وسط حضور جماهيري كبير افتتح الأستاذ سامي عطار المعرض الشخصي الرابع عشر للفنان القدير طه الصبان في صالة اتيليه جدة للفنون الجميلة . ومن المنتظر ان يستمر المعرض لمدة عشرة ايام المعرض جاء بعنوان ستينيات الصبان وطرح فيه الصبان اخر تجاربه التشكيلية بعد تجاوزه الستين عاما . الصبان يعتبر من رواد الرعيل الثاني في الحركة التشكيلية السعودية بعد جيل عبدالحليم رضوي ومحمد السليم وصفية بن زقر ومنيرة موصلي وأسس مع زملائه بيت الفنانين التشكيليين برعاية الدكتور سعيد فارسي وتولي رئاسته في عصره الذهبي وكان البيت وقتها شعلة من النشاط المستمر في جميع الاتجاهات الى ان جرت الرياح بما لا تشتهي السفن ووصل به الامر الى هذا الحال. شارك الصبان في العديد من المعارض والفعاليات داخل وخارج المملكة وكانت اهم مشاركاته في معرض اليورو ارت بسويسرا برعاية مؤسسة المنصورية للثقافة والابداع واقام معرضا شخصيا لاعماله في قاعة اليونسكو ببيروت وخان الافرنج بصيدا وكما عرضت اعماله في بينالي القاهرة الدولي وبينالي الشارقة الدولية وبيناليات اخرى واقام معرضين شخصين في قصر الفنون المصري بدار الاوبرا على هامش معرض ابداعات سعودية معاصرة الذي نظمه اتيليه جدة للفنون الجميلة ، وحقق الصبان جوائز مهمة من خلال هذه المشاركات منها جائزة بينالي طهران الدولي وجائزة بينالي اللازقية الدولي وعلى المستوى المحلي حقق جائزة الفن السعودي اكثر من مرة وجائزة ابها الثقافية وجائزة الجنادرية الاولى حتى وصفه ذات مرة الناقد المعروف محمد المنيف بفارس الجوائز . وفي قراءة لتجربته الجديدة يرى الفنان والناقد عبدالله ادريس بعنوان محاورة شخوص الصبان يقول ادريس قبل أربعين عاماً ونيف أمسك فرشاته ولون ورسم ولم يكن يعلم إلى أين تقوده بوصلة الفن لم يتردد إزاء هذه المحاولة التيقادته ليأخذ مكانته الفنية في خارطة الحركة التشكيلية المحلية.. وحدها مخيلته المسكونة بالبيئة (المكية) كانت تأخذه نحو الحلم. الفنان التشكيلي طه الصبان الذي خرج من معطف الفنان الرائد عبدالحليم رضوي إلى جانب كثير من شباب جيله..وبينما كان الرضوي مستغرقاً في شمولية الموروث والتأليف الموضوع كان الصبان مخلصاً لبيئته (المكية) باستمرار حتى وهو يقوم عناصر البيئة المحلية بتعدديتها. كانت المكونات الأولية عند كثير من التشكيليين في السعودية تشكلت بمفردات وروح الرواد وكان الفنان الصبان أحد الذين أخلصوا في تأثره بالرضوي ثم مالبث أن تفرد ليخرج بشخصيته ويبحث عن ذاته الفنية فجاءت أعماله بخصوصية تحمل مكنونات متخيلة منحها الفنان كثيراً من ذاته وعاطفته وذاكرته المعجونة ببيئته. عاصر الصبان بدايات انطلاق الحركة التشكيلية المحلية حينما كان جيل الرواد يؤسس ولم تكن طرق تلك المرحلة سالكة حيث كان من العوائق فيها موقف المجتمع تجاه الإبداع والفن حتى إن بعض الفنانين التشكيليين توقفوا أمام هذا الواقع وواصل بعضهم مسيرته وكان الصبان أحد هؤلاء الذين حملوا راية التحدي لإكمال الرسالة. يكتمل المشهد في لوحة الصبان وهو يحاكي البيئة (المكية) المتأصلة في وجدانه وذاكرته بمورثاتها الخارجية والداخلية ونماذجها المتعددة وهي تقوده بالضرورة وتحرك رؤيته البصرية نحو مسالك الهوية. ويشيلر ادريس الي ان تلك البيئة (المكية) هي أيضاً المخزون الرئيس للموروثات البصرية الحجازية والتي تكونت لدى فنانين آخرين أخذوا من مفرداتها عبر معايشتهم لها. هذه المغامرة نحو ضوء شاحب يتسلل من بعد لم يكن أمام هذا الفنان غير الاتجاه نحوه وملاقاته ولم يكن عمله يعني بيئة دون أخرى فهو يعني الوطن بمناخاته وموضوعاته المتعددة. تأتي شخوص الصبان في لوحته من أغوار أزمنة قديمة دون أن تعلن عن تفاصيلها وجزئياتها فالفنان ليس معنيا بتلك التفاصيل وبمحاكاة واقعها المحيط بقدر ما يمنحها جماليات شكلية مختزلة تستطيل الشخوص في عمله نحو الأعلى وكأنها ترسم حدود اللوحة باستطالاتها يخرجها من موضوعيتها المعتادة ويلبسها أجواء أسطورية مبتكرة. لم يكن الفنان يعمد أو يقصد أن يحجب مكنونات تلك الشخوص فهي تأخذ صفاتها الشكلية والموضوعية من مخيلة الفنان اللاشعورية وتدخل في أحجية أسطورتها التي تستمدها من واقع وإيقاع الموروث