كان للبيان الملكي الكريم المتعلق بالفتوى صدى واسع النطاق على الصعيدين المحلي والعالمي، وذلك يعود إلى طبيعة الموضوع ذو الأهمية البالغة، وإلى صيغة البيان القوية. وقد كانت أكثر التعليقات حول هذا البيان مركزة على أهمية ووجوب التزام البيان والتقيد بمضامينه. وذلك كله جدير بالتنويه بلا شك. أما هذه المقالة فتحاول إبراز أبعاد البيان ومقاصده ومراميه وما يرد من تساؤلات حوله. وقبل عرض الأبعاد، يحسن البدء بهذه المقدمات. المقدمة الأولى: إن الفتوى -موضوع البيان- هي وفق ما جاء في المعجم الوسيط: “الجواب عما يشكل من المسائل الشرعية أو القانونية ويقال: أفتى في المسألة: أبان الحكم فيها”. والمقصود بالفتوى في البيان ما يتعلق ببيان الحكم الشرعي. وبناء عليه فكل من أبان حكمًا شرعيًا فهو مفتٍ فيه، أيًا كان نوع الحكم ومجاله، عقيدة، أو عبادة، أو معاملة أو أخلاقًا سواء أكان المفتي متأهلًا أم غير متأهل، وأيًا كان لقبه، شيخًا، أو عالمًا، أو قاضيًا، أو أديبًا أو نحويًا أو كاتبًا، أو صحفيًا. إلا أن صيغة الفتوى تختلف عن صيغة القضاء، أو صيغة البحث، فالقضاء هو إخبار ملزم بحكم شرعي، والبحث: هو عرض المسألة بمنهج علمي قائم على الاستقراء والاستنتاج والتحليل والمقارنة، أما الفتوى فهي عرض رأي واحد -في غالب الأحوال- سواء ذكر دليله أو لم يذكر. المقدمة الثانية: إنه لا فرق بين الوسائل التي تعرض الفتاوى فقد تكون الوسيلة منبر مسجد، أو صحيفة، أو إذاعة أو قناة فضائية، أو كتابًا أو نشرة أو غير ذلك. ومقتضى ذلك أن الفتوى ليست ما يصدر عن الخطيب مثلًا، أو عن المحتسب، أو من انتصب للفتيا عبر وسيلة ما؛ بل كل من أخبر بحكم شرعي فهو مفتٍ، حتى وإن كان غير محسوب من أهل العلم الشرعي، كالصحفي، والأديب، والمفكر، والفنان. المقدمة الثالثة: إن البيان أدرج مع الفتيا كل ما له علاقة بها كالخطبة، والحسبة، وإصدار البيانات، وهي وإن اختلفت عن الفتيا في الخصائص والأساليب، لكنها ربما تضمنت فتيا. المقدمة الرابعة: إن دلالة النص إما منطوقة أو غير منطوقة، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ مباشرة. وغير المنطوق ما دل عليه السياق، ويسمى فحوى ومفهومًا، ويدخل ضمن ذلك الإشارة والإيماء. والبيان -محل الحديث- ولقيمته النصية، هو لا يختلف في دلالاته وأنواعها عن ذلك التقسيم. حيث يستخرج منه أحكام كثيرة، منها ما هو ظاهر من اللفظ، ومنها ما يستنبط منه. أما أبعاد البيان، فإنها متعددة الجوانب وأركز هنا على أهمها في تقديري: أولًا: البعد الفكري: يشي هذا البيان عن بعد فكري عميق، هو أهم الأبعاد على اختلافها، ألا وهو الإفصاح عن فلسفة الدولة ونظامها، فهي دولة مسلمة فكرًا ومنهجًا تعتمد الكتاب والسنة مصدرين للأنظمة والقوانين، وللحكم والقضاء، ومقتضى ذلك أنها ليست من العلمانية في شيء. وهذا وإن كان من بديهيات الحس والواقع، إلا أنه قد يغالط فيه من لا يعنيه أمر الدين في شيء بل يريدها علمانية (لا دينية، ولا مذهبية). وإذا كان الأمر كذلك فإن قيام الدولة والمجتمع على هذه الفلسفة هو ما يقتضيه منطق العقل، ولابد أن تكون تصرفات المجتمع بكل أفراده، وكذا تصرفات الدولة بكل مؤسساتها على نسق واحد ومطرد. وفي هذا السياق وبرغم وضوح هذا البعد فربما قرأنا أو سمعنا أطروحات أخرى من قبل بعض الكتاب، مثل: * أن الدولة السعودية دولة حديثة وينبغي أن تأخذ بمواصفات الدولة الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والحرية، وكون الدولة تتبنى فكرًا معينًا أو تلتزم بمنهج معين فذلك خلاف الديمقراطية والحرية. ونجد مثل هذا الطرح في وسائل الإعلام المختلفة المحلية وغير المحلية. والسؤال هنا: هل مثل هذه الطروحات تندرج في سلك الفتاوى؟ ومن ثم تمنع لأنها خارج الإطار المؤسسي للفتوى، أم ليست فتاوى، ومن ثم فلا حرج من طرحها؟ على أن الأمر في كل الأحوال متعلق بالنظام العام للدولة، وإثارة الشكوك حوله في غاية الخطورة. * ومن الأطروحات أيضًا ما يتعلق بالتعليم الديني (الشرعي) مثل اتهام مناهج التعليم عندنا بأنها تتبنى الفكر المتشدد في نظرتها للآخر (غير المسلمين) كوصفهم بالكفر، وعدم موالاتهم، أو كونها تتبنى الفكر السلفي دون غيره من المذاهب. والسؤال: هل هذا الطرح يعد فتوى، ومن ثم يشمله البيان، فيكون من اختصاص أهل الفتوى، أم هو مساحة حرة تتنافس فيها الآراء والأقلام؟ وقيمة هذا الطرح في ميزان العقل والشرع أنه أهم وأخطر من بعض المسائل التي يثور حولها الجدل كالغناء والموسيقى، وإرضاع الكبير، وسفور المرأة. ثانيًا: البعد الاجتماعي: قد لا يظهر هذا البعد في منطوق البيان، ولكنه يلمح من فحواه فقد أشار البيان إلى أن منبر الجمعة يكون للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي. كما أشار إلى إمكانية الفتوى في الأمور الفردية في أمور العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية. مما يوحي بأن الجانب الاجتماعي له أهمية شديدة. ومما يلفت النظر كثرة الأطروحات في الجانب الاجتماعي مثل: قوامة الرجل، ومدى طاعة الزوجة للزوج، والاختلاط في ميدان العمل، وفي الدراسة، وقيادة المرأة للسيارة. والسؤالات التي تفرض نفسها هنا: هل طرح مثل هذه الموضوعات ومناقشاتها في وسائل الإعلام، والمنابر سيستمر كما كان، باعتبارها قضايا فكرية قابلة للنقاش أم هي من خصائص الإفتاء؟ ومن ثم يتوقف حولها الجدل؟ الجواب هو ما سيراه الناس، وليس ما يخمنونه. ثالثًا: البعد المؤسسي: لعل مما يكاد يظهر بوضوح من هذا البيان دعوته إلى العمل المؤسسي الجماعي، وتقليل نطاق العمل الفردي، وهذا أمر جيد، في عصر يقوم على التنظيم وتوحيد الجهود. وإذا كان البيان لم يلغ العمل الفردي، بل أقره، حينما أقر الفتوى الفردية، فإن مسألة الفصل بين العمل المؤسسي والفردي أمر في غاية الدقة، من حيث ارتباط كل منهما بالآخر أو تداخلهما أحيانًا، ومن حيث صعوبة إيجاد الفصل التام بينهما، للأسباب الآتية: 1 - إن حرية الرأي تمنح الفرد مساحة حرة كبيرة يتحرك فيها من خلال النظرة القانونية، وتترقى هذه المنحة إلى أن تكون أمانة ومسؤولية من خلال النظرة الشرعية. كما قال عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة... وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخالف لومة لائم". 2 - إن الأصل في الخطاب الشرعي -ومثله النظامي- أنه موجه إلى الفرد. كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". 3 - إن الإسلام شرع التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق، وذلك يتوجه إلى الأفراد والجماعات والمؤسسات. كما هو ملحوظ في سورة العصر. والسؤال هنا: هل الأطروحات من خلال الكتابات الإعلامية، أو من خلال الدروس العلمية، أو من خلال الخطب أو من خلال التعليم والبحث تعد من قبيل العمل المؤسسي، وتكون من ثم منسجمة مع البيان، أم هي تصرفات فردية تتنافى مع العمل المؤسسي؟ لاشك أن ثمة خيوطًا دقيقة للغاية تؤلف بين هذه التصرفات. رابعًا: البعد الوطني: وهذا ظاهر في البيان وبصريح العبارات وهو دون شك من مقاصد البيان ومغازيه. وقد جاء مرة قسيمًا للدين في أحد المقاطع: "فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار" وجاء مرة أخرى مع الدين والأمن ومكانة العلماء، والمؤسسات الشرعية في مقطع آخر (فشأن يتعلق بديننا ووطننا وأمننا وسمعة علمائنا ومؤسساتنا الشرعية... لن نتهاون فيه). وذلك ما يؤكد أهمية هذا البعد. وإذا كان الشعب بكل اتجاهاته وأطيافه يؤمن بأهمية هذا البعد فإنه قد يكون من ناحية نظرية، أما الجانب العملي الواقعي فقد يغيب عنه ذلك البعد. وهذا البعد يلزم جميع الأطياف الخضوع للنظام العام، القائم على تطبيق شريعة الإسلام، ولا يجوز إثارة الغبار حوله ولاسيما أن هذا الشعب يدين كله بالإسلام، وهذا الإسلام ليس مجرد شعار، أو انتماء شكلي، ولكنه دين ومذهب وأحكام وآداب. ولعل من أهم ما يثير السخائم الكامنة في النفوس وتعكير صفو الأمن الوطني، التنابز بالألقاب بين أصحاب الاتجاهات والأطياف المختلفة، كمثل: علماني، وإسلاموي، وصحوي، بل حتى الزهو بالانتماءات الجوفاء أو الخادعة كمثل: سلفي، أو ليبرالي، أو شريف، أو غير ذلك. ويقال مثل ذلك في شأن الاتهامات المتبادلة بين بعض الأطياف حول الانتماء الوطني، أو الحس الوطني، فهذا لديه مواطنة وذلك فاقد لها. ملحوظات: وفي ضوء هذه القراءة العجلى وفي نهايتها ثمة ملحوظات تجول في ذهن المتأمل في البيان الملكي، منها: الأولى: إن البيان -وإن كان هدفه الرئيس الفتوى- إلا أنه عرض لموضوعات أخرى ذات علاقة، هي الخطبة، والحسبة، والبيانات، والعرائض. ويبدو أن الغرض من عرضها هو تنظيمها، وإلا فإنها تختلف عن الفتوى هدفًا وموضوعًا وأسلوبًا. وقد أشار البيان إلى أن مثل تلك الموضوعات قد تدخلها الاجتهادات الفردية الخاطئة، ولذا لزم تنظيمها. إلا أن الأمر في تقديري لا يزال محل اجتهاد، فالخطبة مثلًا لابد أن تعالج قضايا المجتمع، والخطيب جدير به التنبيه إلى طرق الخير وطرق الشر، ولو اقتصر على المواعظ، لأصبح محل النقد والتجريح، بل ربما اتهم بتجاهل واقعه وأنه يعيش في غير زمانه. وقس على الخطيب كل إعلامي غيور على دينه ومجتمعه ووطنه، فهل يكون محل المسؤولية حينما يعالج قضايا أمته ويبين وجوه الخلل فيها، ويتخلل ذلك بيان أحكام شرعية عامة، لكونه تدخل في أمور ليست من اختصاصاته؟ إن الأمور تحتاج إلى مزيد تأمل. علمًا أنه لا يمكن التفرقة بين الخطيب والإعلامي لكونهما متشابهين. الثانية: إذا كان البيان قد أسند بيان الحكم الشرعي في القضايا العامة إلى مؤسسة الإفتاء فمن المنتظر أن الحظر ليس موجهًا إلى طلبة العلم أو الخطباء أو المحتسبين فحسب، بل الحظر يتناول كل من يتعرض للقضايا العامة، سياسية كانت أو اجتماعية أو تعليمية أو إعلامية أو غير ذلك. حتى وإن سمي هذا المفتي كاتبًا أو إعلاميًا أو صحفيًا، أو مبدعًا. وعلى هذا فسريان البيان على الأشخاص عام وليس خاصًا بفئة. الثالثة: إذا سلمنا بأن البيان يشمل في خطابه كل من يتعرض لبيان الحكم الشرعي في القضايا العامة فما مدى السريان المكاني لهذا البيان؟ هل محلي، باعتبار أن سلطته محلية؟ فيكون قاصرًا على المنابر المحلية (إذاعة وتلفاز وصحيفة، ومنبر مسجد...). أم يتجاوز الحدود، ليشمل الأشخاص أينما كانوا وحيثما تحدثوا أو أفتوا، في بلاد الدنيا، وفي قنواتها ووسائل إعلامها؟ أظن الأمور محتملة ومجملة وتحمل في طياتها علامات استفهام. الرابعة: تعرض البيان وبإجمال للمحاسبة والجزاء للمخالف. ولم يبين هنا نوع الجزاء، ولا الجهة المسؤولة عنه. وهذا بقدر ما فيه من المرونة، فإنه ربما صعب تطبيقه فهل ستكون جهة المحاسبة قضائية، أم ستكون لجنة تأديب. ثم هل ستكون موحدة أو متعددة؟ لئن جاز لي أن أقترح هنا شيئًا، فإنني أرى أن تكون جهة الجزاء موحدة وتكون قضائية تنظر في كل القضايا أو المخالفات ذات العلاقة. فإن هذا فوق كونه يحقق مطلق العدالة فإنه أيضًا يقلل جهات الفصل والتأديب، وذلك ما ينسجم مع توجهات التنظيم القضائي الجديد. والله الموفق. •عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء