لم تكن قضية بناء المركز الإسلامي في مانهاتن/نيويورك قرب موقع دمار بنايتي مركز التجارة العالمية بالقضية المهمة التي يمكن أن تشغل الرأي العام الأمريكي والعالمي حتى عهد قريب بدليل موافقة مجلس مدينة نيويورك على بناء المركز وعلى اختيار مؤسسيه للموقع ودون أية ردود أفعال سلبية أو معارضة من مواطني مدينة نيويورك، وكان من الممكن مرور القضية مرور الكرام لولا تزامنها مع وفاء الرئيس أوباما بواحد من أهم وعوده الانتخابية، وقربها من موعد انتخابات التجديد النصفية للمجالس التشريعية في نوفمبر القادم. الوعد الانتخابي المهم الذي وفى به الرئيس أوباما هو سحب القوات الأمريكية القتالية من العراق في موعد لا يزيد على نهاية شهر أغسطس من هذا العام. ورغم وفائه به بطريقة توحي بأنه تعجيل بالانسحاب ذلك أن آخر الألوية القتالية انسحب يوم 19 أغسطس أي قبل أسبوعين من الجدول المقرر مما دفع ببعض المحللين الأمريكيين إلى تشبيهه بالانسحاب السريع من سايجون/فيتنام سنة 1973م، إلا أن الفرصة لم تتح للرئيس أوباما للاحتفال بالحدث بنفس الطريقة التي أتيحت فيها الفرصة لسلفه بوش حينما ألقى خطبته الشهيرة بعد احتلال العراق سنة 2003م من فوق إحدى حاملات الطائرات ومن خلفه لوحة كبيرة كتب عليها (تم إنجاز المهمة). لقد كان الرئيس أوباما أثناء انسحاب قواته القتالية التي يعتبر القائد الأعلى لها مشغولا بالدفاع عن نفسه ونفي تهمة الإسلام التي يحاول خصومه إلصاقها به على إثر تصريحه على مائدة إفطار رمضاني في البيت الأبيض بعدم الاعتراض على بناء المركز الإسلامي في مانهاتن. ولقد كانت الحملة على أوباما شديدة وموقوتة بأسلوب ماكر من خلال توظيف قضية المركز توظيفا خسيسا للنيل من الرئيس وذلك بتجاهل حقيقة أن المبنى المقترح هو لمركز إسلامي شامل يحتوي على مسجد أو مصلى حسب التعبير الإسلامي في وصف المصليات غير المستقلة للتفريق بينها وبين المساجد القائمة بذاتها. ولقد تجاهلوا كل هذه الحقائق وركزوا على مفردة (مسجد) وربطوها بالإرهاب الإسلامي و (جراوند زيرو) والغزو الإسلامي المحتمل للمجتمع الأمريكي، وأعلنوا أن استبيانا للرأي يفيد بأن أكثر من 60 % من سكان نيويورك يرفضون بناء هذا (المسجد) في هذا الموقع بل إنهم حاولوا تحريك الشارع في مظاهرة لم تستقطب بضع عشرات من المتظاهرين. وحتى الرئيس أوباما الذي أعلن عن عدم معارضته لبناء المركز، هو ذاته لم يسلم من صفعات تلك الحملة المركزة الموقوتة حيث أعلن خصومه وإعلامهم الذي تقوده قناة (فوكس اليمينية المتطرفة) أنهم استنادا على استبيان حديث وجدوا أن واحدا من كل خمسة أمريكيين يعتقد بأن أوباما مسلم مما اضطر البيت الأبيض لإصدار بيان رسمي يؤكد أن الرئيس مسيحي صالح وملتزم بتعاليم دينه المسيحي. وهكذا مر انسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق بهدوء فائق بل بتعتيم إعلامي متعمد لحرمان الرئيس من الاحتفال بحدث قد يفيده ويفيد حزبه في الانتخابات النصفية القادمة. ونجحوا في نفس الوقت في الإبقاء على عورة الرئيس السابق بوش مستورة بتوجيه الآلة الإعلامية نحو اتجاه مختلف تماما لاتجاه تحليل حساب الأرباح والخسائر من احتلال العراق لحوالى سبع سنوات دون حسم عسكري أو حتى سياسي واضح. ولكن خصوم الرئيس أوباما لم يدركوا بجشعهم وقصر نظرهم بأن الرئيس لم يكن هو الخاسر الوحيد من تسييسهم الخسيس لقضية المركز الإسلامي في نيويورك بل إن الخاسر الأكبر هو المجتمع الأمريكي الذي فقد تميزه باختلال موازينه في التعامل مع مكوناته العرقية والثقافية المتنوعة لتندلع المظاهرات لأول مرة في التاريخ الأمريكي في بعض المدن رافعة شعارات تنادي بطرد المسلمين من البلاد أو حتى بالعمل على إغرائهم أو إجبارهم على ترك دينهم في سبيل البقاء إن لزم الأمر. ولكن من هم هؤلاء الذين أشير إليهم في المقالة بخصوم الرئيس أوباما. هم قيادات وزعامات من أحفاد المستعمرين الأمريكيين البيض الأوائل الذين