بكافة أبعاده الشعبية من السرد الحكائي والأمثال الشفاهية وطقوس الحياة اليومية ليتحول هذا الموروث إلى رؤية بصرية. هذه الشخوص تبدو وهي تتزين وتكتسب بزخرفها الملون كأنها تتحاور فيما بينها تارة وتحاورنا بصمت تارة أخرى وهي ترغب في أن تبوح بدواخلها والفنان يترجم صمتها بسرد لوني وبشكل أكثر حداثة وأقل محاكاة لواقعها وأزمنتها حتى تكاد أن لا تشبه إلا نفسها. بينما يري هشام قنديل مدير اتيليه جدة في قراءة موجزة له عن المعرض بعنوان الصبان.. شاب في الستين يقول قنديل في رحلة مديدة وممتدة من الإبداع المتميز.. والتفرد الواضح يدهشك طه الصبان بالمزج بين عنصرين في ثنائية فريدة؛ فالسنوات زادته خبرة ورسوخاً وتمكناً أكثر من أدواته، لكنها زادته أيضاً حيوية مدهشة. تقديري أن أعمال معرض الستينيات الاخيرة لطه الصبان تعد النموزج الأوفي لكل المراحل التي مر بها هذا الفنان في خصوصيتها وتدفها ورسوخها. فيها يعيد تركيب هويته وانتماءاته ومفرداته مستحضراً جذوره القديمة دون الوقوع في أسر الخطاب المباشر. إذا حاولنا الإمساك بأهم ما يميز الصبان فستجد أنه مرتبط بمكان طفولته في مكةالمكرمة التي عاش طفولته وصباه في ربوعها وظل وفياً لمشاهدها مع تحريك ذاكرته في اتجاه جذورها، فالمكان هو الذي يلعب دور البطولة في أعماله مع الاستحضار التاريخي لمكةالمكرمة التي تتجول فرشاته في دروبها وأزقتها ومشربياتها ومبانيها العتيقة؛ اختفت ألوانه وراء ستار الزمن لتبدو هذه الأماكن مختلطة بأنفاسه ونبضاته ليقدم لنا أعمالاً تواكب الواقع لكنها لا تقلده. برؤية جمالية متفردة يتجاوز فيها الوصفية والمحاكاة ستجد في خلفية أعماله بناءاً معمارياً وستجد هناك توافقاً بين هذه المعمارية وبين عفويته في الأداء والبساطة. وستجد في هذا المعرض تحديداً أن المكان في أعمال الصبان يأتي محملاً بوجوه البشر وبالذات عنصر المرأة التي تحمل في ملامحها خارطة دقيقة للمكان يتعانق فيه التاريخ والجغرافيا وصولاً إلى اختزال مدهش لثنائية الإنسان والمكان وكأنك أمام مشهد سينمائي مفعم بالحركة. للبحر في أعمال الصبان ذاكرة خاصة توقظ في وجدانه ذكريات وموروثات امتدت إلى التاريخ البعيد وكأنه يستعير ألوانه من البحر بما فيه من صفاء وشفافية فجاءت ألوانه التي تغلب عليها الزرقة بتدرج لوني بهيج فيتعانق الأزرق الهادئ مع اللونين الساخنين الأحمر والأصفر وجاءت بيوته سابحة في ضوء القمر وهمسات الليل وحكايات الأجداد. بينما يقول الناقد العربي المعروف عمران القيسي في قراءة له بعنوان اللوحة موهبة الواهب والموهوب يقول القيسي: إن اللوحة الصبانية تحمل وبعد هذا الزمن الإبداعي الذي عايشه الفنان، مواصفات منتجها وتفسيره التصويري لرؤياه الفكرية والبصرية أو إذا شئنا الفكرية والحسي. لأن لوحة الصبان تخضع لتوازن دقيق بين ماهو عقلي وما هو جسدي. فالصورة فيها لاتخدم وضوحها كما هو الأمر في أي عمل تصويري مباشر. بل تخدم سبب وجودها في الموقع المحدد لها من المساحة التصويرية. إنها كمفردة صارت كلمة في سطر لغة متكاملة يعزز فيها الصبان نظرته الخاصة للمكان المتفاعل مع الزمان. ليس هناك من مكان قائم بذاته ومرسوم من أجل أن يعيدنا إلى واقعية ماضيه بل هو المكان المندمج بحركة الزمان ودلالات التحول التي مابرحت ترفد الصبان بمزيد من الرؤى الجياشة حيث باتت الآن تتجلى في جدرانياته أوضح أو أعنف مما تتجلى في بعض لوحاته والسبب إنه وبفعل الملمس الشرس للخامات التي يستعملها في جدرانياته بات يدرك أهمية الديمومة التي هي جدل مستمر مع العيون وبشهادة الزمان وحده فيما سيلعب المككان دور المراقب المحايد. إن لوحة الصبان التي اعتدنا على صعودها فوق مستوى سطح التعبيرية الدارجة. بل حتى فوق سطح تعبيريته الأولى أخضعت مؤخراً لقدر من التبسيط، لكن شفيعها أنها وجدت لكي تصير قطباً مغناطيسياً جاذباً، وهنا رغم هذا الطموح النبيل، فإن مثل هذه الرؤى التي جربها غالبية الفنانين الكبار. ستقدم لنا لوحة الدهشة التي نسميها بالشرقطة الكهربائية الخطيرة. طه الصبان فنان يسير بفعل عمق تجربته على خط التوتر العالي من التعبيرية العربية المعاصر. ويقدم لنا اللوحة التي تحمل كافة التوقعات والاحتمالات.