لا تظنوا أني سأحدثكم عن الرقابة الإعلامية ومحظوراتها المشهورة، أو رقابة مسؤولي تحرير الصحف وأقلامهم الحمراء المرعبة، أو رقابة المعلمين على طلابهم في ساعات الاختبارات الثقيلة، أو رقابة الوالدين على أولادهم أو المشرفين على أعمال من لهم سلطة على أعمالهم، ما سأحدثكم عنه نوع آخر من الرقابة، رقابة لا تأخذ صورة رسمية، وليس لها دور محدد، وإنما هي تبث في نفوس أصحابها غالبا شعورا بالمتعة والانتشاء، تلك هي مراقبة الناس بعضهم البعض. في بعض المرات أكاد أشك أن ممارسة هذا النوع من الرقابة قد تكون مورثة بيولوجيا لدى بعض الناس تتسلل إليهم جيلا بعد جيل، أو فطرة غريزية موجودة في دواخلهم لا قبل لهم بضبطها أو التخلص منها تجري مع دمائهم وتتردد مع نبضات قلوبهم. هذا النوع من الرقابة له أشكال مختلفة، منها ما يمارس أثناء الانتظار في مكان ما ويمكن لنا أن نطلق عليها (رقابة الانتظار)، وهي تحدث عادة أثناء الجلوس في عيادة الطبيب أو في صالة البنك أو في المطار أو في السيارة، فيسلط المنتظرون (راداراتهم) البصرية على متابعة الجالسين معهم أو العابرين بهم، يعدون عليهم الخطى والحركات، ثم يأخذون في نسج القصص والتأويلات في أذهانهم حول ما يرون، وربما غادروا المكان بحصيلة من الأخبار والقصص التي ألفتها أذهانهم ليشرعوا في رواياتها في مجالسهم الخاصة. إلا أن هذا النوع من الرقابة يتصف بالمحدودية فهو لا يخرج عن النظر ونسج الظنون بناء على ذلك. بيد أن هناك نوعا آخر من الرقابة، يمكن أن نسميها (رقابة الطريق)، فهي غالبا تحدث في الأماكن العامة والطرقات، وهي تتسم بكونها رقابة فاعلة لا تعترف بذلك الموقف السلبي الكسول الذي تنتهجه (رقابة الانتظار) التي تكتفي بالنظر والظن. (رقابة الطريق) تؤمن بضرورة أن يرافق العمل نشاط البصر حين يراقب، لذا لا تستغرب حين تكون سائرا في السوق أو واقفا عند كاونتر المطار، أو عند كاشير مكتبة، أو ما شابهها من أماكن عامة، إن وجدت من يلفت نظرك إلى أمر لم يرقه فيك، فيملي عليك توجيهاته التي ولدتها عينه المراقبة. وهناك شكل ثالث للرقابة يصلح أن يطلق عليه (رقابة الجيران)، فرغم ما اشتهر عن هذا العصر من كونه يتسم بالتباعد بين الجيران وشيوع القطيعة بينهم، إلا أننا ما زلنا نجد أن ذلك لم يستطع أن يمحو التقارب الرقابي بين الجيران في الحي الواحد، فأحيانا نصحو لنكتشف أن من بين جيراننا من يعرفون ما يحدث في بيتنا من تفاصيل صغيرة، ربما أكثر مما نعرف نحن! وقد تنشط معرفتهم تلك لتدفع بهم إلى التدخل لفرض بعض الأنظمة التي يرونها مناسبة حتى وإن كان ذلك خارج مملكتهم الخاصة. هل الناس ينغمسون في الرقابة لأنها غريزة متأصلة فيهم، أم لأنهم يعانون من الفراغ الزمني والذهني فلا شيء يلهيهم أو يشغل تفكيرهم سوى متابعة الآخرين؟ فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة