عرف التشكيل السعودي تطورا ملحوظا خلال 60 عاما من المحاولات الجادة لإثبات وجوده تارة وللمنافسة الخارجية تارة أخرى، وشهدت الحركة التشكيلية السعودية تطورا ملموسا في السنوات الأخيرة، إلا أن السؤال هنا: هل واكب التشكيل السعودي الحركة الفنية في الوطن العربي، أم أنه مازال يحاول الحبو كما نعته بعض الفنانين السعوديين؟. الناقد والفنان التشكيلي أحمد فلمبان قال «إن التشكيل السعودي وبعد أكثر من نصف قرن لا زال يحبو، وبالتالي لم يواكب الحركات التشكيلية العربية، بل لم يستطع اللحاق بما يجري في دول الجوار، خاصة الخليج العربي واليمن من عطاءات وأطروحات وأنشطة وفعاليات مبهرة، لأنه لازال قابعا في القيود البيروقراطية والنمطية المدرسية جعلته يقف في حدود «الظاهرة» ولم يتبلور ويصل إلى مستوى الحراك بمفهومه العلمي الدقيق، الذي يبنى على فلسفة ومضامين فنية فكرية واضحة يتبعها دراسات ومؤلفات نقدية وكتاب ونقاد ودوريات متخصصة ومتابعون ووجود المعاهد والأكاديميات المتخصصة والمتاحف، وقاعدة كبيرة من الجمهور والمتذوقين والمقتنين، وبعد ذلك نشر وتوثيق هذه العطاءات ورصد تأثيراتها في الآخرين. وهذا بسبب غياب الخطط التطويرية والدراسات التنموية وعدم الاعتراف بهذا الفن على أنه جزء مهم ينبع من حياة الناس والشعوب يخاطبهم ويضرب على أحاسيسهم ومشاعرهم، وكذلك يستوحي الكثير من تراثه وأصالته ومعاناته، ويعبر عن حاضره ويرمز لبيئته ومجتمعه وواقعه وصدى لتجاوبه وانصهاره مع هذه البيئة ويعكس الصورة الحية النابضة عن هذا الواقع والفنان السعودي لا يعرف لماذا وماذا يرسم!! فهو يعيش في واد وأمته تعيش في واد، وهذا راجع إلى ما يعيشه العالم من متغيرات سريعة جذرية، وهذا انعكس على الواقع الفكري والثقافي والاجتماعي، وبالتالي فهو يتخبط في فوضى من مختلف التيارات الفنية وهو لا يستوحي في قليل أو كثير من الشعور الشخصي والمعاناة التي يعيشها مجتمعه، إلا ببعض المظاهر، وهو أكثره (نقل ونسخ واقتباس عن الفنون الأجنبية) أو ممن سبقوه بحجة التجريد للهروب من إشكالية ذوات الأرواح، فهو يعيش مرحلة انعدام المعالم الفنية المتوارثة (فالطابع مفقود) و(الأصالة ممحاة) واللوحة عبارة عن تشويش وخلط ومحاكاة وتقليد واقتباس من هنا وهناك وترديد لأعمال الغير، فالمتأمل لما يحدث في دهاليز الساحة الفنية يرى المشهد بصورة جلية هذا الخلط في المفاهيم، ولا ننكر أن هناك إنتاجا فنيا جيدا من بعض الفنانين يعكس الأفكار المتجددة والمنطلقات التجديدية والمحاولات الجادة الواعية لدى هؤلاء وبحثهم الدائم والدؤوب لخلق تقاليد فنية ثابتة، وإلى إيجاد صيغة وأسلوب خاص للوصول إلى التميز والفن الأصيل قد يكون ملامح لحراك تشكيلي سعودي يستحق التقييم والإشادة، لكنه غير مؤثر لعدم تبلور فهم نظري لطبيعة هذه الممارسة وعدم وجود مفاهيم محددة لطبيعة الأسلوب المتبع للفنانين ومدى جدية عطائهم، كما أنه مشتت لعدم وجود فكر ينظم نتاجهم وتجربتهم، ومبعثر لعدم وجود عناية واهتمام جاد من الجهات المهيمنة للفنون التشكيلية ومهمل لأنه غير مصنف وغير موثق ومحفوظ في متحف يضمه. وأضاف فلمبان أن عدم وجود المعاهد والأكاديميات المتخصصة وبما يتناسب مع متطلبات الواقع التشكيلي وتحقيق الفائدة المرجوة من صقل وتنمية المواهب والمهارات على أساس علمي سليم في كل المجالات الفنية ساهم في ضعف التشكيل السعودي، إضافة إلى عدم وجود المتاحف المتخصصة وضعف الدعم المادي وغياب تخفيذ الفنان بإيجاد نظام لتفرغه. الفنانة صالحة العساف اقتربت في رأيها كثيرا من أحمد فلمبان، حيث قالت «للأسف لا يوجد تكنيك واضح وهوية للفنان السعودي لأن أغلب أعماله بدون إحساس وتكرار في التكنيك وتكرار للفنان بشكل ملفت للنظر، فتجد التشكيليين السعوديين والتشكيليات يكررون أنفسهم كثيرا». في المقابل، نجد مدير صالة أتليه جدة للفنون الجميلة هشام قنديل وهو أحد المؤثرين في الساحة التشكيلية العربية، حيث خرج بالفن السعودي في معارض خارجية عديدة تحسب له كمدير صاله احترف الفن وسوقه بطرق احترافية شبيهة بالتجارب