1. التوجّه الإيقاعي في قصيدة : "لو أنهم جاؤوك" عرفت الإيقاع في أكثر من مناسبة بأنّه يتولّد عن انعكاس نظام الوزن في نظام اللغة. وهو ما يؤدي إلى اختلاف مكوناته عن مكونات الوزن. ولذلك فإنّه لا يمكننا أن نتعرف على إيقاع القصيدة الشعرية عمودية أو غير عمودية، من خلال السبب والوتد والفاصلة؛ وإنما من خلال ما ينتج عن انعكاس هذه المكونات في البنية الصوتية للغة، إذ تصبح هذه البنية ذات سمات تكرارية في مستوى: أ. النبر القوي والنبر الضعيف. ب. المدة الطويلة والمدة القصيرة. وليس معنى هذا أنّ هذه العناصر عناصر تجريدية ومنفصلة عن باقي مستويات النص الشعري . بل يكون لها تأثير وبعد في مستوى الوحدات الصرفية - الاشتقاقية ، وفي مستوى التكريب ، ثم في مستوى شبكة التصوير. فإذا تأمّلنا في ضوء هذه المحلوظات الأوّلية قصيدته "لو أنهم جاؤوك"، سنلاحظ في أبرز ما نلاحظه، أنها مطولة رائعة انبنت على العناصر الإيقاعية أكثر من انبنائها على عناصر الوزن.ولكن هذا لا يعني ان الشاعر خرج فيها عن مقاييس العروض العربي. بل أخضع بحكم قدرته الانجازية هذا العروض لبناء إيقاعي كسر في إطاره قيودا متعددة هي : أ. مفهوم البيت: إذ القصيدة من بحر الكامل متفاعلن - متفاعلن ثماني مرات في أصل هذا البحر . وهو مقياس جاهز لم يسر عليه الشاعر. بل عمد في المقطوعة الأولى الى تفعيلات هذا الوزن ، فوزعها على خمسة أسطر. وذلك ما يجعل القصيدة خاضعة لمفهوم السطر الشعري بدل البيت. نعم إنّه أنهى السطر الثاني من هذه المقطوعة بحرف العين المقيّد. كما أنهى السطر الخامس منها بالحرف نفسه. وهو ما قد يوحي لأول وهلة بأن البيت الشعري موجود لديه، وإنما الذي تغير إنما هو فضاء كتابة هذا البيت . ولذلك فإنه من الممكن أن نكتب المقطوعة وفق التوزيع العروضي التالي: لو أنهم جاؤوك ماشدوا رحالهُمُ إلى جهة الضياعْ لو أنهم ، ما تاه رّبانٌ لهم أو ضلّ في يمّ شراعْ فنكون بصدد خمس تفعيلات " متفاعلن" تنتهي بقافيتين متوازيتين هما: ضياع - شراع .وهو ما قد يثبت أنّ الشاعر مازاد على أن سار وفق مقاييس العروض التقليدية، ثم وزع شعره بما يوحي بمخالفته لهذه العروض. وهذا أمر لا يمكن للقارئ أن يستسيغه ، لأن الكامل لم يرد بخمس تفعيلات فيما عهدناه من شعر القدماء. ب - ثم كسر الشاعر ايضا قيد الشطر الشعري في القصيدة العمودية، إذ لا يمكننا ان نقسم سطره الشعري الذي كتبناه بحسب الشكل الخماسي الى شطرين ، بنحو ما لا يمكننا أن نعتبر التفعيلات الخمس شطرا ينتهي بضرب وعروض متوازيين. ذلك أن الكامل في منتهاه رباعي الاشرط لا خماسيها.ولذلك فإن التوزيع الصحيح هو التوزيع الذي تجانست فيه التفعيلة مع فضاء كتابتها، أي ان السطر الشعري لا يمكنه أن يكتب إلا بحسب الشكل الذي اختاره له الشاعر. ومعنى هذا بالنسبة الينا ان الشاعر بلور عبارته الإبداعية وفق الشكل الاصيل الذي يلائمها في مستوى الكتابة. ج - لقد كسر عبد العزيز محيي الدين خوجة قيد التفعيلة ايضا. إذ نلاحظ أن السطر الأول من المقطوعة يتكون من: متفاعلن - متفاعِ ليتبعه السطر الثاني: لُنْ- متْفاعلن- ثم لم يكتف بذلك إذ عمد إلى تذييل التفعيلة الاخيرة من السطر الثاني: جهة الضّياع: متفاعلان وهو بهذا الصنيع يريد أن يشعر القارئ - ما أمكن - بأن العروض التقليدي مقاييس متوازية غير قادرة على ان تتوزع عبر فضاء كتابة شعرية ملائمة لطاقة الإحساس وتشكلاته. ولتكسير قيد التفعيلة المنضبطة صيغة أخرى في القصيدة؛ إذ لم يكتف الشاعر بانكسار هذه التفعيلة على شكل: متْفاع لُن وإنما عمد الى هذه التفعيلة نفسها، أعني الواقعة بين السطر والسطر وقسمها وفق الصورة التالية: متْ فاعلن يقول في المقطوعة الثانية: طيرٌ أبابيلٌ على الكفّ المضمّخ بالضحايا في صلاة لم تصلك لأنّ فيها ما يعد من الخطايا في خواء الروح حين تدكّها خيل المنايا فتتوزع التفعيلات بحسب ما يلي: س1: متفاعلن - متفاعلن - متفاعلن - متفاعلن - مت س2: فاعلن - متفاعلن - متفاعلن - متفاعلن - مت س3: فاعلن - متفاعلن - متفاعلن - متفاعلاتُن فنجد عكس ما وجدناه في المقطوعة الأولى، أي: متْ فاعلن في مقابل: متفاعِ لن ثم نلاحظ أيضا أنه عمد في نهاية سطرين من هذه المقطوعة الى ترفيل التفعيلة ، في مقابل تذييلها في مكانين من المقطوعة الأولى. اي : خيلُ المنايا: متفاعلاتن قلبي شظايا: متفاعلاتن في مقابل: جهة الضياع: متفاعلان يمٍّ شراع: متفاعلان وهو ما ينتج عنه: د. أن الشاعر كسر قيد القافية، وذلك لأنها تتخذ من حيث الوزن صيغا مختلفة، فهي: - غير موجودة في السطر الأول من المقطوعة، لأننا لا نقف على متحرك في الشعر. اللهم إلا أن تكون بين السطر الأول والسطر الثاني، وهذا غير محتمل.ولكنّه يؤكد ما ذهبنا إليه في "أ.ب." من أن الشاعر كسر قيد البيت وقيد الشطر. - موجودة في السطر الثاني والسطر الخامس، بروي العين، وبوزن : فعولْ = ضياعْ. وتقع في التفعيلة الخامسة إذا قسمنا المقطوعة إلى بيتين. أو في التفعيلة الثالثة من السطر الثالث، والتفعيلة الثانية من السطر الخامس إذا لم نقسمها. وهو ما يدل دلالة واضحة على انعدام التوازي العددي في هذا الذي قد نتمحل لنجعل منه قافية بالمعنى القديم لهذا المصطلح. - إن وصف هذه المقطوعة من هذه الناحية يقتضي اتباع التوزيع الفضائي لنهاية الأبيات وفق الشكل التالي. فعلُ فعولْ فاعلُن فاعلن فعولْ وهو توزيع فضائي واضح، لا قافية فيه ، فلا رويّ إذن . وتبقى كل محاولة لكتابة الأسطر بغير ما هي عليه محاولة لجوجة ومتمحّلة. إن الشاعر بنى قصيدته بناءً إيقاعياً، يرجع إلى الوزن ليبتعد عنه، ثمّ يبتعد عنه ليرجع إليه. وهو ما يمكن تفسيره في هذه المرحلة بأن مسافة الحرية لديه داخل القيود مسافة شاسعة ومنظمة. ونعني بالشساعة كسر الشطر، والبيت ، والقافية، والتفعيلة. ونظام هذه الشساعة كتابة فضائية، وفق مقاييس السطر الشعري الموائم لحدة الانفعال أو انفجاره، ثمّ إخضاع ذلك لتفعيلة إيقاعية تستند إلى المدة والنبر بنحو ما تسند الى الاسباب والأوتاد والفواصل. وهو ما سنحاول وصفه بدقة اكثر. يتكون مطلع القصيدة: لوْ أنْنهُمْ جاؤوك أ.في مستوى المدّة: + قصيرة + قصيرة + قصيرة لوْ أنّ هم + طويلة + طويلة + قصيرة جا ؤو كَ ب. في مستوى النبر: +ضعيف +قوي + ضعيف لوْ أنّ همّ +ضعيف + ضعيف + قويّ جا ؤو كَ فنلاحظ 1- أن المدة القصية ترددت أربع مرات، وأن النبر الضعيف تردد أربع مرات أيضا. 2- أن المدة الطويلة ترددت مرتين وأن النبر القوي تردد مرتين أيضا. وهو ما نستخلص منه توازيا عدديا يضمن الانسجام الإيقاعي للمطلع، بما قد يفيد الاستناد - في القصيدة - إلى إيقاع منظّم وفق عناصر التكرار والتوازي التي تنضبط في إطارها شساعة انفعال الذات. 3. إن المدة الطويلة وردت في عبارته جاؤو .. المتضمنة لواو الجماعة. 4. ورد النبر القوي: في : أنهم .. المتضمنة للتوكيد ولضمير الغائب الدال على الجماعة. ثم في: كَ، الدال على كاف المخاطب والذي كان أداة لتكسير التفعيلة ولتكسير قاعدة عروضية أساسية هي عدم جواز الوقوف على متحرك في الشعر. ومعنى هذا أن التقابل الإيقاعي الاساسي في المطلع ، تمّ بين: هُم =/ كَ وهو تقابل إيقاعي ، وصرفي - اشتقاقي ، ثم تركيبي ودلالي، سنتعرّف عليه أكثر حين نتأكد من وجاهته. يقول : لو أنّهم جاؤوكَ ماشدّوا رحالهُمُ إلى جهة الضياعْ فنقف على أنّ السطر الثاني قد انبنى بشكل واضح على عنصر المدة دون عنصر النبر . وذلك لأن: - المدة الطويلة تكررت خمس مرات في : ما - دُوا - حاَ هُمُ- إلى - اندمجت مع النبر فسيطرت عليه ووجهته في : شدّوا. - جاءت مضاعفة ومسيرطة على النبر أيضا في : الضّيَاعْ. ومعنى ذلك بالنسبة إلينا أنّ دلالة هذه المدّة الطويلة أساسية في هذا السطر، وخاصة حين كسر الشاعر بوساطتها التفعيلة في : ما. وحين ضاعفها في : الضياع. أي أن التوازي الإيقاعي في هذا السطر تم بين: مَا ... ياع إذ تكسرت التفعيلة في بداية السطر، وذيلت في نهايته. قلنا إن التوازي الإيقاعي عن طريق النبر تم في السطر الأول بين: هم : كَ وتم عن طريق المدة في السطر الثاني بين: ما : يَاعْ وذكرنا قبل قليل بأن لهذا الإيقاع معجمية وتركيبية ودلالية فنلاحظ الآن أ، : - هم، ك : ضميران - متقابلان ومتضادان : + جمع + غائب # + مفرد + مخاطب فنستخلص أنهما على طرفي نقيض. قم نلاحظ أيضا أن : - ما : + حرف + للنفي - ياعْ : جزء من اسم - نفي فالتضاد بينهما واضح في المستوى المعجمي: ما : معنى النفي ياعْ : لا معنى في المستوى التركيبي: ما : وظيفة النفي. ياْ : لا وظيفة. فما العناصر الدلالية التي تعكسها هذه المكونات الإيقاعية؟ أعني: هم # كَ ما # ياع إننا لا نعني بالدلالة في هذا السياق معنى الكلام، بل نقصد بذلك الدلالة المجردة ، أي أن هذه العناصر الاربعة دالة على: 1 - جماعة غائبة. 2 - مفرد، مخاطب. 3 - نفي. 4 - لا معنى بامكاننا أن نقول إذن إن لدينا في هذه القصيدة اربعة مكونات هي التي ستشكل المجالات الدلالية الكبرى لبناء النص. ولكن هذه المكونات لا يمكنها ان تنسينا بأن الذات المنتجة للخطاب هي التي تعمل داخل النص ايضا على بلورة طبيعة المكون النصي ثم تنظيم مختلف علاقاته من المكونات. ولذلك فإننا اعتماداً على السمات الوزنية والإيقاعية التي تبيناها فيما سلف نسارع الى القول إن هذه الذات: أ - تؤمن بالقواعد الكبرى في بناء الوزن ولكن ذلك نابع من داخلها بشكل غريزي . اي أن الوزن لا يفرض عليها من خارج النص. ب - تعمل على ان تثير بعض الارتجاج داخل هذه القواعد. وقد تمثل ذلك كما قلنا في تكسير قاعدة : البيت والشطر والقافية والتفعيلة. ج - تستسلم لايقاع النص فتبنيه وفق قواعد المدة والنبر ، كي تجعل محتوى العبارة هو الأصل في هذا البناء. د - حين تجعل هذا المحتوى هو الأصل تسعى الى تنظيم التشكيلات الإيقاعية تنظيما فضائيا اي تقدم بديلا للبيت والشطر، هو السطر كما قلنا ثم تقسم السطر الى جمل مركبة بحسب سمات ايقاعية تبلور المكونات الدلالية للنص فتجعلها مكونات شفافة وبارزة. 2 - البنية الصوتية والنظام الدلالي للنص وسنحاول الآن أن ننظر في البنية الصوتية للقصيدة : هل تبلور هي ايضا هذه المكونات؟ ام توقفنا على شيء آخر غير ذلك. عملا بمبدأ التمثيلية سنعمد الى مقطوعة من داخل القصيدة لنتبين البناء الصوتي الذي اعتمدته الذات المنتجة للخطاب كي تبلور المكونات الدلالية للنص ثم دلالته القاعدية. تبدأ المقطوعة التي سنعتمدها في هذا الشطر من الدراسة بقوله: لو أنهم جاؤوك لانبلج الصباحُ فيهم وما عاثت بوجهتهم رياحُ وتنتهي عند قوله: ولو جاؤوكَ... لا نبلج الصباحُ لقد تردد حرف النون في هذه المقطوعة ستاً وثلاثين مرة ولذلك فإننا نعتقد اعتقادا راسخاً بأن هذا النوع من الترددَ هو الذي يعكس بؤرة التشكيلات الصوتية للقصيدة اعتماداً على : أ - التغيرات الفيزيائية التي طرأت عليه. ب - المقاطع الصوتية التي تشكلت منه. وبدراستنا لهذين الجانبين سنتمكن لا محالة من تحديد سمات الذات المنتجة للخطاب : انشغالاتها ، هواجسها، معاناتها ، هويتها إن أمكن ذلك. إن هذه الذات في رأينا ذات ايقاعية تعتمد الى المكونات الصوتية للغة فتسعى الى تغيير سماتها الفيزيائية لتكسبها ايقاعا شعريا هو الذي يميز الخطاب الشعري عن غيره من انواع الخطاب . ثم تعمل على تتجمع - بحسب - هذا الايقاع تناسقات صوتية وتتكرر وتتوازى عبر التوزيع المتخالف داخل النص فينتج عن ذلك تكون مقاطع صوتية متشابهة نستطيع - حين نحددها - إبراز النظام الدلالي للنص، والذات المنتجة للخطاب. إن السمات اللسانية التي تميز حرف النون داخل الشبكة الصوتية للغة العربية سمات تتحدد في كونه: + أنفيا + لثويا + غير مفخم + مجهورا. في حين أن التوجه الإيقاعي للقصيدة جعله في مستوى البشر مضاعف هذه الصفات أي انه تشتد صفاته الأنفية واللثوية ثم يفخم أكثر وتتضاعف صفة الجهر فيه: مثل ذلك: - لو أنهم - إنا - لا نبلج.. ولكنه يصبح بعكس ذلك حين يقترن إلى المدة الطويلة أي أنه تقل صفاته اللسانية والفيزيائية فتصل الى أقل درجة من الأنفية واللثوية والجهر ثم يظل غير مفخم باستمرار وذلك في مثل: إَِناثها - أنينها - فطنوا.. الخ وهو ما يمكن توضيحه حسب الشكل التالي: النبر القوي : ++ أنفى ++ غير مفخم ++مجهور. المدة الطويلة : أنفي - لثوي - مجهور. فنستخلص أن النون فقد صفاتها اللسانية: 1 - باقترانه الى المدة الطويلة في : أي أن التوازي الإيقاعي في هذا السطر تم بين: مَا .. ياع إذ تكسرت التفعيلة في بداية السطر، وذيّلت في نهايته. قلنا إن التوازي الإيقاعي عن طريق النبر تم في السطر الأول بين: هم: ك وتم عن طريق المدة في السطر الثاني بين: ما : يَاعْ وذكرنا قبل قليل بأن لهذا الإيقاع أبعادا معجمية وتركيبية ودلالية. فنلاحظ الآن أن: - هم، ك: ضميران. متقبالان ومتضادان : + جمع + غائب =/ + مفرد + مخاطب فنستخلص أنهما على طرفي نقيض. ثم نلاحظ أيضا أن: ما : +حرف +للنفي ياع: + جزء من اسم - نفي فالتضاد بينهما واضح في المستوى المعجمي: ما : معنى النفي ياع : لا معنى. في المستوى التركيبي: ما : وظيفة النفي. ياع: لاوظيفة فما العناصر الدلالية التي تعكسها هذه المكونات الإيقاعية ؟ أعني: هم =/ ك ما =/ ياع إننا لا نعني بالدلالة في هذا السياق معنى الكلام، بل نقصد بذلك الدلالة المجردة، أي أن هذه العناصر الاربعة دالة على : 1. جماعة، غائبة. 2. مفرد، مخاطب. 3. نفي. 4. لامعنى بإمكاننا أن نقول إذن إن لدينا في هذه القصيدة أربعة مكونّات هي التي ستشكل المجالات الدلالية الكبرى لبناء النص. ولكن هذه المكونات لا يمكنها أن تنسينا بأن الذات المنتجة للخطاب هي التي تعمل داخل النص أيضا على بلورة طبيعة المكون النصي، ثم تنظيم مختلف علاقاته بغيره من المكونات. ولذلك فإننا، اعتمادا على السمات الوزنية والإيقاعية التي تبيناها فيما سلف ، نسارع الى القول ، إن هذه الذات: أ. تؤمن بالقواعد الكبرى في بناء الوزن. ولكن ذلك نابع من داخلها بشكل غريزي . أي أن الوزن لا يفرض عليها من خارج النص. ب. تعمل على أن تثير بعض الارتجاج داخل هذه القواعد. وقد تمثل ذلك كما قلنا في تكسير قاعدة: البيت والشطر والقافية والتفعيلة. ج. تستسلم لإيقاع النص فتبينه وفق قواعد المدة والنبر، كي تجعل محتوى العبارة هو الأصل في هذا البناء. د. حين تجعل هذا المحتوى هو الأصل ، تسعى إلى تنظيم التشكلات الإيقاعية تنظيما فضائيا. أي تقدم بديلا للبيت والشطر، هو السطر كما قلنا، ثم تقسم السطر الى جمل مركبة بحسب سمات إيقاعية تبلور المكونات الدلالية للنص فتجعلها مكونات شفافة وبارزة. 2. البنية الصوتية والنظام الدلالي للنص وسنحاول الآن ان ننظر في البنية الصوتية للقصيدة: هل تبلور هي أيضا هذه المكوّنات ؟ أم توقفنا على شيء آخر غير ذلك؟ عملا بمبدأ التمثيلية ، سنعمد الى مقطوعة من داخل القصيدة، لنتبين البناء الصوتي الذي اعتمدته الذات المنتجة للخطاب كي تبلور المكونّات الدلالية للنص، ثم دلالته القاعدية. تبدأ المقطوعة التي سنعتمدها في هذا الشطر من الدراسة بقوله: لو أنّهم جاؤوك لا نبلج الصباحُ فيهم وما عاثت بوجهتهم رياحُ وتنتهي عند قوله: ولو جاؤوك.. لانبلج الصباحُ لقد تردد حرف النون في هذه المقطوعة ستا وثلاثين مرة ، ولذلك فإننا نعتقد اعتقادا راسخاً بأن هذا النوع من التردد هو الذي يعكس بؤرة التشكلات الصوتية للقصيدة، اعتماداً على: أ. التغيرات الفيزيائية التي طرأت عليه. ب. المقاطع الصوتية التي تشكلت منه. وبدراستنا لهذين الجانبين، سنتمكن لا محالة من تحديد سمات الذات المنتجة للخطاب: انشغالاتها ، هواجسها، معاناتها، هويتها إن أمكن ذلك. إن هذه الذات في رأينا، ذات إيقاعية ، تعمد إلى المكونات الصوتية للغة، فتسعى الى تغيير سماتها الفيزيائية ، لتكسبها إيقاعاً شعرياً هو الذي يميز الخطاب الشعري عن غيره من أنواع الخطاب. ثم تعمل على أن تتجمع -بحسب - هذا الإيقاع تناسقات صوتية تكرر وتتوازى عبر التوزيع المتخالف داخل النص. فينتج عن ذلك تكوّن مقاطع صوتية متشابهة نستطيع - حين نحددها - إبراز النظام الدلالي للنصّ، والذات المنتجة للخطاب. إنّ السمات اللسانية التي تميز حرف النون داخل الشبكة الصوتية للغة العربية سمات تتحدد في كونه: + أنفيا+ لوثيا + غير مفخم + مجهورا في حين أن التوجه الإيقاعي للقصدية جعله في مستوى النبر مضاعفا هذه الصفات. أي أنه تشتد صفاته الأنفية واللثوية، ثم يفخم أكثر وتتضاعف صفة الجهر فيه: مثال ذلك: - لو أنّهم - إنّا - لا نبلج.. ولكنّه يصبح بعكس ذلك حين يقترن إلى المدة الطويلة. أي أنه تقل صفاته اللسانية والفيزيائية فتصل إلى أقل درجة من الأنفية واللثوية والجهر، ثم يظل غير مفخم باستمرار. وذلك