أطفال يتجولون أو يتحركون ذهابا وإيابا أو حتى مجرد ضجيج كل هذا لا وجود له. طرق يركض فيها الغبار أو شوارع تسكنها حفر مزمنة أو تحتلها هياكل سيارات مهترئة.. أيضا لا وجود له. فالطرق مسترخية وتغط في سبات هادئ وهادئ تماما تحت ظلال الشجر. هدوء بالنسبة لي مخيف ومخيف جدا. وفي لحظة ظننت أنني سوف أتجول وأتجول ولن أصادف أي ساكن يتحدث لي في الأحياء الحديثة. وهذا ما لم آلفه في الأحياء القديمة والشعبية التي رغم عشوائيتها واحتياجها لكثير من الخدمات، لكنها تتفوق في المجال الاجتماعي عن غيرها من الأحياء. لا أظن يا صديقي أننا سنجد ما نكتب عنه. هكذا بادرت زميلي المصور وهكذا كانت قناعتي في بداية الموقف، وفيما كنت أتجول حالفني الحظ وعثرت على أشخاص يسكنون الحي ويحملون هموما لا علاقة لها بالنظافة أو المياه الآسنة أو المستنقعات المزمنة أو حتى صخب الطريق. فمن الساعة التاسعة صباحا وحتى الواحدة، تلمست كل تلك الهموم ورصدت معاناة القاطنين في حي (المحمدية) فماذا قال ساكنوه: أعمدة وأشجار حينما رأيت عمر بن رهدان عقيد متقاعد يهم بدخول منزله فرحت بعد يأس قال: مشكلتنا مع هذه الأشجار التي تم زرعها على الرصيف، هذه الأشجار تملأ بيوتنا بأوراقها المتساقطة بصورة دائمة ومستمرة، وهي ملاذ للبعوض، واستغرب لماذا لا يتم إزالتها واستبدالها بأشجار النخيل، كما أن أعمدة الإنارة يضيء الجزء الأيمن منها في الوقت الذي لا تضيء الأعمدة الواقعة في الناحية اليسرى من الطريق، وهذه مشكلة تمتد منذ عام 1421ه وسبق أن تقدمنا بشكوى إلى أمانة جدة ولم يبت فيها حتى هذه اللحظة واكتفوا بإبلاغنا بأن هناك مشكلة في (الطبلون العام). النفايات والرصيف ورغم انشغال حسان حبيب مع عمال الصيانة لمكيفات منزلة إلا أنه بادر للحديث قائلا: يا أخي أنظر لهذا الرصيف الذي يقع في منتصف الطريق دونما يتم وضع بلاط فيه بينما لو تحركت على نفس امتداد الرصيف وبحدود أقل من (100) متر سوف تجد أن الأمانة قامت بوضع البلاط على ذلك الجزء من الرصيف، هذا الوضع نتج عنه أن تحولت المنطقة الوسطى للرصيف لمرمى من النفايات التي أهلكتنا برائحتها وتجمعت الحشرات فيها وعذر الأمانة وجود الأشجار. مكتب العمل تركت حسان وهممت بالتحرك حينما توجه نحوي الشاب خالد الزهراني، الذي أتى إلى الحي بحثا عن مكتب العمل والعمال «القسم النسائي» قال: تعبت وأنا ابحث عن مكتب العمل في ظل عدم وجود لوحة إرشادية تشير إلى موقعه! فهل تعلم أين أجده الآن؟ ويشيد الشاب حسين يحيى الظافري بمستوى النظافة قائلا: رغم أن الحي يشهد اهتماما جيدا في نظافته، لكن هناك مشكلة تتعلق بتراكم مخلفات ومياه حول مسجد أبوبكر والبيوت المجاورة له، وللأسف تبقى هذه المياه فترة دونما يتم سحبها ولا أعتقد أن هناك مشكلة أخرى في الحي خلافا لذلك. شاحنات المساء لكن للمهندس سالم محمد باسليم معاناة أخرى حيث يقول: يقع منزلي بجوار تقاطع سبب لي إزعاجا مقلقا حيث أنه المكان المفضل الذي تتجه إليه الشاحنات الكبيرة التي تتملص من قرار حظر تحركها وضرورة إيقافها عند الساعة السادسة صباحا، وهذه الشاحنات تسبب لنا إزعاجا، إضافة إلى أنها ساهمت في تكسير الأرصفة المحاذية لمنزلي ومنزل جاري نتيجة ضيق التقاطع، كما أن مشكلتنا لازالت قائمة مع الحفريات التي يتم تنفيذها في طرق الحي بالترقيع العشوائي، هذا الترقيع يتم بصورة غير جيدة، وتترتب عليه هبوطات، ويشير المهندس باسليم إلى معاناة تكاد عامة لكافة سكان الحي حيث يقول: منذ أن سكنت في هذا الحي لاحظت أن كل ساكن معزول تماما عن جيرانه وبصراحة لا أكاد أن أراهم إلا وقت الصلاة فقط، أما ما عدا ذلك فلا أحد يعرف أحدا حتى المشاركة في المناسبات أيا كانت هذه المناسبة لا تجد حولك أحدا من جيرانك أو من ساكني هذا الحي، وباختصار العلاقات الاجتماعية معدومة تماما لدرجة أنه حدثت عملية سطو وسرقة لمنزلي ما بين المغرب والعشاء وظلت الخادمة تصرخ بأعلى صوتها طالبة المساعدة والنجدة ولم يكترث لها أحد وهذا أمر مفزع ومرعب جدا بالنسبة لي، ففي الأحياء الشعبية مثلا يمكنك أن تغادر بيتك وحتى تسافر بعيدا وأنت مطمئن بأنه لا سمح الله لو صار لمنزلك شيء ستجد من جيرانك من يقف ويبادر لحمايته، وهذا ما نفتقده في الأحياء الجديدة. عزلة العلاقات ويشاطره أسعد محمود بخاري قائلا: بالفعل كل مشغول بنفسه، ولا علاقة له بأحد بالرغم أننا جيران ولا يفصل بيتي عن بيته سوى جدار وبالرغم أنني أخذت زمام المبادرة وقمت بالكثير من الزيارات الودية وبأسرتي أيضا للكثير من جيراني هنا، إلا أنني وجدتهم يتحاشون التواصل معي والكل يعتذر بأنه مشغول، وتكاد تمضي أشهر طويلة دون أشاهد أحدا منهم، الكثير منهم لا أراه إلا أثناء الذهاب للدوام أو العودة منه، أو أثناء نقله أبنائه للمدرسة فقط، وغالبا هي ثوان لتبادل السلام فقط أما أن يسأل عنك وعن أحوالك أو يلتقي بك ثانية، فهذا لا وجود له ولم أعشه بعدما انتقلت وأسرتي للسكن هنا، فقبل ثلاثة أشهر أقمت حفل زواج أحد أبنائي، وقد دعوت كل الجيران المحيطين بي، وتألمت حينما لم يلب الدعوة أو أن يعتذر أي منهم! وتساءل: مع من أتشاطر الخوف والفزع، فكما ترى أسوار بيتي لا تتجاوز المتر والنصف وبسهولة يمكن تسلقها، وبالتالي كم أخشى من حدوث سرقة أو غيرها في فترة غيابي ولهذا السبب اضطررت لوضع هذه الكاميرات حول السور من باب الحماية وبالذات بعد تعرض عدد من المنازل لمثل تلك الحوادث وأنا رجل لا أحب البقاء في البيت كثيرا بل أتوجه لأصدقائي من جيراني القدامى في النزلة اليمانية، ومشكلة انشغال الواحد بنفسه يجعلني أقول وأجزم أن الشخص إذا شاهد سيارة تنقل عفشا من أحد البيوت لن يقف ليسأل عن صاحبه وهذا لا يحدث في الأحياء القديمة التي تشتهر بالتكاتف الاجتماعي. وينصح نهار عبد الواحد نقشبندي كل من يأتي لزيارة قريب أو صديق له ولا يعرف مكان بيته، ألا يعتمد على سؤال الآخرين، لأننا وبصراحة لا نعرف بعضنا البعض مثلما هو الحال في أحياء جنوبجدة مثلا أو الأحياء الشعبية التي تجد فيها من يدلك أو يساعدك، فأنا لو سألتني من هو الرجل الذي يسكن في البيت الذي لا يبعد عني أكثر من أربعة منازل، لقلت لك: لا أعلم، وأنا فعلا لا أعلم، ولا أخفيك سرا أني بدأت أشك في تلك البيوت القريبة من مسكني أنها مأهولة بالسكان، والسبب عدم رؤيتي لأي شخص يدخل أو يخرج منها، لكن أعتقد أن البيوت التي تقع في الناحية الأخرى من الحي لديهم من التواصل الكثير، فالعلاقات والتواصل الاجتماعي في المخططات ليست مثلما هي العلاقات الاجتماعية في الحارة أو الأحياء الشعبية ولا يجب أن تقارن أو تلوم الناس.