الإعلام الجديد أصبح «مستقبلا محتوما»، فليس هناك خيار أمام الإنسانية سوى استمرار هذا النوع من الإعلام الذي أثبت في الأيام الأخيرة قدرته على صناعة الأحداث والتعبير عن ما يدور في النفس بعيدا عن الرقيب في ثورة تفاعلية جمعت بين الإيجابية في توصيل الرأي والسلبية في خلق الفوضى والتشويش على أفكار المجتمعات الحالمة بالكمال في مختلف مناحي الحياة. جاذبية الإعلام الجديد وقدرته على جذب الناس بطريقة سحرية جعلت المستخدمين لتلك التقنية ينعمون بما أتاحت لهم من مساحة للتعبير ونوافذ للتواصل مع الآخر ومعرفة ثقافته، إلا أن تلك الميزة سرعان ما امتدت لها كثير من الأيدي الاستخباراتية العالمية في محاولة لتعبئة الشعوب أحيانا، وتدارك ردود الفعل في أحيان أخرى، وبذلك فقدت تلك المنابر جزءا كبيرا من براءتها ومصداقيتها. الثورات العربية الأخيرة أبرزت قدرة هذا النوع من الإعلام على التأثير في تغيير ملامح العالم وربما يكون هذا الإعلام الذي تحرره أيدي البسطاء قد فاجأ من سعى لإيجاده، كما أنه قرع جرس الإنذار محذرا الإعلام التقليدي من الخطر المقبل، ليوجه الدعوة لكل من يرغب في الاستمرار باستبدال الورق والانحياز «للكيبورد»، خصوصا أن المؤشرات تدل على استمرارية هذا النوع من الإعلام الجديد القائم على تكنولوجيا الإنترنت والهاتف المحمول؛ لأنه لا يبدو أن هناك أي احتمال لتوقف الإنترنت والهاتف والتكنولوجيات الرقمية الأخرى عن التوسع والانتشار والسيطرة على سلوك الإنسان اليومي الذي يرى فيه مصدرا لصناعة المعلومة والخبر والترفيه عبر هذه الوسائل، وهو ما يمثل الوقود الذي يعطي لهذه الوسائل النجاح والاستمرار في جاذبيتها للناس. تلك الثورة المعلوماتية التي منحت كل إنسان بسيط منبرا إعلاميا يضاهي أقوى المنابر المؤثرة لم تحجب عيون المعنيين بالإعلام عن تلمس بعض المخاطر والعيوب المحيطة بهذا النوع من الإعلام الجديد، وهذا ما يراه مدير الإعلام الجديد في مجموعة MBC الدكتور عمار بكار، الذي قال: «أشعر بأن هناك أخطارا حقيقية تهدد الإعلام الجديد في المستقبل، ومنها بعد الإعلام الرقمي عن كلاسيكيات الإعلام التي تقوم على الموضوعية والمصداقية، وذلك لأن التكنولوجيات الجديدة تعطي وزنا متساويا لكل المستخدمين، وتشجع على المحتوى الذي ينتجه الجمهور، وهذا محتوى في الأصل لا يزيد عن كونه محتوى شخصيا لا تتوفر فيه أي من شروط المحتوى الإعلامي الرصين، فضلا عن ضعف اللغة المستخدمة مما يقرع الجرس للتنبيه بخطر مقبل يضعنا أمام لغة تواصل جديدة لا تحتكم إلى قواعد اللغات العالمية». وزاد بكار أن تنافس «المحتوى الشخصي»، إن صح التعبير، والذي يشمل الصفحات الشخصية على موقع الفيس بوك وفيديوهات يوتيوب مع «مواقع البحث» (مثل غوغل طبعا) مع الإعلام الجديد على كعكة إعلان واحدة على الإنترنت هو أمر غير مسبوق، فقبل الإنترنت كانت الميزانيات الإعلانية توزع بنسبة عالية على الوسائل الإعلامية، والآن قد لا يحصل المحتوى الإعلامي على نسبة عالية من ميزانيات الإعلان على الإنترنت، وهذا يعني عدم توفر مصادر الدخل، والذي يؤثر في النهاية على جودة المحتوى ويؤدي إلى ضعفه وعدم مصداقيته، كما أن الإعلام الإلكتروني يتجه بسرعة نحو الرسائل السريعة المختزلة، وذلك حتى يتوافق مع وسيلة كالهاتف المحمول ومع كثرة الخيارات لدى الشخص المستخدم للإنترنت والموبايل، والرسائل السريعة والمختزلة تبتعد دائما عن العمق والشرح المكثف والمعلومات الوفيرة، وهذا يعني أن الرسالة الإعلامية ستتجه نحو السطحية والاختصار، وهو أمر أخاف منه وخاصة على الشعوب العربية التي لا تجد لقراءة الكتب في حياتها مكانا كبيرا». المرأة في الإعلام الجديد «تشارشيه لافام» ذلك المثل الفرنسي الذي يقول «ابحث عن المرأة» يكاد أن ينطبق على معطيات كل من الثورتين التونسية