في مثل: إناثها- أنينها- فطنوا .. الخ. وهو ما يمكن توضيحه حسب الشكل التالي: النبر القويّ : +أنفي + لثوي+ غير مفخم+ مجهور المدة الطويلة: - أنفي - لثوي- مجهور. فنستخلص أن النون فقد صفاته اللسانية: 1. باقترانه إلى المدة الطويلة في: أوطاننا - دماؤنا- إناثها- أنينها - لنا - ذنبنا - طرقنا - يحدونا - فطنوا 2. باقترانه إلى المدة الطويلة والنبر القوي في : إنّي - إنّا 3. باقترانه إلى النبر القويّ في : أنّهم - النفوس وبتأمّلنا للسياقات التي فقد النون داخلها صفاته اللسانية ليكتسب صفات إيقاعية معتمدة على المدة الطويلة والنبر القوي نستطيع أن نتبين: أن النون والمدة الطويلة اقترنا إلى : نا الدالة على الجماعة في : أوطاننا - دماؤنا - لنا _ ذنبنا - طرقنا - يحدونا _ إنّا ولذلك فإن البؤرة الدلالية كامنة في هذه الجماعة. وهو أمر تدل عليه مجمل المؤشرات التي يمكن اعتبارها محيطية بالنسبة ل : نا . إذ نلاحظ في : فطنوا _ أنهم : دلالة الجمع أيضا. وكذا في : إناثها - أنينها : ضمير الغائب العائد على " الأوطان" بصيغة الجمع. ثمّ إن النفوس صيغة جمع أيضا وهو ما ينسجم كل الانسجام مع المكون الدلالي الأول الذي استخلصانها سابقا. أعني : الجماعة الغائبة في " لو أنّهم جاؤوك" . إلا أن هذا الغياب يصبح حضوراً عن طريق المتكلم بصيغة الجمع: أوطاننا - دماؤنا - وهو ما يدُل على أن الذات المنتجة للخطاب مندمجة اندماجا كلياً مع الجماعة التي هي موضوع الخطاب. وهو ما يجعل هذا الخطاب متحولاً من: لو جاؤوك .. إلى لوجئناك. أي أن الذات الإبداعية مندمجة، تعاني ما تعانيه الجماعة، ويتوقف مصيرها على مصير الجماعة. ولذلك فإن التقابل الاساسي الآن ، يتم بين : الجماعة الحاضرة، بما في ذلك الذات الإبداعية ، وبين المخاطب الذي تعكسه الكاف في بداية المقطوعة وفي نهايتها: لو أنّهم جاؤوك.. ولو جاؤوك.. إن الذات المنتجة للخطاب حين عملت على استحضار الجماعة الغائبة، لم تجد بدا من ان تستحضر المخاطب بصيغة واضحة وبينة، وذلك حين قابلت بينه وبين ضمي المتكل الدال عليه بصيغة واضحة في : إنّي أتيتك سيدي. وبينه وبين ضمير الجماعة الذي اندمجت ضمنه في : فاشفع لنا، ياسيدي. فما معاناة الذات والجماعة؟ ومن أي شي سيخلصها سيد الذات وسيدها؟ إنه ليس بإمكاننا أن نجيب على هذين السؤالين إلا إذا حددنا المقاطع الصوتية التي سنقف من خلالها على النظام الدلالي للنص . هذا دون أن ننسى بأن لدينا مكونين دلاليين آخرين هما النفي واللامعنى اللذين لم نستحضرهما ضمن هذا الاندماج الذي أشرنا إليه. إن صوت النون تردد في المقطوعة التي بين أيدينا ستا وثلاثين مرة. وهو ما يجعل مقاطعها الصوتية الضعيفة والمتوسطة وذات القدرة الكبيرة مرتكزة لا شك على هذا الحرف الذي يعتبر بؤرة إيقاعية للقصيدة في مجملها. وبتأملنا لهذا المقاطع توصلنا الى التشابه التامّ بين اثنين منها في حدود عشرة أحرف. وهما: لانبلج الصباحُ = لا نبلج الصباحُ فإذا حللنا هذين المقطعين على أساس اعتبارهما وحدتين دلاليتين صغيرتين، ثم على أساس العامل الدلالي في كل واحدة منهما ، وسياقهما الخاصّ ، ثمّ قسمهما السياقي ، وما ينتج عن ذلك من تكوّن الوحدة الدلالية الكبرى ضمن كل محور على حدة، وكذا النظام الدلالي الذي سيسفر عنه هذا المحور؛ أمكننا أن نبرز ذلك بحسب الشكل التالي : العامل وحدة د.ص. سياق قسم سياقي وحدةد.ك. نظام دلالي عامل فاعل لانبلج الصباح انبلج نور صباح+نور نورVSظلمة عامل فاعل لانبلج الصباح انبلج نور صباح+نور نورVSظلمة وهو ما نستخلص منه أن القصيدة تتحرك وفق نظام الظلمة والنور الذي هو نظام دلالي نموذجي ومتميز في الإسلام. ومعنى هذا أن مكوناتها الدلالية تتعالق ضمن هذا النظام، وتتفاعل بحسب معطياته. أي أنّ معاناة الذات الشاعرة تتحدد في أن الجماعة التي تنتمي غليها جماعة تعيش الظلمة أو اللامعنى. وهي في حاجة إلى أن ينبلج صباحها أو يشع النور بين ظهرانيها، هذا النور الذي إذا تحقق انتفت حالة ظلمتها. وتبعا لذلك يمكننا أن نحدد المحاور المعجمية المختلفة للقصيدة، فنصنّفها إلى عنصري النظام الدلالي على سبيل التمثيل وفق ما يلي: ظلمة VS نور ضياع شراع تاه صلاة ضلّ روح خطايا مؤذنّ منايا مقبرة غربان صباح شؤم فلاح خوف رحمة ذلّ سماح ضلّوا صباح فإذا أردنا أن نعرف مجمل العلاقات البنيوية بين هذا النظام الموزّع على هذا الشكل في مستوى المعجم، وبين المكوّنات الدلالية التي استخلصناها سابقا، أي : الجماعة الغائبة واللامعنى، ثمّ المخاطب والنفي ، وموقع الذات الإبداعية ضمن كلّ ذلك، أمكننا أن نوضح هذه العلاقات بحسب الترسيمة التالية: ظلمة موقع وسط نور ضياع لو شراع تاه ما صلاة ضّل روح ..