟ وفي قصة «عرق» تستفزنا بطرح ثيمة أخرى: «منعوها من الزواج به لأنه أسود البشرة! لم يغفر له بياض قلبه وعشقه لها..تنظر إليهم وتتعجب من هذا السواد الذي يسكنهم وهم لا يشعرون!» إيه كم من أنهار ومحيطات نحتاج لغسل هذا السواد الذي يزداد ككرة ثلج حين يعلق بالقلوب. تتسلح المرأة، هنا، بجرأة لتقول رأيها في المثقف الحقيقي.. «بعد انتهاء الأمسية سألتني بحماسة: ما رأيك به؟ أجبت: لم يستحوذ على انتباه الجمهور.. كان مملا، تقليديا، متعجرفا.. ردت بحدة: كيف؟ لقد كان في أوج تألقه، وسيما، أنيقا، طوله و... قاطعتها: بأسى: يبدو أنني لست مثقفة بعد!!».. وهذه القوة نلمسها في نصوص كثيرة مثل «بينهما» و«ما زالت» و«من جديد» و«سياط» والمرأة في كل الأحوال كما تقول شيمة في نص «ما زالت» : «على ثقة بأن هناك عالما أفضل، حيث تعيد ترميم ما بقي منها، فتستبدل تلك الأوجاع بأغنية فرح بيضاء...». المبدعة شيمة الشمري لم يثرها في المجتمع العربي شيء أكثر من شيوع أفكار بالية ما زالت تكرس، لقد تناولت هذا الطرح في نصوص مثل: ثرثرة النون ليكن حسرة عقدة مفاتيح آدمية سواد سياط الدش اختناق.. وفي نص «حسرة» تطرح شيمة، بشكل بديع وساخر، قصة امرأة خرجت للسوق صحبة صغيرها، وحين بحثت عن وسيلة نقل: «كانت السيارات كثيرة»، والإشارة إلى كثرتها هنا مقصودة لأن أصحابها الذين يتكلمون لغتها، ولديهم صغارهم أيضا تعاملوا معها كما البقرة الحلوب، كانت امرأة، وكانوا رجالا (الرجولة هنا بمفهوم الذكورة لا الأريحية والشهامة المنعدمتين).. كانت وحيدة، وكانوا كثرا، كانت في حاجة لسيارة تقلها، وكانوا هم أصحاب هذه الحاجة فركبوا رؤوسهم الثقيلة بما فيها من أفكار بالية.. «حسرة» تبين كيف أن رؤوس بعض الرجال مثل النباتات في القوارير، كما يقول الروائي السوري حنا مينة، لا تنبت إلا بالحجم الذي يسمح لها، هناك تتقزم حتى تذبل.. وتأسيسا على ما سبق فإن حضور المرأة في كل نصوص «ربما غدا» لافت، لا يختلف حوله اثنان لأن الحيز الكبير الذي تحصده غير خاف. ويمكن حصر الثيمات الخاصة بالأنثى في «ربما غدا» والتي جردنا بعضها في التالي: المرأة و علاقتها بالآخر/ الذكر، والمرأة وعلاقتها بالآخر/ الأنثى، المرأة واستقراء الذات. ويمكن تقريب موضوع المرأة في مجموعة «ربما غدا» بالخطاطة التالية: إن القارئ حين يمتح من عيون هذه الومضات، تنال منه بعض القفلات العجيبة، ترميه بضوء كاشف لتزيل عن عيونه ما يعلق بها من شوائب، والرؤية الضبابية للأشياء، إيمانا من شيمة بأن معالجتها إنما تحتاج لما يترك أثرا كما الحريق تماما عبر نثر الصدمة من كلمات قوية، والطلقة/ الكلمة التي لا تردينا قتلى تعمل على تكريس فعل الأمر فينا، وهو «تأملوا». تقول شيمة في نص مخملي بعنوان «هلاك»: «طال انتظاره.. توكأ على الرغبة وسار باتجاه الشمس، أحس بالدفء.. بدأ بالانصهار.. حاول التراجع، لم يستطع: فقد تلاشت أطرافه..» إنها القدرة على الدفع بنا نحن أيضا نحو الشمس، إنها دعوة من شيمة للبحث عن شمس تأخر شروقها في بلداننا العربية، وفي حال غياب هذه الشمس طويلا، علينا أن نختار أين ننضج جيدا كما قال الرسام والشاعر الفرنسي هنري ميشو: «في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد.. أو في جريدة.. أو...» وننضج نحن في «ربما غدا»، وفي كل إبداع يراهن على بناء الإنسان لا هدمه.. نقرأ «ربما غدا» ونتأمل وتبدو لنا الأشياء على حقيقتها، ولكي يتبدى لنا الواقع كما هو فعلا، على ما نراه عليه حقيقة، لا ما يريدون هم، من صلف مجاني، أن نتعود على التأقلم معه.. لا بد أن نعيش في الدنيا ليس كمستأجرين إنما كما لو كانت دار أبينا حسب رأي الشاعر ناظم حكمت.. طبعا هذا إذا شئنا أن نعي الأشياء بشكل جيد.. ماذا في «ربما غدا» غير الكلمات..؟ كلمات تنثرها الكاتبة عبر ومضات تخزنا، تنال منا، توقظنا، وإذا أصررنا على سباتنا تمد لنا لسانها ساخرة بنصوص تتهكم فيها من تخلفنا، وسكوتنا.. والكلمات التي لا تخزنا كما الإبر، لا تشكل سوى عبء ننوء بسببها... الكاتب فرانز كافكا آمن بقوة الكلمات، واعتبرها إبرا، إن لم تقم بفعل الوخز فهي موات، وإذا لم نتفاعل مع قوتها وهيمنتها.. فما نكون سوى جثث محنطة لا ينقصنا سوى الإعلان عن وفاتنا كما قال الراحل نزار قباني! وقد تساءل الروائي الكبير عبد الرحمن منيف بلسان أحد أبطاله في رائعته «الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى» قائلا: «هل الكلمة يمكن أن تواجه الرصاصة؟ وهل تستطيع الأوراق الهشة أن تحرر سجينا واحدا أو أن تفتح كوة في أصغر سجن من هذه السجون العربية؟» إن الكلمة الصادقة قد لا تظهر نتائجها بسرعة، ولكن حين تستعير قوة الكلاشينكوف مثلا فلا بد أن تتحول إلى قوة، وتكون قادرة على فعل ما لا تقدر عليه الألغام المزروعة، وإذا كانت هذه تصنع العاهات، فإن الكلمات تصنع الإرادة في أبهى صورها، وتعمل على التصدي لفيروس الخوف الذي يعشعش في العقول. شيمة الشمري تعي قوة الكلمات في منح أشياء كثيرة يعدمها المرء، لذلك آثرت نثر بذور الأمل فينا انتظارا لفجر جديد، إن لم يكن اليوم، فربما غدا. وسيلتها في ذلك هذا القص الجميل الذي يسعفنا ويوقظ الحس الوجداني فينا، فنتحرر بسببه، ثم يكبر شيء ما في دواخلنا، نعم، إن لغة شيمة تفعل ذلك فينا،. إن الإبداع لا عنوان محددا له، إنما حاديه هذه الكلمات الجميلة التي تقول أشياء كثيرة في أبهى صورة.. ملايين الرصاصات التي ملأت الدنيا ضجيجا وعجيجا انتهت إلى الصمت المطبق، وملايين الأسلحة الفتاكة صنعت العاهات صحيح، وتركت أثرها السيئ نعم، لكن وقع طلقات الكلمات حين تكون صادقة تصبح أقوى من كل الأسلحة مجتمعة، تغدو ترياقا لكل سموم الفوهات في كل زمان، وفي كل مكان.. وأنا أستمتع بقصص شيمة الشمري استحضرت كل هذه المعاني السامية للكلمات، ولا سيما التي تركز على إيقاظ الحس فينا، كلماتها ليست إبرا فقط، بل طلقات كما أحب أن أسميها.. قصص شيمة الشمري هادئة، نضجت على نار هادئة؛ لذلك هي صاحبة سكون صاخب، لا تصرخ، ولا ترفع صوتها عاليا من انفعال مجاني.. وهي حين تتحرر وجدانيا، وتحس بالراحة تتقد، وتنضج في القصة القصيرة جدا، وإذا أبدعت فلا تكتب عندئذ إلا لتقول أمورا ذكية، لافتة.. وتهبنا، في النهاية، دررا كما في «ربما غدا». وشيمة مع ذلك تخدعنا بهذا الهدوء؛ لأن ما تتمخض عنه قصصها من تعرية لواقعنا العربي المعيش هو في الأصل له صوت رصاص المافيات، يلعلع ويوقظ حتى «الموات». والقارئ لقصص «ربما غدا» لن يخرج سوى بنتيجة واحدة، وهي أن شيمة الشمري تحمل هما حقيقيا، له صلة بجذورها العربية خاصة، إنه هم يثقل كاهلها، وتريد عبر قصصها أن تشركنا معها. تقول الشمري في نص «أمنية»: «كان أعمى..عندما قابلها انبثق ضوء منها متغلغلا في عتمة قلبه؛ فأضاءت حياته.. لم يعد أعمى..» وفي انتظار أن ينبثق ضوؤنا عمرنا طبعا وننتظر الأجمل فإن لم يكن اليوم ف«ربما غدا».. * كاتب وقاص من المملكة المغربية