والمصرية، حيث برزت المرأة لتسهم في قيادة الثورة جنبا إلى جنب مع الرجل، وبرزت أسماء لامعة في الثورة المصرية ومنهن الفتاة الشابة أسماء محفوظ ونوارة نجم «ابنة الشاعر المعروف أحمد فؤاد نجم» وغيرهما من اللواتي استخدمن معطيات الإعلام الجديد ووظفن أدوات التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر ويوتيوب وفليكر بعالمه الافتراضي لتحقيق أحلام التغيير والثورة حتى سقوط النظام على الأرض. صناعة القرار وبقدر تخوف البعض من الإعلام الجديد، مستندين في ذلك إلى افتقاره إلى أبجديات الإعلام الاحترافي الرصين، فضلا عن تدخل عقول غير بريئة لتوجيهه بما يخدم مصالحهم، فإن آخرين يرون بأن الإعلام الجديد أو الشعبي رغم استخدامه أعلى درجات تقنيات العصر أصبح أداة فاعلة في توصيل مطالب الشعوب عبر نماذج تونس ومصر وليبيا وغيرها، وهو ما جعل الإعلام التقليدي يقف على المحك، وكذلك أدوات الثقافة والسياسة التقليدية أصبحت تترنح من سكرة المد الكبير للعالم الافتراضي الذي كشف عن قدرته على حرية التعبير والتنظيم والإدارة الجيدة وتحقيق النجاح لأهدافه بسرعة فائقة باتت تشكل خطرا على كل ما هو قديم. ويؤكد ذلك ما قاله أستاذ القانون في جامعة جورج واشنطنالأمريكية جيفري روزين، «إن مستقبل حرية التعبير عن الرأي سيحددها صناع القرار في شركات مثل غوغل، وفيس بوك، وكومكاست، وليس من قبل السياسيين والسلطات القضائية في عدد من دول العالم». التشارك والتفاعل من جانب آخر، يرصد أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة الدكتور صفوت العالم قدرات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي على التأثير في الشارع وتوجيه الرأي العام، وهي القدرات التي كانت تحتكرها المؤسسات الإعلامية ودور النشر التقليدية وإن كانت هذه المؤسسات التقليدية كما يقول صفوت العالم قد سارعت إلى استخدام التقنيات الحديثة كي تتمكن من تقديم محتوى إعلامي جيد قادر على التواصل مع الجماهير الجديدة، خاصة مستخدمي الإنترنت قبل أن يفوتها القطار. وأضاف صفوت العالم «أن أبرز سمات الإعلام الجديد هي قدراته التشاركية والتفاعلية، حيث يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي ما يزيد على مليارين من البشر من مختلف أنحاء العالم، وتتيح تطبيقات الإعلام الجديد الأدوات التي تساعدهم على مشاركة بعضهم البعض عبر التواصل بواسطة البريد الإلكتروني، والرسائل القصيرة والفورية والدردشة، بجانب العمل التشاركي من خلال ويكيبيديا وغيرها». التخليد ودولة الفيس بوك يعتبر محمد مجدي، وهو صحافي شاب شارك في ثورة 25 يناير، أن الفيس بوك صنع نجوما من الشباب المستخدمين لأدوات التواصل الاجتماعي ذوي الخبرة التقنية مثل شباب حركة 6 أبريل وأسماء أخرى مثل وائل غنيم، أحمد ماهر، محمود سامي، خالد السيد، أسماء محفوظ، عمرو سلامة، محمد عباس، عبدالرحمن سمير، والناشطة نوارة نجم وغيرهم الكثير، كما خلد الضحايا قبل الثورة مثل خالد سعيد وسيد بلال ضحايا التعذيب على أيدي أمن الدولة، وعاد وخلد أسماء الضحايا من شهداء الثورة، بل تجاوز الحد إلى اعتبار القول إنه أقام دولة الفيس بوك في مصر المحروسة!. ويتابع مجدي «إن أدوات التواصل الاجتماعي بوصفه إعلاما جديدا لا تزال وسيلة سهلة ولذيذة في التعبير الحر بعيدا مخاطر التعبير الحر في وسائل الإعلام التقليدية، خاصة المرئية التي تجعل المعبرين عن آرائهم الحرة فيه معلومين للأجهزة الأمنية، ولذلك استقطبت أدوات التواصل الاجتماعي المختلفة مئات الآلاف من الشباب قبل الثورة الذين تبنوا المأساة الإنسانية التي تعرض لها كل من خالد سعيد شهيد الإسكندرية على أيدي رجال الشرطة وأفضى تعذيبه إلى الموت، وكانت صفحة خالد سعيد على الفيس بوك شرارة جمعت الشباب حولها قبل الثورة بنحو ستة أشهر، وكذلك مأساة