الخ ..الخ الجماعة الذات المخاطب أي أن الجماعة ضائعة مستسلمة لتيهها وظلمتها. لايمكنها أن تتحوّل إلى الاستقرار فتنتفي عنها حالة التشرذم كي ينبثق صباحها إلا بأن تتشبث بما يمثله المخاطب من نور وإيمان ووحدة. في حين أن الذات الإبداعية ممزّقة بين ظلمة هذه الجماعة ورمز النور، تتشبث بهما معا وتريد توحّدهما، أي تريد خلاصها بالإسلام وبالارتباط الحيوي والرائع بشخصية النبي. 3. صورة الظلمة والنور لقد عبرنا في أكثر من مناسبة عن أن البلاغة العربية القديمة لم تستطع مجاوزة الظاهرة البلاغية الجزئية، لتلامس مجمل ما يكون قد ورد في نصّ معين من صور، لابد من أن تتعالق - في رأينا - لتعبّر عن مجمل المجال التخيلي الذي يبدعه الشاعر، فتؤثر في المتلقي من حيث ينبع هذا التعالق فيكون ما يسمّى في النظرية النقدية المعاصرة بشبكة التصوير. ولذلك فإننا سنعمد الآن إلى مقطوعة محدّدة من القصيدة، لندرس بعض مكوّنات هذه الشبكة، عملا بمبدأ التثميلية، ثمّ لكون النص الشعري هنا نصّا مطوّلا لا نستطيع محاصرته من هذه الناحية إلا وفق هذا المبدأ.وهو ما لا يتنافى مع ما نزعمه من تكامل المجال التصوري وتضافر مكوّناته ضمن شبكة العلاقات التي ينتظم في إطارها. هذا إلى جانب أننا نعتقد اعتقادا راسخاً في كون هذه الشبكة غير منفصلة عن النظام الدلالي الذي تبيناه . أي أنها انعكاس تخيّلي - إبداعي لهذا النظام. وهو ما يترتب عنه أن كل مقطوعة من مقطوعات القصيدة تعبير معّين عن هذا التخيّل وصيغة من صيغه، ثمّ بلورة إبداعية للنظام الدلالي للنصّ في مجمله. وسنتّخذ من المقطوعة الثانية نموذجاً للتحليل بقصد إبراز هذا الذي نزعمه من أن الصورة الشعرية: أ. داخلة في إطار شبكة من العلاقات مع غيرها من الصور الجزئية: ب. معبّرة ضمن هذه الشبكة عن نظام دلاليّ يتحكّم في النصّ برّمته. يقول: طيرٌ أبابيلٌ على أفيال أبرهة تجوب مآذن الأقصى لمن في الأرض تعرج روحيّ الثكلىّ؟ ومن سيردّها جذلى إليّ؟ وإخوتي ذئبٌ يشقّ قميصي المذبوح. وسنقرح لتحليل هذه المقطوعة: 1. كونها مؤلّفة من صور جزئية، أي من مجاز واستعارة.. الخ. 2. كونها تتألف - بحسب هذا البعد الجزئي - من سمات دلالية هي التي تحدّد نوع تعالقها. 1 - البعد الجزئي لصورة الظلمة والنور إن الصورة الجزئية عند عبد العزيز محيي الدين خوجة صورة غنية ومكثفة ومتعددة الأبعاد ولذلك فإننا لا نستطيع فهمها وتطويقها إلا على سبيل التوهم كما اشترط ذلك عبد القاهر في أكثر من مناسبة. فنقترح على هذا الأساس أن نحدد مرجعيتها ونوعها ثم تركيبها السياقي وسماتها الدلالية. كل بهدف تحديد مجالها التخيلي الذي ستتعالق ضمنه مع غيرها من الصور. أ - المرجعية: من الواضح ان مرجعية الصورة الجزئية في القصيدة التي بين أيدينا مرجعية إسلامية صميمة مستمدة من النص القرآني بشكل يكاد يكون سافرا: طير أبابيل - أفيال أبرهة - مآذن الأقصى - ذئب يشق قميصي. فهل تم استغلال هذه المرجعية على سبيل الاستنساخ المشوه الذي لا مراء في كونه سيحجب الظاهرة الإعجازية ويجعل من القرآن نصاً عادياً ومتداولا على أساس انتمائه الى اللغة اليومية؟ ثم ما حدود الإبداع انطلاقاً من هذه المرجعية الخارقة؟. إن ظاهرة التضمين في البلاغة العربية التقليدية لا تعدو ان تكون نوعا من الاستشهاد الذي يبرر الاعجاز القرآني دون أن يجعل منه منطلقا وقاعدة لابداع بشري معتمد على ظاهرة خارقة إنه تقليد صميم يدخل في إطار تناس سلبي يستجيب للنص الأصل استجابة شرطية أرى انها تسيء الى الظاهرة الإعجازية أكثر مما تبلورها وتضاعف من أبعادها الجمالية والتخيلية. في حين أن استحضار المرجعية القرآنية العملية الابداعية الحقة استحضار يتجاوز التضمين الى ما يمكن ان نسميه التناص الايجابي أي امتصاص العناصر التصويرية في القرآن الكريم وتمثيلها ضم عملية إبداعية تجعلنا نتصور هذه العناصر تصوراً جديدا ليس هو التصور الوارد ضمن الظاهرة الإعجازية. إننا هنا بصدد إبداع بشري مؤسس على قاعدة الهية! ب - النوع : إنه ليس بإمكاننا أن نحدد نوع الصورة الجزئية المؤسسة على القاعدة الاعجازية الا اذا حددنا نوع العلاقة بين طبيعة الصورة ضمن الذخيرة المرجعية وطبيعتها ضمن عملية الاستحضار. ولذلك فان قوله: طير أبابيل على أفيال أبرهة تجوب مآذن الأقصى عبارة راجعة الى قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل،.. وأرسل عليهم طيرا أبابيل...) ثم الى كون أصحاب الفيل، هم أصحاب أبرهة الحبشي في أقوال المفسرين. وقد كان أبرهة وأصحابه يريدون تدمير الكعبة أو المسجد الحرام إن طبيعة الجزئيات التعبيرية في الآية طبيعة حسية وواقعية وهو ما حدا بالمفسرين الى ان يذكروا أبرهة ويحددوا أنه من الحبشة، وأنه جاء فعلا بفيل أو فيلة، يريد تحطيم الكعبة. ولكن الله أرسل عليه نوعا من الطير يرميه بالحجارة. إن الخارق في هذه السورة يكمن في صلب الحكاية وفي بعدها الواقعي. وحين استحضرها الشاعر غير من طبيعة كل ذلك إذ جعل المرجعية: أ - تخيلية في مستوى عناصرها الأصلية وذلك لكونه أضفى عليها صبغة استعارية في وقت كانت فيه متسمة بسرد واقعي أو حدثي. طير أبابيل: مشبه + مشبه به + حذف المشبه + إقامة المشبة به مقامه. أفيال أبرهة : مشبه + مشبه به + حذف المشبع + إقامة المشبه به مقامه. إن المشبه غير محدد كما نلاحظ في الصورتين معا كما ان وجه الشبه فيهما غائب ايضا. فعلينا إذن أن نستحضر المرجعية القرآنية والتفسيرية بقصد محاولة تأويل ذلك. إن الطير الأبابيل أرسلها لتخلص بيت الله من هجوم أبرهة عليه. ولذلك فإنها كانت رحمة من الله ومعجزة. في حين أنها هنا تركب الفيلة! ثم تجوب مآذن المسجد الأقصى! وببعض التقابل بين هذا المسجد الذي هو رمز للتعايش والسلام والتسامح وبين رعب الصورة في قوله: طير أبابيل على أفيال أبرهة نستطيع تأويل الرحمة الإلهية بكونها قد أصبحت مسخا، وأن المعجزة غدت لعنة. أي أنه قد سلط على المسجد الأقصى الكفر (أبرهة) والمسخ في آن واحد. فمن يكون أصل المسخ؟ إن الذين أعتقهم بإنقاذ بيتهم الذين سلطوا على بيتهم الآخر. فيحتمل ذلك تأويلين: أ - كونهم ينتمون الى ابراهيم، على أساس أن البيت الحرام بيته. وهو ما يؤول الى ان المحذوف من الكلام هم اسرائيل التي سعت باستمرار الى تدمير معالم القدس ومآذنها أي مسخها وتشويه أبعادها الدينية الرائعة. ب - أنهم المسلمون أنفسهم على اعتبار الضياع الذي يعيشونه والتفرقة التي تكونت منهم فيعينون الكفر على ما يريده من تدمير معالم الاسلام في البيت الاقصى وهي صورة أكثر مسخا من الصورة الأولى. يشهد على ذلك السياق الخاص والعام للصورتين اذ المسجد الاقصى تحت سيطرة اسرائيل والاخوة الذين قد يخلصون هذا المسجد من مأساته ذئب يشق قميص الذات الإبداعية. وقبل أن نتناول بالتحليل هذه الصورة الجزئية الثانية نستخلص او نقترح الصيغة التأويلية التالية: طير أبابيل على أفيال أبرهة تجوب مآذن الأقصى: مسخ يركب الكفر كي يدمر معالم الاسلام والتسامح وتعايش الديانات.وهو تأويل سنعضده بعد قليل حين نعمد الى التحليل بالمقومات او السمات الدلالية. يقول: وإخوتي ذئب يشق قميصي المذبوح فواضح أيضا أن المرجعية قرآنية صميمة مجالها الدلالي سورة يوسف عليه السلام. وواضح ايضا ان الشاعر لم يعمد الى التضمين الذي أشرنا قبل قليل الى انه استجابة شرطية قلما اتخذت الصبغة الابداعية المعتمدة على الإعجاز القرآني وتكمن حيوية الصورة وروعتها في ان عبدالعزيز محيي الدين خوجة عمد هذه المرة الى قصة يوسف مع إخوته باعتبارها من أروع القصص القرآنية فاستخلص من عناصرها السردية عامل الذئب وعامل الاخوة وعامل يوسف والقميص ليبدع من هذه العناصر صورة تخيلية تتلخص في : أ - تحويل الإخوة إلى ذئب. ب - تحويل الإخوة والذئب إلى حدث شق القميص. ج - جعل