قرن من الزمن مضى على قصيدة النثر وما زالت حائرة تبحث عن بطاقة تؤهلها لدخول نادي الشعر.. «خطيئتها» الكبرى في نظر النافين لها، تتجلى في تحطيم الموروث الموسيقي المحفوظ في ذاكرة الشعر العربي، بوصفه شرطًا أساسيًا يفرق بين الشعر وما دونه من أنماط الإبداع الأخرى، كما يعيبون عليها المزاوجة في اسمها بين جنسين أدبيين مختلفي الشروط.. وغير ذلك مما يلصقونه بجسدها من المثالب مثل الغموض والتهويم، والأخطاء اللغوية.. وغير ذلك.. أما روّادها ومحبوها فيرونها «قمة» التطور في المشهد الشعري العربي، ماضين بها غير عابئين بالسهام التي تتناوشها وتتناوشهم معها.. الصراع حول مشروعية هذه القصيدة الجديدة / القديمة مستمر حتى في هذا التحقيق.. غموض غير متناهٍ الدكتور مسعد العطوي ابتدر الحديث بالتأكيد على ضبابية الموقف تجاه قصيدة النثر لدى قطاع عريض من المتلقين، حيث يقول: قصيدة النثر ما زال الإحجام عنها كبيرا؛ فهل هي من الشعر أم من غير الشعر، حتى النقاد اختلفوا حولها، فمن اعتمدوا على الجرس الداخلي لهم وجهة نظر، فبعضهم يقول إن الأوزان والقوافي تكبل الشاعر، وأرادوا أن تكون العبرة بالجرس الداخلي بحيث تكون ليس لها ضابط يضبطها، وهذا موجود في النثر العربي كثيرًا، من حيث إيقاعه وتناسق ألفاظه وسجعه وطباقه، فتمنح الموسيقى الداخلية إيقاعًا في النفس. فمثلا خليل جبران يملك قوة خيال وعباراته عذبة فنجده يملك تلك الخاصية. ويضيف العطوي: أرى أنه لا بد للشعر أن يكون له إيقاعه ووزنه، وهناك من سمح بتنوع القصيدة، وقصيدة النثر يمكن أن نقسمها إلى عدة أقسام؛ ومنها قصيدة ذات عبارة جميلة، فالكل أجمع على جمالها وقبولها وحسنها والانبهار بها، والغموض في الشعر يحمل دلالات ذات بعد كما في شعر المتنبي.. أما قصيدة النثر الحديث ففيها بعد، وغموض، ولكنه غموض غير متناهي، فبعض النقاد الغربيين يرى أنها لخاصة الخاصة، والشعر شعور يلامس كل إنسان. فالتشتت في النقد يخطف القاري لأفكار متباعدة، وتوارد الخواطر لي بينها تنظيم فكري، أما من ناحية التألق فقد أعطاها القوة لتكون في مصاف الشعر الجميل، فقصيدة النثر ترقى لمصاف الشعر الأعلى، وهي تنافس الشعر وليست بشعر. تطفل على مائدة الشعر وتتناول الدكتور كوثر القاضي القضية من زاوية التباس المصطلحات قائلة: ينبغي إن لم يكن لزامًا بالنسبة لما سمي خطأً بقصيدة النثر أن يصطلح عليه باسمه الطبيعي ألا وهو «النثيرة «(1)؛ لأن المصطلح المعتمد حاليًا مصطلح متناقض أصلًا؛ كونه يجمع بين نقيضين لا يمكن الجمع بينهما: الشعر والنثر؛ فالشعر هو نقيض النثر مهما تقاربا وتجاوبا؛ فالعلاقة بينهما هي علاقة الجوار، لكنه الجوار القائم على الحدود. ولأجل ذلك فإنه من اللازم على الباحثين في آداب اللغة العربية اعتماد هذا المصطلح ونبذ المصطلح المتعارف عليه؛ كونه جاءنا من الثقافة الغربية؛ ولأن المصطلح العربي المناسب موجود، فلم الأخذ عن الآخر بغير تدبر أو روية! وتضيف كوثر: لقد توهم كثير من النقاد والمتابعين أن «النثيرة» اليوم هي السقف الإبداعي الأخير الذي وصلت إليه القصيدة العربية في جميع استقصاءاتها الفنية، وهذا أمر غير صحيح، كما توهم البعض أن «النثيرة» هي امتداد لقصيدة التفعيلة، التي هي امتداد للقصيدة العمودية، وهذا كذلك أمر غير صحيح. إن هذه «النثيرة» تمشي على الحافة، على حد السيف الجمالي الفاصل بين الشعر الحقيقي، وبين النثر العادي، وربما تسقط إلى الهاوية؛ لأن للقصيدة الشعرية استقصاءاتها الخاصة بها، التي تأخذ من وحدة البيت الموزون المقفى أساسًا لها، وإن خرج فإنما يتجلى ذلك في نظام المقطوعات أو القوافي المتغيرة فحسب. إن «النثيرة» ليست امتدادًا لتجربة شعرية سابقة؛ ف »النثيرة» التي نقرؤها اليوم لا تستند إلى العروض العربي، ولا تستخدم البلاغة الشعرية العربية المعهودة؛ ومن ثم فهي ليست امتدادًا لأي شكل شعري سابق. إن الأسماء التي غامرت بالنثيرة في المشهد الثقافي العربي متواضعة؛ بل إنه لا توجد تجربة شعرية مقنعة للقارئ اليوم بتجديدها على مستوى الموضوعات أو على مستوى الألفاظ والتراكيب؛ فالقصيدة الشعرية تستطيع أن تركز على الهموم اليومية، والشخصيات المهمشة في المجتمع، وتكرس الحدث العادي المألوف، دون أن تضحي بالأوزان العروضية. وتختم كوثر بقولها: لقد كرس معظم كُتّاب النثيرة اليوم مفهوم اللا نظام والفوضى بدعوى التميز والتجديد؛ لتصبح القصيدة إن جاز لنا تسميتها قصيدة عند أكثرهم عبارة عن رصف كلمات لا رابط بينها ولا علاقة إسنادية بين أجزائها إلا ما كان بمخيلتهم، أطلقوا عليها قصيدة؛ وإنما هي كلام عامي مُنَثْوَر لا علاقة لأوله بآخره، فأماتوا الموسيقى واللغة معًا. باختصار إن «النثيرة» قول نثري أنتجته جهود فردية، كل منها يسير باتجاه منفصل عن الآخر، كل منها أراد التجديد بالتجريب، لكنه لم يكن تجديدًا على قواعد وقوانين معروفة ومعترف بها، فأصبح في أسوأ حالاته تخريبًا للذائقة وكسرًا لقواعد اللغة، وتطفلًا بلا دعوة على مائدة الشعر العربي الأصيل. دفاع الغرباء وبرؤية مطابقة لموقف الدكتورة كوثر يقول الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي: لعلّ من المفارقة اللافتة أن ترى اليوم الغالبيّة يريدون أن يكونوا جنودًا مخلصين للذبّ عن قصيدة النثر، وكأنها المسجد الأقصى! ومن ثَمَّ التصدّي لخصومها، ونَبذهم بالعمود، ونحوها من الكلمات. وذلك في موقفٍ مندفعٍ بلا هوادة إلى ادعاء جديدٍ باسم الحداثة، وإنْ لم يكن فيه تجديد، في مقابل الهلع من التراث العربي، وإنْ كان أكثر حداثة من الجديد المزعوم. وفي هذا مؤشِّر حضاريّ، أكبر من الشِّعر والجدل حوله. وينبني على ذلك تصوير مَن يدعو للمراجعة والأخذ برصيدنا الحضاريّ، والبناء عليه وتطويره، على أنه مجرد منغلق، عموديّ، جامد، تقليديّ، محنّط، إلى آخر النياشين الجاهزة لكلّ نقدٍ يُصوَّب إلى هذا التيار المقدّس، لدى معتنقيه. ومن هنا أصبحتْ المسألة مسألة عقيدة، وأيديولوجيا، وسياسة، وأحزاب، ولم تعد مسألة أدبٍ ونقد. ويضيف الفيفي: في تصوّري أننا ما لم نتخلّص من هذه النعرات، مع أو ضِدّ، سنظلّ- نحن العرب- ظواهر صوتيّة، نتطاحن تعصّبًا وحميّة جاهليّة، كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون، يظنّون أنهم قد احتنكوا الحقيقة المطلقة تحت أُهُبِهم، وليس سواهم من الحق على شيء. ولو هَوَّنَّا على هيامنا الجنونيّ بليلى الشِّعر، وخفَّفنا من غلواء ادعاءات الوصل بها، لأدركنا أن قصيدة النثر ليست محلّ تسليمٍ مُطلقٍ، وقبولٍ مبرمٍ، واعتقادٍ جازمٍ، وغرامٍ ممضٍّ، حتى في تلك الثقافات التي نبتت فيها، وتلقفناها عنها نحن، فأحببناها حبًّا جمًّا، كعادتنا في الحُبّ، لم يحبّها أهلُها كمثله قط، بل قرّرنا- مع سبق الإصرار والترصد- ذبح تراثنا وشعرنا على فخذيها! ويتابع الفيفي مضىفًا: إن معظم مَن يدافعون باستماتة عن قصيدة النثر غرباء في الحقيقة حتى عن اللغة العربيّة في حدّ ذاتها. والتجديد لا ينهض في أيّ مجالٍ من المجالات إلّا عن علم، وعن وعيٍ، وعن مسؤوليّةٍ، لا عن هوى يتمخّض عن مغالطات، وعن كلامٍ عاطفيٍّ، ودفاعات شخصيّة عن نتاجاتنا، وعمّا نُحبّ ونعشق. لقد عرف العرب قصيدة النثر قبل الغرب، لكنهم كانوا يَعُدُّونها في نطاق النثر، حتى سمّاها لهم الفرنسيّون شِعرًا، فصفَّقوا وقالوا: «أهلًا وسهلًا»، وامتثلوا، واتّبعوا، حذوَ القُذّة بالقُذّة؛ لأنهم لا يعرفون أنفسهم، ولا تراثهم، ولا الآخَر، ولا تاريخ الأجناس الأدبيّة.. سيقال هذه «عقليّة المؤامرة». وأقول: نعم، أنا مؤمن بالمؤامرة، غير أن المؤامرة لم تَعُد خارجيّة فحسب، بل أضحت وطنيّة عربيّة أيضًا، بمَكرٍ أو بسذاجة. ويختم الفيفي بقوله: حقًّا إنه لمن المؤسف أن نتصدر لبثّ خطابٍ اتباعيٍّ على أنه إبداعيٌّ، خطاب لا يرى أهميّة التميّز الإنسانيّ والإضافة المختلفة، ولا يُعير الهويّة قيمةً، بل ينحو إلى العدميّة، والاندغام في الآخر، الغالب الأقوى. أعتقد أن مَن يجني على قصيدة النثر حقًّا هو مَن يُصرّ على أنها ليست جنسًا أدبيًّا مستقلًا، بل يقيِّدها بالشِّعر، غير منعتقٍ من هذا التصنيف البالي! وأولئكهم عبيد الشِّعر المحدثون. توطين قصيدة النثر وخلافًا للرؤية السابقة يرى الدكتور يوسف العارف أن قصيدة النثر بدأت تفرض نفسها بقوة لا سيما وأن روادها الذين أسسوا لها من أمثال أنسي الحاج، وأدونيس، ويوسف الخال قد وطنوها في تراثنا وسياقنا الأدبي الشعري وأصبح لها مريدون ومشيعون حتى أصبحت تذكر في كل منتدى وملتقى شعري. ويستدرك العارف بقوله: ولكن للأسف البعض من الشعراء الذين يتعاطون هذا النوع من الحداثة الشعرية يحاولون (بدراية أو بغير دراية) أنها فن جديد وليس من السهل ارتياده والأمر يحتاج إلى الصقل والموهبة والتأسيس على التراث الشعري القديم / الكلاسيكي، والمعاصر / الحداثي وعدم استسهال هذه النوعية من القصيدة لأن شرطها الأوحد هو الشعرية الإيجابية والدلالية التي تجعل من هذا النص مقبولًا لدى المتلقي الواعي، والمتلقي الناقد. وعلى أي حال - فقصيدة النثر أو النثيرة كما يسميها البعض شكل كتابي جديد واجه إشكالية ثقافية بين القبول والرفض بين الألق والتشتت كما تقول لكنها تستمد واقعيتها وصيرورتها من خلال الفصل بين فني القول الشعر والنثر فلكل منهما مجاله وفنيته. ويضيف العارف: قابلية النص النثري / الشعري يحتاج إلى تحقق شرطين أساسيين وهما: شرط الموسيقى - وشرط الاستجابة والقابلية لدى المتلقي - وبهذا تنجح قصيدة النثر في الوصول إلى أذن السامع وقبول القارئ. وأخيرًا أقول إن كثيرًا من النقاد والعرب يتعاملون مع هذه القصيدة على أنها ما زالت تبحث عن نفسها، لأنها تائهة بين المفهوم الغربي والمفهوم العربي. ولذلك فإن بعض الشعراء العرب لم يستطيعوا أن يبدعوا شروطهم العربية ولم يتمكنوا من تحقيق الشروط الغربية فتاهت القصيدة النثرية بين الرفض والقبول. حماقة غير مبررة الدكتور عبدالرحمن المحسني شارك بقوله: أعتقد أننا يجب أن نرفع آراءنا عن قصيدة النثر ونجعلها تواجه محاكمة التاريخ لها. عمرها الذي تجاوز القرن يجعل من الحماقة أن نستمر في البحث عن مشروعية لها.. فهي جزء من تكوين النص العربي الحديث، لها شعراؤها المميزون كالماغوط وأنسي الحاج.. ولها نقادها وقراؤها والزمن كفيل وحده بتمحيصها، فالبحث عن شرعية لها الآن هو حماقة غير مبررة حتى تلك المؤتمرات التي تعقد لذلك لا مبرر لها.. ويجب بالمقابل أن نتلمس جمالياتها، باعتبارها نصًّا أدبيًا قد لا نختلف على جمالياته والأمر يتصل بالشاعر الذين منهم المتمكن ومنهم دون ذلك.. ويجب حين نتعامل مع هذا النص ألا نطبق عليه مقاييس نقد القصيدة الإيقاعية بل نتعامل معه في إطار خصائصه النصية من حيث كثافة اللغة وانفجاريتها، وفجائيات التصوير وموسيقى اللغة والموسيقى الداخلية والأربطة اللامرئية في النص.. كما يجب في حديثنا عنه أن نعي أنه لا يوجد نص إبداعي ينفي نصًّا آخر، بل هي تتكامل في صناعة جمالية البيان وسحره. ويخلص المحسني إلى القول: بقي أن أشير إلي أننا يجب ألا نتوقف عند قصيدة النثر؛ بل يجب أن نرحل عنها باتجاه تجديد آخر يفيد من طغيان وسعة المعرفة الحديثة التي لم يسبق لها مثيل سوء انفتاح الوعي على المنتج التراثي أو كان انفتاح نوافذ المعرفة على الثقافة الإنسانية وجدير بنا أن ننسج جمالية تتسق مع ذلك الوعي المعرفي الذي يدفع إلى إنتاج نص يمثل العصر ويفيد من معطيات الملتوميديا الحديثة. القصيدة الخرساء