سيد بلال الذي قمعته الأجهزة الأمنية خلال الاشتباه في حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية. وأبان مجدي أن لجوء الشباب وغيرهم من الفئات العمرية إلى التعبير عن آرائهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي لما يوفره لهم من حماية يصعب معها قيام أي جهة أمنية بحجبهم، خاصة أنهم قد يستخدمون أسماء مستعارة تارة وأدوات تقنية أخرى لإخفاء ذواتهم الحقيقية تارة أخرى، ففي داخل هذا العالم الافتراضي يصعب على أية حكومة أن تلقي القبض على الجيوش الجرارة من مستخدمي الإعلام الجديد. حقوق الإنسان واستطرد محمد مجدي «أن دم خالد سعيد نموذج صادق على ذلك، حيث إنه لم يستخدم اسمه ولا شخصه واختار أن توضع صورة «خالد» في الصدارة فارضا سياجا من السرية لصفحة «كلنا خالد سعيد» على شبكة «فيس بوك» التي يزروها يوميا ما لا يقل عن 2.5 مليون زائر، واعتمدت على تطبيق نموذج ديموقراطي في طرح الأفكار وتنفيذها بعيدا عن سيطرة منشئ الصفحة، لتتيح الصفحة مبدأ حرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر وصولا لهدف اسمى هو وقف التعذيب في السجون المصرية، وبالطبع واصلت صفحة خالد سعيد دورها في ثورة 25 يناير وأطلقت حملاتها ومنها حملة 26 نوفمبر جمعة الغضب». الدفاع عن المبادئ وبعد حرق مقار أمن الدولة في مصر يواصل مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة الفيس بوك، حماية ثورتهم في مواجهة ما يعرف في مصر بالثورة المضادة، وتقول أسماء محفوظ «أول من أطلقت شرارة ثورة 25 يناير» إن الثورة بالطبع لها أعداؤها الممثلون في بقايا النظام السابق من رجال الأعمال والحزب الوطني وأمن الدولة، وحرق الوثائق الذي شاهده العالم دليل على استمرار الثورة المضادة، ولكننا مصرون على الحفاظ على ثورتنا وسنواصل التوعية عبر شكبات التوصل الاجتماعي لسد أية ذريعة لأشكال الفتن التي يحاول رموز النظام البائد زرعها في مصر عبر أشكال عديدة ومنها الفتنة الطائفية وترويع الآمنين بتسليط المجرمين والبلطجية على الناس في الشوارع. ورأت محفوظ أن الفتنة تطال أيضا محاولات نشر وثائق مزيفة لإثارة الفتن ولذلك لابد وأن ننشر الوعي الكافي عبر الفيس بوك عن مخاطر هذه الفتنة. تويتر في دراسة قامت بها مجلة لغة العصر في مؤسسة الأهرام رصدت فيها تأثير استخدام موقع تويتر عبر الرسائل الموجزة القصيرة المتعلقة بالثورة والتي تم إرسالها وتداولها عبر موقع تويتر خلال الفترة من 10 يناير إلى 10 فبراير، واعتبرت الدراسة أن ثورة 25 يناير المصرية هي أول ثورة تدار إدارة لحظية تشاركية من قبل جماهيرها الواسعة دون الحاجة إلى قيادة موحدة تديرها، ويعتبر موقع التواصل الاجتماعي بالرسائل القصيرة تويتر واحدا من المفاتيح الأساسية. الدراسة التي قام بها فريق مكون من الدكتور خالد الغمري أستاذ اللغويات الحاسوبية في كلية الألسن جامعة عين شمس الأستاذ الزائر في جامعة فلوريدا في الولاياتالمتحدةالأمريكية وجمال محمد غيطاس محرر الصفحة ورئيس تحرير مجلة لغة العصر، تصف موقع تويتر في الثورة بأنه يشبه دور الجهاز العصبي بالنسبة لجسم الكائن الحي، موضحة أن الثورة احتاجت منذ بدء التفكير فيها والدعوة إليها ثم بدء تنفيذها على الأرض وحتى لحظة نجاحها إلى نظام اتصالات ينقل أفكارها ويوفر معلومات وبيانات للمشاركين فيها لتدبير أمورها وتسيير أنشطتها في الميدان، حيث إن تويتر وفر للثوار والجمهور نظاما فعالا للاتصالات الفورية ربط بين الجالسين في المنازل والسائرين في الشوارع والمعتصمين في الميداين والداخلين في عمليات كر وفر مع قوى البلطجة في النظام البائد، الأمر الذي يجعله بالفعل مستحقا لوصف (الجهاز العصبي الرقمي للثورة) وإحدى كلمات السر القوية التي جعلت منها ثورة تدار لحظيا بطريقة جماهيرية تشاركية واسعة النطاق.