القميص مذبوحا لا مزقا من خلف. د - بكاء الإخوة بعد ذلك. أي أن لديه مرجعية كامنة في: - تشبيه الإخوة بالذئب. - مجاز علاقته الجزئية في القميص إذ صاحب القميص هو المذبوح. ومعناها ان الإخوة يذبحون أخاهم الذي هو الذات المبدعة. وذلك ما يؤكد التأويل الثاني الذي زعمناه للصورة الأولى. ثم تتوسط الصورتين صورة جزئية ثالثة هي (الروح الثكلى) وفيها استعارة مكنية تكمن في تشبيه الروح بامرأة مات عنها ابناؤها ثم يعدل فيها الشاعر عن التصريم بالام وذكر ما يقترب من ان يكون لازما من لوازمها. فإذا عرضنا هذه الصور الثلاث على الترسيمة التي حددناها للظلمة والنور والذات المبدعة أمنا أن نصنفها حسب الشكل التالي: ظلمة الذات نور طير أبابيل ياء المتكلم مآذن أفيال أبرهة في: الأقصى ثكل الروح- روحي (الإخوة) إلى-إخوتي إخوة غدر عليَّ 2 - السمات الدلالية للصورة الجزئية إننا نقصد بالسمات الدلالية مجموعة من المقومات الإيجابية والسلبية التي تحدد الخصائص النوعية لعناصر الصورة وعلى هذا الاساس ستقترح بالنسبة للصورة الجزئية الأولى: أ - طير أبابيل: + حيوان + ذو أجنحة + مسخ. أفيال أبرهة + حيوان + ذو قوائم + كفر. مآذن الأقصى : + شي + مكان + إسلام + تسامح. ب _ روحي الثكلى : + إنسان + ثكل. ج - إخوتي ذئب يشق : + إنسان + حيوان + غادر. قميصي مذبوح : + شي + إنسان + مغدور. وهو ما يحيل على الترسيمة الدلالية وما يكشف عن ان الطير الأبابيل هم الإخوة الراكبون على أفيال أبرهة. وأن الإخوة هم الذئب الغادر وان الذات المبدعة تعاني من تربص الإخوة بالإسلام في المسجد الأقصى ومن أنها ذات فقدت أبناءها ثم ذبحت من غدر الإخوة وخيانتهم. إنها صورة سوداء قاتمة فيها من اليأس ما يجعل الذات الإبداعية ممزقة بين حال الضياع والتيه والمسخ والخيانة إذ لا تستطيع أن تتخلص من كونها منتمية الى جماعتها وبين إرادة الخلاص الذي لن يتم إلا بأن يتحول المسخ الى رحمة الهية، وأن يصبح الغدر وفاء وان تعرج الروح في الأرض جذلي فرحة مستبشرة وهو أمر ان يتم الا بان يؤكد الشاعر في كل مقطوعة: لو أنهم جاؤوك ما شدوا رحالهم إلى جهة الضياع لو أنهم جاؤوك لا نبلج الصباح إننا في هذه القصيدة الرائعة بصدد نمذجة عربية واسلامية جديدة لنظام الظلمة والنور ونعم إنها نمذجة تشعرنا بالفظاعة والرعب ولكنها ومن هذه الناحية بالضبط تكتسب روعتها الشعرية وجمالها. لقد كان نظام الظلمة والنور عند أبي تمام تعبيرا شعريا عن انتصار حضاري حققه الإسلام بالتضحية والاستشهاد والوفاء للقيم المقدسة وهو ما جعل نوره إشعاعا حضاريا وإنسانيا عن مناطق شاسعة من العالم طيلة العصر الوسيط فكان الانسان خارج الاطار الحضاري والانساني يحيا حياة الكفر والظلمة والذل. في حين أن قصيدة عبدالعزيز محيي الدين خوجة قلق إبداعي وتوتر جمالي يشهدان على الظلمة والمأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية في مستوى القيم الانسانية التي كانت قد اسستها واستمرت في حمايتها وتمثيلها ثم ابتعدت عنها وعن محورها الرمزي الذي جاء بها رسالة من الله ووحيا من الملائكة انها قيم النور والصفاء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وعبر عنها شعراء الاسلام بأشكال مختلفة. ولكن الذات المبدعة في قصيدة : لو أنهم تعيش انقلاب هذه الذات الى حال الظلمة : وهي التي نشأت بعكس ذلك في حالة مسالمة الروح وبراءتها. إنها ذات متوترة ضمن كل مستوى من مستويات الصيغ الشعرية التي تبدعها قلقة باستمرار في مستوى القوالب الوزنية والايقاعية في مستوى تغيير السمات اللسانية والفيزيائية التي تميز الشبكة الصوتية للغة في مستوى الوحدات المعجمية التي تعتمدها في خطابها الشعري ثم في مستوى المجال التصوري الذي يعكس القدرة التخيلية لديها. إنها باختصار ذات قلقة على الذات متوترة من اجلها ثم تحتمي برمزها التراثي الرائع: محمد صلى الله عليه وسلم. مولاي صل على الحبيب المصطفى ما شاء نورك في السماء وما اصطفى حتى تطهر روحه أرواحنا حمداً به تثرى النفوس الراجفة مولاي صل بما يليق بذاته، وبذاتك العظمى صلاة وارفة حتى تشع قلوبنا بسلامه وسلامك الأقصى نجوما طائفة