الدكتور عبدالله غريب قال: من خلال تجارب مع الأمسيات الشعرية التي تقام في نادي الباحة الأدبي ومن خلال حضوري وإدارتي لبعض الأمسيات داخل المنطقة وخارجها أجد حضورًا ذهنيًا للقصيدة الموزونة المقفاة من قبل الجمهور وتفاعلًا يعطي مؤشرًا بأنها الأقوى والأجدر بتحريك المشاعر فيما لا أجده في سماع قصيدة النثر حتى ولو أن بعضهم يجيدها فهو يعتمد على طريقة القراءة وامتلاك ناصية اللغة المرتبطة بفن الإلقاء. ويضيف غريب: ولو سلمنا بأن قصيدة النثر شعرا كما هو الشعر الموزون المقفى لأصبحنا كلنا شعراء، ولما فرقنا بين النثر وبين الشعر، من هنا أذكر بحثًا عميقًا لشاعر معروف هو أحمد عبدالمعطي حجازي ألف كتابا حول قصيدة النثر وأسماها «القصيدة الخرساء» نسبة للصمت الذي ألجم أفواه أرباب اللغة فلم يعودوا يقولوا الشعر الموزون فذهبوا للتجارب الأوروبية وحاولوا إسقاطها على الشعر العربي فخرج هذا النوع ولكنه كان وليدا مشوها تنقصه بعض الأطراف فيما يرى البعض أنه لا قلب له ولا حواس وصنف من يقوله حجازي بأنهم أشبه بقطاع الطرق الذين يخرجون على النظام وأنهم يعيشون فوضوية اللغة فيطوعونها لصالح النص بعيدا عن الصحة ودخل في ذلك في معارك مع كبار النقاد ومنهم جابر عصفور ومحمود أمين وحسن طلب وسعيد توفيق معتبرا النثر فنا مستقلا لا يمكن وصفه شعرا. ويتابع غريب حديثه مضىفًا: بعضهم اشترط في قصيدة النثر ثلاثة شروط هي الإيجاز والتوهج والمجانية كما قال الشاعر أنسي الحاج فيما يرى الكثير بأن هذا النثر الذي يطلقون عليه شعرا إنما هو مروق عن العروض وخروج عن التراكيب اللفظية والمعاني التي تحملها قصيدة الشعر الموزون وأن كثرتهم في الساحة الأدبية تدل على قلة وعيهم بالشعر مؤكدا أنه بالرغم من مرور قرن على قصيدة النثر إلا أنها لا يمكن تحل محل الشعر الموزون كما حدث في فرنسا فقد حققوا نجاحا فيها لكنهم اعترفوا بأنها لا تحل مكان الشعر الموزون وبالتالي فإن الشعر شعر والتثر نثر ولا يوجد بينهما صنف يجمع بين الطريقتين فيسمى شعرا فلكل منهما أدواته وآلياته وضوابطه علما بأن قصيدة النثر خارجة من ضوابط الشعر الموزون ولا تحتكم له حيث تتخذ من حرية اللغة مسارا يتمرد على ضوابط الشعر. والشاعر حجازي لا ينكر أن تجربة قصيدة النثر أنتجت في بعض الأحيان نصوصًا جديرة بالقراءة لكنها ورود نادرة في شوك كثير أو حبات ناضجة في حصرم حامض لا ينضج! ولا يدعى الشاعر الحجازي أن كل الذين يكتبون قصيدة النثر لا يعرفون اللغة، وإنما يؤكد أن الجهل باللغة بدرجات متفاوتة ظاهرة ملحوظة فيهم، وهذا الجهل لا يثير قلقهم لأنهم في الغالب لا يحسونه في أنفسهم، ومنهم من يستهين به ولا يبالي. من هنا لا يمكن التجني على كل التجارب في قصيدة النثر ولكن يمكن أن يقع الأديب الشاعر في بعض نواقص القصيدة الموزونة شأنه فيها كما هو شأن المبدع