«عكاظ» الثقافية كغيرها من الصحف تستقطب الأسماء الجميلة والنصوص الإبداعية التي تعبر عن فاعلية أية صحيفة وأثرها الجميل في صنع مساحات يلتقي من خلالها المبدع القارئ؛ بالمبدع الكاتب، وهي حقوق أدبية تتمثلها الصحيفة وربما تتحمل تبعات النشر والاختيار ولأن هناك نصوصا جميلة ما بين السردي والشعري استضافتها صفحة «رحلة إبداع» الأسبوعين الماضيين؛ فإن قراءة سريعة لا ادعي أنها نقدية بقدر ما هي نثر حزم ضوئية واستعراض لمكامن الجمال ومقترحات الإبداع أمام جمل إبداعية لا يعني أننا نضيف إليها بمقدار ما نتيح لها فرصة المثول من جديد أمام الوعي الفني، فيكون لنا منها الاستزادة وتكون لنا فيها الإفادة. «المسدس» تصوير جميل لقيمة الإحساس الإنساني الذي يمكن أن تتشكل من خلاله عاطفة الحب رمزا للقوة والثقة، استحضار المسدس وهو عبارة عن آلة مرتبطة بالحرب، واستحضار مكانه المجاور للقلب يعبر عن الارتباط بالحب ما يفعله المسدس في الحرب، يفعله الحب في السلام. لغة المبدعة منيرة لغة وصفية توحي للقارئ العادي بأنها قريبة إذا ما كانت على ظاهرها، وسطحها يعبر عن عمقها، بينما البعد الفني الذي نسجت الأزيمع عليه أقصوصتها بعد مرادف؛ إذ إن جمالية المعنى تبرر استحضار اللغة الموهمة والجمل المخبأة. تركت الأزيمع هذا النص القصير متشظيا عند كل قارئ يستلهم رؤية بعيدة أو كل متلقٍ تتراءى له المعاني الغائبة، فيبدأ القارئ الضمني يصارع القارئ النصي ويميل عنه بمقدار ما يخاطب فيه من صور وعواطف وقيم وتجارب، وكذلك الناقد الذي يجد النص يمر بين يديه ليخرج نصا آخر بعد أن ترك معالم الدهشة على ملامح النص الأولي. «قابيل يفاوضني على دمي» لغة النص الشعرية تشف عن مبدع حقيقي إلا من بعض الجمل التقريرية في مساقات النص كقوله «كلما دارت الأرض دورتها» ، «كوني سرابا هباء صدى»، «لم ييأس الآملون ولم يأمل اليائسون»، بينما نجد جملا رائعة حيد من خلالها بعض الرؤى الواقعية أمام خلق أحاسيس جمالية تكتمل بطريقة تقديم الدلالات؛ أثار من خلالها الطاقات الإيحائية التي تشي بالتوالي والانسجام بين لغته وصوره ومضمونه. من المقطع الأخير: «من يفتح الآن لي كوة كي أطل على شجي في السماء وأرشي قابيل حين يفاوضني عن براكين خامده بالدما، عن دمائي عب قابيل ما تشتهي سوف تشرق يوما بهذه الدماء والمدى بيننا شاهد والمدى شاهده والزمان الذي يتمدد ما بيننا ليس أطول من لحظة واحدة...» يشعرك المبدع بأن قوة النص نابعة من إحساسه القوي والصمت الذي كشفت عنه التناغمات الإيقاعية التي رصدت نبض الشاعر وهو يصف ما حدث في الشارع الشامي من خروقات وانتهاكات واعتداءات وخيبة. «السعادة لا تتذكر أحدا» جاسم من أجمل الأصوات الشعرية في مشهدنا المعاصر، يمنحك احساسا عارما بقيمة اللغة الشاعرية وهو يربت على كتف القصيدة، ولا أستطيع أن أقول إن كل جمله الشعرية ذات لغة شاعرية، لكنه بصفته مبدعا مثله مثل غيره ممن تفرق آنية الموهبة لديه جملا شعرية مميزة وقيما إبداعية تفر من بين يديه أحيانا. بدأ النص بجملة رائعة البناء : «بالحب سيجنا الخريطة كنت أنت الشعب يسكنني وكنت أنا البلاد» ولأن الإيقاع ألزمه (يسكنني) إلا أنني لا أرى من حيث الإيحاء التصويري حاجة إلى هذه الجملة الفعلية، إذ بعد أن تم صنع السياج للمكان العاطفي، استحالت الحبيبة كثافة محاطة بالبلاد فالسكنى للشعب داخل البلاد تضع القيد في معصم القارئ المبدع، الذي كان يود لو أنه استحضر «الشعب» الآخر أمام «الأنا» الشاعرة التي احتضنت صوتها دون التحكم فيها حتى يثير الفراغ، يخلق الحيز، يصور الألم، هو معنى يحركه المتلقي بصورة الممكنة دون حصره في اللفظة المكشوفة التي أسهمت في تقييد الغاية من الارتباط أو انصهار «الآخر» المغلوب في قفص «الأنا» الغالبة. وتأتي تعبيرات الجمل الشعرية اللاحقة ذات تنبيهات تباغت التوقع، وتناغم بين أحادية المحاصرة من جهة وثنائية الحب والقلب من جهة أخرى: «وطن بحجم الحلم نحن لنا من النجوى مدى ولنا من الشوق امتداد» وهيمنة الذات الغالبة على الضحية المغلوبة، جزء من تكوين بناء القصيدة وكأنها عنوانها الحقيقي (بيني وبينك لا مفر) وهو المقطع الذي سبق قوله: «وهل بمقدور الكتابة ان تفر من المداد» ليعبر عن حجم الارتباط الذي يلح على تبريره الشاعر، فالناتج مرتبط بالسبب والأنا الشاعرة تكون هي المآل وهي الخاتمة التي تتجه إليها الذات الأخرى: «فإذا نضجت أنا الحصاد وإذا احترقت أنا الرماد» الهيمنة هنا لا تعني السيطرة الخالقة، بل السيطرة التابعة. فالمآل لنضج الثمار أن تحصد، فهي عندما تحب بصدق موعودة بالمحب الصادق، وعندما تشعر بالعذاب، ستتجه الذات الشاعرة إلى الأمام إلى المآل وهو ناتج العذاب ناتج الأسى من دموع وهلاك أو انطفاء. هكذا يصحب الشاعر في ذاكرته ثنائية المخيلة التي يراوح في رسم ملامح علاقاتها، والتخيل من أكثر الحواس لذة وصنعا لجمالية المتوقع المنتظر . لكن مبدعنا يضطر مرة أخرى لخرق نكهته الجميلة بلفظة ( المراد) لمباشرة نم عنها التركيب الترادفي : «وإذا ابتهلنا فالدعاء أنا وأنت الاستجابة والمراد» • هذا التلاحق الترادفي فرضه التكرار الخاص بالتناغمات الايقاعية ربما لا يفقد الجملة الشعرية الانسجام، على أن صيغ الترادفات خصوصا فيما يتصل بالشعر الحديث تنهك المعنى أكثر مما تحتضنه القصيدة الكلاسيكية التي تظل محوجة له بضخ الجزالة فيه واكتمال الدلالة، على أن القصيدة الحديثة مطالبة بالتخلص من الترهل في مكونات النص من ترادف وتضاد وتوابع وتكرار وغير ذلك مما تتطلب الكثافة الشعرية فيه صياغة منسوجة تبعا للغة أو حتى استجابة لهيمنة القوالب الايقاعية، والكتل الوزنية، التي ربما أفضت بالنص إلى مساقات العادية، والمساحات المملوءة، فالتحرر في عوالم الشعرية لا يقابل صنع القيد، وإنما يحقق له فرادة باستنهاض القيم المخبوءة، واستلهام أكبر قدر ممكن من الدلالات المحوجة إلى تحرير المعنى من سطوة اللغة، يعبر عن ذلك جمال الصحيح الذي أطلق جملة مكثفة مفعمة بالشعرية ناجزة الدلالة: «إن السعادة بنت هذا اليوم عبر سلالة التقويم» «العيدية» قصة قصيرة كان بإمكان المبدع الثنيان أن يجعلها اقصوصة أو قصة قصيرة جدا ومكثفة. الحدث ليس المراد منه التلذذ بالتفاصيل، وليس لعرض صيغ الأحداث القصيرة أثر جمالي في خلق الدهشة، بقدر ما كانت خاصية التكثيف أقدر على تفويف النسيج التعبيري بلغة مجردة، ذات صياغة قادرة على اختزال المشاهد عبر القفز على المسكوت عنه والحذف والإيماء والدلالة فيمكن أن تكون القصة الجميلة أكثر جمالا لو تم حذف المقاطع التالية: «بعد الانتهاء من صلاة العيد في المسجد» «تريد التحليق في سماء القرية» «يحس بالنشوة لتلك اللحظة التي سيمتلىء فيها جيبه بالريالات» «هي منحة من الله على الكائنات هذا اليوم» «وتطلع لما هو قادم» «التي اعتادت على إعداده صباح كل عيد» «وكأنها علمت بالأمر» «بعد قليل أقبل الأب مع اخوانه الكبار» وهكذا........ ماذا لو أن أحدا آخر عبر عن هذه القصة قائلا: «...حملته طرقات القرية عائدا من مصلى العيد، أخذ العيدية مع قبلة أمه، خرج إلى الساحة، أقاربه يشعرونه بالفرح، عيدية مع كل سلام، قلبه يخفق أنسا، لم يستطع أن يصبر، وجد نفسه سريعا أمام بائع الألعاب بعد أن اختار لعبته وآواها إلى صدره أدخل يده في جيبه لم يجد شيئا....تحسسها بحزن عميق...(خرجت) يده مع فتحة ثوبه اللئيم ... و(خرجت) من عينه دموع الاشتهاء...» من خلال هذا الإيجاز والتكثيف وتحرير القصة من فضول الكلام والتفاصيل غير المؤثرة، يبدو تأثير النص أبلغ من التصريح بهبوط الريالات والتساؤل كيف ترك الخياط جيبه مفتوحا؟