لا يرون حقا لأحد غيرهم أو من لون يختلف عن لونهم في تولي قيادة أمريكا والاستمتاع بخيراتها. وهؤلاء في معظمهم من أعضاء الحزب الجمهوري، ولكن حينما فاز الرئيس أوباما بالرئاسة لم يشأ الحزب الخاسر أن يظهر أمام الناخب الأمريكي بمظهر الحزب الشوفيني المتطرف، فاختار مجموعة من أكثر أعضائه تطرفا ليشكلوا حركة سياسية/اجتماعية تشبه رغم اختلاف الأدوات منظمة يد أيلول السوداء التي أنشأتها منظمة فتح في فترة ما للقيام بأشد الأعمال تطرفا دون تحمل المنظمة الأم للمسؤولية والحرج الناجم عنها أمام الرأي العام المحلي والعالمي. وهذه الحركة الجديدة / القديمة في نفس الوقت هي حركة (جماعة الشاي) التي بدأت بالانبعاث بقوة سنة 2009م رافعة لشعارات الحفاظ على القيم والثقافة الأمريكية ومعارضة لكافة القوانين التي سنتها إدارة الرئيس أوباما لانتشال الاقتصاد الأمريكي من الداهية التي رماه فيها الرئيس السابق بوش، وهم يعتبرون هذه القوانين التي تتيح للحكومة الفدرالية فرصة استخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في مساندة بعض شركات الأعمال المتعثرة وتقديم مزيد من الضمانات الصحية للمواطنين غير القادرين وفرض القيود التنظيمية على مؤسسات المال والأعمال الأمريكية، تدخلا واضحا في الحياة الاقتصادية التي يجب أن تقوم على الليبرالية وتقليص دور الدولة في التدخل فيها إلى أدنى الحدود، بل إنهم كثيرا ما يشبهون إجراءات ومشاريع أوباما الإصلاحية بالإجراءات الاشتراكية التي كانت مطبقة في الاتحاد السوفييتي، وفي بعض الحالات يعزونها إلى (خلفية الرئيس أوباما الإسلامية) متجاهلين أن أول خطة تحفيز لانتشال الاقتصاد الأمريكي من الأزمة اعتمدت من حبيبهم المهزوم الرئيس السابق بوش، وأن محافظ نظام الاحتياط الفدرالي الأمريكي (برنانكي) الحالي هو من موروثات إدارة أوباما من إدارة بوش مثله في ذلك مثل القيادة العسكرية التي تتلاعب في مجريات الحرب الأفغانية لضمان استمرار بقاء القوات الأمريكية فيها إلى ما بعد فترة أوباما. ولكن لماذا يسمي أصحاب هذه الحركة أنفسهم بجماعة الشاي؟ ولماذا الشاي وليس القهوة؟ هم يسمون أنفسهم بهذا الاسم للتذكير بحركة احتجاجية كبيرة أشبه ما تكون بالثورة قام بها المستعمرون الأمريكيون الأوائل في مدينة بوسطن، في وجه السلطات الإنجليزية التي كانت تدير البلاد سنة 1773ه. وهي حركت نظمت حينها لمقاومة عدد من التشريعات الضريبية التي فرضتها سلطات الاستعمار الإنجليزي لتشكيل بعض الاحتكارات في مجال الاستيراد لحساب (شركة الهند الشرقية) الذراع الاقتصادية للإنجليز حيثما حلوا، وبموجب تلك التشريعات والضرائب المستحدثة كان من الممكن أن تصبح تلك الشركة المستورد الوحيد للشاي إلى أمريكا ولكن الحركة نجحت حينها من خلال التظاهر ورفع الشعارات الوطنية في الاستيلاء على ميناء بوسطن ورمي حمولات السفن من الشاي المستورد في البحر. ومنذ ذلك الحين أصبحت حركة الشاي نبراسا لكل قوى اليمين الأبيض المتطرف في فرض اختياراتهم على المجتمع الأمريكي والتي من أهمها تقليل الضرائب ومقاومتها وذلك لتمكنهم من مفاصل الاقتصاد والثروة منذ البداية وإضرار الضرائب بثرواتهم الشخصية لأنهم أكثر الناس ثراء أشدهم تضررا من الضرائب. ولذلك أرى أن الحزب الجمهوري بتوظيفه لمثل هؤلاء في سبيل استعادة السلطة إنما هو يراهن على العرق الأوروبي الأبيض وعلى مبادئ وقيم المستعمرين الأوائل التي تجاوزها الزمن. وربما ينجح الحزب في تحقيق أهدافه واستعادة السلطة من جديد، ولكن الخسائر ستكون أكبر بكثير من الأرباح وربما تنتهي الأمور بأمريكا إلى صراعات عرقية وطائفية تتضاءل أمامها تلك التي نراها في دول العالم الثالث، وما تجمع جماعة الشاي في نفس الميدان الذي ألقى فيه الناشط الأمريكي الأسود مارتن لوثر خطاب حلمه الأمريكي المؤثر وفي نفس يوم ذكرى الخطاب للتعتيم على قيمته التاريخية سوى البداية .. وإن غدا لناظره قريب. [email protected]