الآن وبعد أن هدأت الأقلام وخفتت ردود الأفعال التي احتفت كثيرا بصدور أمر خادم الحرمين الشريفين الخاص بتنظيم أو تقنين عملية الفتيا، وإسنادها إلى من هم أهل لها، وقصرها على أولئك الذين يملكون مقومات التصدي لها من أعضاء هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ومن يؤذن له بالفتوى. التناول في هذه القراءة لن يكون من ذات الزوايا التي سبق وأن تناولت الأمر الكريم من حيث أهميته وأثره وما ينطوي عليه من إجلال لأمر الفتيا ووجوب تنظيمها بعد أن غدت بضاعة مزجاة، لكل من أراد الشهرة أو أراد وصولا !. وحيث أزف موعد صدور اللائحة التنظيمية لهذا الأمر الملكي، فإن التناول في قراءتنا هذه سينصب على الرؤية القانونية للأمر الملكي، وسيقتصر على إبراز عدد من الزوايا والرؤى القانونية التي ينطوي عليها الأمر الكريم من هذا المنظور فحسب، بحيث يتم تناوله على النحو التالي: * أولا: ما هو ضابط التفرقة بين «الفتوى» وبين «الرأي» وبين «الدراسة» ؟. إذ يتعين – بادئ ذي بدء- وضع معيار واضح ثابت لتعريف المراد بالفتوى وتحديد مدلولها ومفهومها وتمييزها عما قد يختلط معها من وسائل إبداء الرأي أو الإجابة على تساؤل مطروح، فإذا كانت الفتوى – بصفة عامة- هي إظهار حكم الدين أو الحكم الشرعي في مسألة أو نازلة معينة، فما الذي يسقط عنها هذا الوصف ويحيلها إلى مجرد «رأي» أم «اجتهاد شخصي» أم ثمرة «دراسة شرعية» ؟ فما هي عنا ببعيد تلك «الدراسة» التي قام بها أحد المشايخ توصل بها إلى مشروعية الاختلاط ودراسة أخرى إلى عدم وجوب صلاة الجماعة في المساجد، ثم تلك «الدراسة» التي أعقبتها من لدن شيخ آخر وخلص فيها إلى «حل الغناء والمعازف»، ومن جانب آخر فإن القول بعدم جواز السعي في الطابق الثاني من المسعى أو عدم جواز السعي في التوسعة الجديدة للمسعى، أو القول بهدم المسجد الحرام وإعادة بنائه تجنبا للاختلاط أو القول بمقاطعة المحلات التي تعمل فيها فتيات (كاشيرات) أو كذا القول السابق عليه بإمكانية الحكم بالقتل على أصحاب القنوات الفضائية التي تعرض موادا ماجنة، ثم الفتوى بتكفير من قال بإباحة الاختلاط، وكذا الإفتاء بجواز اعتناق المسلم لديانة أخرى أهي مجرد «آراء» أم «وجهات نظر» جرت مجرى الفتوى أم أريد لها ذلك ؟. ومتى ما توصلنا إلى وضع ضابط للتفرقة بين الفتوى وبين الرأي أو وجهة النظر وبين الدراسة، أصبح من الميسور تحديد «المخالفة أو الجريمة» وتقديم مرتكبها للعقاب وفقا لمنطوق الأمر الملكي، لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الأمر الملكي سيكون بمثابة تشريع يقتصر أثره على الإقليم السعودي فحسب وعلى رعايا الدولة السعودية، ولا يمكن أن يمتد إلى خارجها أو إلى رعايا الدول الأخرى من غير المقيمين على أراضي المملكة، في زمن تعددت فيه وسائل الاتصال والقنوات الفضائية. ثم ما هو ضابط التفرقة بين الفتاوى العامة وبين الفتاوى «الخاصة» و «الفردية» و «غير المعلنة» على حد التعبير الوارد في الأمر الملكي الكريم ؟. حالات مخالفة * ثانيا / كيف تتحقق المخالفة في حال ما إذا أفتى أحد المواطنين أو المقيمين وفق مذهبه بحكم مغاير لما اتفق عليه أهل السنة والجماعة ويتم العمل والإفتاء به في المملكة ؟ لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن منظمة المؤتمر الإسلامي قد اعتبرت أن المذاهب المعتمدة والمعمول بها في الدول الأعضاء هي ثمانية مذاهب (قد يتم إضافة غيرها لاحقا) جميعها إسلامية، ويدرك أهل العلم وطلابه وجوب تباين بين الكثير منها. * ثالثا / في حال ثبوت وجود المخالفة وتحديد مرتكبها، فهل سيتم بناء الدعوى على أنها دعوى حسبة أم دعوى عامة؟ إذ يمكن في الأولى أن يتقدم أي عدد من المحتسبين مباشرة إلى المحكمة المختصة يطالبون عقاب شخص اجترأ على دين الله وأفتى بفتوى شاذة أو بما لا يجوز الإفتاء به أو مبنية على قول مرجوح أو مهجور، مثلما تقدم عدد من المحتسبين في وقت سابق إلى المحكمة الجزئية بجدة بدعوى ضد أحد المشايخ لما طرحه في «فتوى» أو «دراسة» عن الاختلاط في أماكن العمل والصلاة في المساجد، وكذلك المحتسبون الذين لاذوا بذات المحكمة في دعوى أقاموها ضد أحد الأشخاص الذي نسب إليه وصفه للرسول عليه الصلاة والسلام أنه متوحش أو نحو ذلك. أما الدعوى العامة، فهي تلك التي تقام عبر القناة الرسمية المخولة بهذا الحق والمناط بها اختصاص التحقيق في الجرائم وإقامة الدعوى بشأنها في شقها العام، وهي هيئة التحقيق والادعاء العام. * رابعا / إذا كانت جريمة «التصدي للفتوى دون ترخيص» أو «انتحال صفة أهل العلم» هي جرائم يسهل تحديدها ومن ثم التعامل معها، لوضوح أركانها إلى حد ما، فما هو الحكم بالنسبة لمن رخص لهم بالتصدي للفتيا وأفتى بفتوى رأى آخرون أنها «شاذة» أو «غريبة» أو نحو ذلك (مثل فتوى إرضاع الكبير أو جواز إبطال السحر بالسحر) ؟. وما هو معيار الشذوذ أو الغرابة أو القول المرجوح ؟ ومن الذي يملك صلاحية تحديد هذا الوصف ؟ وهل سيكون «الحق في الفتيا» حقا شخصيا أم عمليا بمعنى هل يرتبط بعضوية هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة وجودا وعدما بحيث يزول هذا الحق بزوال العضوية في الهيئة أو اللجنة أم أنه يمتد إلى ما بعد ذلك ؟. الجرائم البسيطة * خامسا / هل ستصبح هذه الجريمة من «الجرائم البسيطة» أم أنها ستكون من «الجرائم الكبرى» الموجبة للتوقيف (الحبس الاحتياطي)؟ فإذا ما علمنا أن الاعتداء على رجل الأمن يعد من الجرائم الكبرى الموجبة للتوقيف فمن باب أولى أن يكون الاعتداء على دين الله هو مما يندرج تحت حكم هذه الجرائم ويأخذ حكمها. * سادسا / ما الحكم لو وقعت المخالفة أو الجريمة عبر قناة أجنبية (مسجلة خارج المملكة) ويمتلكها مواطنون سعوديون ؟ وما الحكم لو أفتى شيخ سعودي عبر قناة غير سعودية في حلقة تم تسجيلها على أراض غير سعودية ؟ وهل سيتغير الحكم لو أن الذي أفتى هو شيخ غير سعودي عبر قناة سعودية في حلقة تم تسجيلها على أراض غير سعودية ؟. * سابعا / بعد أن تحدثنا عن تحديد الجريمة والاختصاص بالتحقيق فيها وآلية الوصول بها إلى ساحة القضاء تظل المعضلة الأكبر وهي «المحكمة المختصة» أو بالأحرى «الجهة القضائية صاحبة الولاية في نظر الدعوى» أهي المحكمة العامة أم الجزئية أم لجنة النظر في مخالفات أحكام نظام المطبوعات والنشر التابعة لوزارة الإعلام ؟. ولإيضاح الصورة دعونا نعود بالذاكرة إلى القضية الخاصة بدعوى «القذف» التي أقامها أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود ضد زميل له في جامعة الملك سعود عبر مقال تم نشره في إحدى الصحف المحلية وتم نظر القضية بمعرفة المحكمة الجزئية التي أصدرت فيها حكما ابتدائيا بإدانة المدعى عليه وتعزيره شرعا، ثم تأييد ذلك من محكمة التمييز فأصبح الحكم نهائيا واجب النفاذ، فصدر أمر خادم الحرمين الشريفين بإحالة القضية إلى لجنة النظر في مخالفات أحكام نظام المطبوعات والنشر بوزارة الثقافة والإعلام للتحقيق وإصدار القرار بشأنها تأسيسا على أن الواقعة المؤثمة (الجريمة) تمت عبر إحدى وسائط الإعلام ولم تقع مباشرة بينهما. وعليه، فإن الشاهد هنا إذا عمد شخص إلى الإفتاء في مسألة شرعية في إحدى الصحف المحلية دون أن يكون ممن رخص لهم بذلك، فهل ينعقد الاختصاص للمحكمة العامة إذا ما رأت جهة الادعاء العام طلب إيقاع حد الحرابة على المتهم بالنظر إلى خطورة الآثار التي سترتب على فتواه، أم هي المحكمة الجزئية إذا ما رأت جهة الادعاء العام المطالبة بتعزيره شرعا، أم هي لجنة وزارة الإعلام تأسيسا على أن الواقعة المؤثمة (الجريمة) وقعت عبر إحدى وسائط الإعلام المحكومة بنظام المطبوعات والنشر، ثم ما الحكم إذا ما كانت الفتوى قد صدرت من «سعودي» ونشرت في صحيفة غير محلية (قطرية أو كويتية أو مصرية أو لبنانية) وهي صحف لا تخضع لنظام المطبوعات والنشر في المملكة. أحكام الكتب والشبكة * ثامنا / ما الحكم لو صدرت الفتوى في كتاب أجيزت طباعته ونشره، هل يعاقب من أفتى ؟ ثم هل يعاقب الناشر أم صاحب المطبعة أم المراقب الذي أجاز الكتاب وأذن بفسحه باعتباره من المساهمين في الجريمة ؟ وما الحكم لو أن مستفتيا نقل فتوى شاذة عبر وسائل الإعلام كاشفا عن اسم من أفتاه بها.. هل يعاقب المفتي أم الناقل؟. * تاسعا / ما الحكم لو أن الفتوى الشاذة أو الغريبة صدرت في الشبكة العنكبوتية (الانترنت)، فهل نحن لم نزل بصدد الحيرة بين النظام الجزائي العام وبين مخالفات الإعلام والنشر أم أننا بصدد التعامل مع نظام آخر مستجد هو «نظام الجرائم المعلوماتية» على أساس أن صاحب الفتوى قام «بتخزين فتاواه» في أجهزة الحاسب الآلي. * عاشرا / ما الحكم لو ظهر شيخا سعوديا على أي قناة غير سعودية (عربية أو غير عربية) وأفتى –لا سمح الله- بما يخالف الإجماع مثل جواز الجمع بين الصلوات الخمس على الإطلاق أو باستحباب الاختلاط (وليس جوازه فحسب) أو إباحة تعدد الزوجات إلى تسع ؟ أو عدم إجازة التيمم في الحياة المعاصرة، أو جواز الجمع بين أختين أو نحو ذلك من الفتاوى (التي هي بالفعل تستوجب عقاب صاحبها) فما هي قاعدة الإسناد أو ضابط الاختصاص هنا من حيث المحكمة المختصة ومن حيث القانون واجب التطبيق؟ أهو القانون والقضاء السعوديين بالاستناد إلى جنسية المفتي أم قانون الدولة التي سجلت فيها القناة وهو في هذه الحالة لا يجرم الفعل؟. عمل غير مجرم * حادي عشر / ما الحكم إذا كان الإفتاء دون ترخيص أو الشطط في الفتوى هو عمل غير مجرم في الدولة التي بثت فيها الفتوى؛ أي تلك التي وقعت الجريمة على أراضيها، فهل كون «المفتي» مواطن سعودي يعد مبررا لعقابه أمام القضاء السعودي، ووفقا للأنظمة السعودية، بينما إن سافر مواطن سعودي إلى أي دولة وقتل أحد مواطنيها فإنه –وفقا لقواعد الاختصاص في القانون الدولي الخاص- لابد وأن تتم محاكمته أمام القضاء في تلك الدولة وبموجب قوانينها باعتبارها «موطن الفعل الضار» ولا يمكن محاكمته أمام القضاء السعودي، وبموجب القوانين في المملكة العربية السعودية لمجرد أنه مواطن سعودي (يختلف الحكم جزئيا في بعض الجرائم). ولإظهار هذه الجزئية بصورة أشد وضوحا، نعيد إلى الأذهان قضية المجاهر بالرذيلة الذي ظهر في قناة أجنبية، ولكن التصوير تم في الإقليم السعودي، كما أن الجاني اعترف بوقائع مجرمة وفقا للقوانين السعودية وتمت هذه الوقائع على أراضيها، فكان من الطبيعي أن يحاكم أمام القضاء السعودي ووفقا لقوانينها، وفي سياق ذي صلة بذات الجزئية المرتبطة بالاختصاص نجد أن المواطن اللبناني المعروف إعلاميا بساحر شهرزاد، قد حوكم أمام القضاء السعودي ووفقا للقوانين السعودية، رغم أن معظم الجرائم المسندة إليه في قرار الاتهام هي أفعال وقعت خارج المملكة وعبر قنوات غير سعودية وغير مجرمة في بلده، ولكن لم يؤخذ بذلك في الاعتبار !. * ثاني عشر / ما الحكم لو أن إحدى بعثات الحج رافقها مفتي –أو أكثر- ثم شرع في الإفتاء لحجاجه أو حجاج آخرين ممن يعتنقون مذهبا مغايرا لما هو مسموح به في المملكة، فأفتى بجواز إقامة الموالد وآخر أفتى بجواز نكاح المتعة، وآخر أفتى بعدم وجوب الوقوف في عرفات لصحة الحج، أو نحو ذلك، فهل تعتبر هذه من شواذ الفتاوى أم أنها ستكون مما يندرج في تصنيف «الفتاوى الفردية الخاصة غير المعلنة»؟. * ثالث عشر / ما هو معيار التفرقة بين من «يفتي» وبين من «ينقل الفتوى» ؟، فإذا ما كان الأول يكشف عن حكم شرعي قائم أو مستجد في مسألة لا يعلم طالب الفتوى الحكم فيها، فإن الثاني يتولى فحسب بيان الحكم الشرعي القائم في مسألة سبق وأن أفتى فيها أهل العلم فيتولى نقلها لصاحب السؤال الذي يجهل هذا الحكم أو لم يتسن له معرفته. فعلى سبيل المثال، فإن كاتب هذه السطور يتلقى يوميا العشرات من الأسئلة والاستفسارات عن حكم النظام في مسائل متنوعة، فإذا ما كان معظمها يتعلق بالأنظمة السارية، فإن الكثير منها يرتبط بالأحوال الشخصية، ومنها الحضانة والعدة والطلاق والمراجعة والتعدد واليمين والمواريث ونحوها من المسائل ذات الصلة بالشريعة الإسلامية، فهل بيان أو إظهار الحكم الشرعي في أي من هذه المسائل يعد نوعا من الفتيا أم نقلا للفتاوى والأحكام الشرعية المستقرة والمعلومة ؟. * أستاذ القانون في جامعة الملك عبدالعزيز المستشار القانوني في هيئة حقوق الإنسان