العالمية يقول «كان التحدي الأكبر للفنانين السعوديين هو كيفية استيعاب واختصار قرون من الخبرات الجمالية عبر تطور مدارس الفن في العالم حتى آخر اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة وكوني معايشا لهذه الحركة لأكثر من ربع قرن أرى أنها حركة وثابة حية تتقدم كل يوم خطوة للإمام خطوة محسوبة بدقة وإن بدا للبعض أنها محض تنقلات عشوائية وأصبح ملامحها الشخصية وبصمتها الخاصة التي تميزها عن مثيلاتها من الحركات العربية الأخرى وهي تتطور يوما بعد يوم فمن جيل الرواد إلى تيار الشباب، ومن قلب الواقعية إلى أطراف السريالية مدارس تيارات اتجاهات.. هناك تتباين أحيانا وتتقاطع حينا، لكنها تتكامل في بعض المرات وفق منظومة تبدو في بعض الحالات كأنها فسيفساء فنية جميلة. وأضاف قنديل أنه بقدر ما فتح الفنانون آفاقهم على الاتجاهات الحديثة، إلا أنه يظل لحركة الفن السعودي تميزها وبصمتها الخاصة وحضورها الملفت للانتباه في المحافل الدولية والبيناليات والتريناليات الدولية، وقد حقق بعض الفنانين السعوديين جوائز متقدمة لعل أهمها الجائزة الكبرى في بينالي بنجلادش الدولي للفنان هاشم سلطان، وكذلك جائزة التصوير الأولى للفنان محمد الغامدي في بينالي الشارقة الدولي وجائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي وغيرها من الجوائز. وأشار إلى أن الاتليه قدم أكثر من تجربة للعرض خارج السعودية في كل من مصر ولبنان وكان آخر هذه التجارب هو المعرض الذي احتضنته دار الأوبرا المصرية لأربعة وعشرين فنانا وفنانة متعددي المدارس الفنية ولكل منهم بصمته الخاصة في الأداء وكان هذا المعرض شاهدا حيا على التطور المذهل لحركة الفن التشكيل السعودي والتي أصبحت بحق تضاهي مثيلاتها في الدول العربية، إن لم تتفوق عليها، وكان ذلك بشهادة كبار النقاد والفنانين المصريين أمثال د. أحمد نوار وأحمد فؤاد سليم (رحمه الله) وعز الدين نجيب وكمال الجويلي، ولم تكن في رؤيتهم لتطور هذه الحركة أي مجاملة لدرجة أن أحد نقاد مصر الكبار وصف معرضنا المقام في دار الأوبرا بأنه ليس مجرد معرض، بل بينالي دولي. وأضاف قنديل قائلا «ولكي نكون منصفين فإننا لا بد أن نقول إنه ينقص هذه الحركة وجود حركة نقدية موازية لها، وكذلك ينقصها وجود أكاديمية حقيقية للفن التشكيلي السعودي وأيضا اتجاه بعض الشباب إلى المفاهيمية وبعد الحداثة دون وجود أي خلفية ثقافية وفقط لمجرد تقليد اتجاهات وافدة من الغرب أو لافتقادهم لموهبة الرسم والتصوير وعدم امتلاكهم أدواتهم. من جانبه، قال محمد الشهري «الحركة التشكيلية السعودية قفزت قفزات جيدة في السنوات الأخيرة، وقد تجاوزت بعض الدول في هذا المضمار ولا نغفل دولة الإمارت التي حققت إنجازات قيمة في الفترة الوجيزه الماضية، والتي يجب أن نطبق ما يناسبنا منها ومن أبسط الأساسيات وجود متحف للفن السعودي ووجود جمعية فاعلة للفن التشكيلي. أما الفنان نهار مرزوق فأكد أن التشكيلي السعودي في الخمسين سنة الماضية قدم قفزات تواكب وتنافس في التشكيل العربي ويتابع بكثير من الاهتمام في الحراك التشكيلي العالمي. وأشار إلى أنه إبداع تجاوز المحلية ووصل العالمية ففي البيناليات، التي اشتملت على الكثير من المشاركات السعودية ترفع الرأس وفتحت أعين الجيل الجديد من الفنانين والفنات السعوديين القادمين بقوة للساحة، وقد خلقت قدوات لهم وتركت مساحة للتنافس أرحب وأوسع. ولم يواكبها للأسف نقد تشكيلي حقيقي بمثل حجم التشكيل المحلي. غادة المحمدي تقول «أعتقد أن المشهد التشكيلي السعودي أصبح يعج بزخم بالتجارب الفنية والتي في أغلبها تجارب غير ناضجة ومعضمها تقليد لأعمال فنانين معروفين لهواة في معظم المعارض الجماعية التي يكون مستواها ضعيفا وأشبه بمعرض مدرسي، لذلك أتمنى على جمعية الثقافة الاهتمام بالمواهب الجيدة وانتقاء أعضائها ومعارضها». وأضافت العساف أنه في المقابل هناك نخبة متميزة جدا، لكنها وهم قلة من الفنانين السعوديين الذين واكبت أعمالهم الحركة التشكيلية عربيا، بل ارتقت لمستوى عالمي في الفكر والذوق الفني.