في القصة والرواية من ارتكاب أخطاء في النحو والصرف، فيما أرى أنا من وجهة نظر خاصة أن الشعر الموزون المقفى يظل له جرس موسيقي فكل شاعر يلتزم بالوزن والقافية والبحور يمكن أن يكون شاعر نثر والعكس ليس صحيحا وهناك نوع آخر هو شعر التفعيلة وهو نوع من الشعر المستحدث في أدبنا العربي منذ أواسط القرن العشرين الميلادي وسمي كذلك نسبة إلى التفعيلة، باعتبارها وحدة إيقاعية من وحدات عروض الشعر العربي وهي وحدات عديدة متنوعة تعرف بأسماء ومصطلحات كثيرة. امتداد لحركة التجديد ويقول الدكتور عبدالله عويقل السلمى: يبدو لي أنها امتداد لحركة التجديد التي بدأت تغشى الفنون الأدبية ويتعاطاها الأدباء محاولين الفكاك من قيود الماضي والتمرد على النمط الكلاسيكي للقصيدة الشعرية، وقد أشار كثيرون إلى أنها تحمل التناقض في اسمها فهي تأخذ من الشعر مفردة (قصيدة) وما يناقضها في مفردة (النثر)، وهنا لا أود الدخول في الجوانب التاريخية لهذا النوع من الفنون ولا أسلم بقدمها - كما يذهب البعض فيؤرخون لها بالقرن الرابع قبل الميلاد- لكنني أرى أنها تحول في الشكل النمطي لإيجاد جنس أدبي له إيماءات ولغة شعرية كما أن له شكلا نثريا؛ لأن الشعر له قوانينه الإيقاعية والفنية والموضوعية التي تطرب الأسماع، وله مفاتنه الفنية والجمالية التي تتكيف مع الروح الغنائية والإيقاعات الموسيقية التي تولد مع العربي وتقصر عنها قصيدة النثر.. وهي في كل الأحوال محاولة للتمرد على القوانين الشعرية التي اعتادتها الذائقة العربية ومن هنا كثر الحديث عنها وكثر رافضوها. والذي أراه أنها جنس أدبي مستقل يتداخل مع الخاطرة شكلا ويختلف عنها من حيث جمال العبارة وأنها ظاهرة أدبية لها لغتها التعبيرية ووحدتها الموضوعية ولكنها تظل كذلك لا نستطيع أن نطلق عليها شعرا إلا من جانب ما تحمله من مشاعر منثورة ولا نسميها نثرا إلا من خلال عدم التزامها بالإيقاعات والأوزان العروضية. فهي إذن فن يأخذ من كل فن بطرف ومن هنا جمعت فني الشعر والنثر في اسمها (قصيدة النثر). ويضيف السلمي: وأنا ألفت كتاب قصيدة النثر إلى أن التلاعب بالمفردات واستخدامات اللغة العاطفة ووهج الألفاظ وعمق الرؤيا أو التشكيلات البلاغية والإغراق في التخيلات لن تخلق لنا فنا يستحق البقاء ويطرب الأسماع وحدة؛ ولهذا فالتحدي أمام متعاطي هذا الفن كبير؛ لأن صعوبتها تكمن في خلق جاذبية تعبيرية وفنية وإبداعية تحل محل التخلي عن القانون الشعري وتؤدي إلى قبول ذائقة المتلقي لها، فالتخلي عن موسيقى الوزن يجب أن يحل محله بناء محكم من الجماليات التي تعوض السامع والقارئ لهذا الفن عن فقدان تلك الموسيقى. وليجب على من يتعاطى قصيدة النثر أن يثبت للمتلقي مكانته وإمكاناته الشعرية وفق النمط الشعري المألوف كيلا تكون قصيدة النثر مطية يركبها من لا يتقن فن الشعر الموزون والمقفى.