قال جاري، ونحن نخطو من باب المسجد.. • قال: أراك تقتني صحنا فضائيا يعني «دش» على سطح منزلك! •• قلت: نعم .. وما الغريب في ذلك؟ • قال: أرأيت كم يجلب الصحن الفضائي من مفاسد.. أنت في غنى عنها؟ •• قلت: نعم يجلب الصحن مفاسد كما يحمل فوائد، فهو وسيلة لأي من هاتين. غير أني لا أجد في ما أشاهد مفاسد بعد أن تجنبت برمجة القنوات التي قد يأتي منها الفاسد والمفسد، فأصبحت أشاهد ما يليق بي أن أشاهد أنا وأسرتي. • قال: ألا تعلم أن ثمة قاعدة شرعية ينبغي أن تأخذ بها في جميع أفعالك.. منها ما يتعلق بالصحن الفضائي.. هي قاعدة «سداً للذريعة» فأنت سدا للذريعة تمتنع عن اقتناء دش فضائي! •• قلت: إنني أدرك يا جاري المقصود بهذه القاعدة التي تعني افتراض سد أو حائل يحول دون اتخاذ الذريعة أو الوسيلة أو الطريق المؤدي إلى المحظور أو الفساد أو المحرم. وليس في هذا الافتراض مشكلة، إنما المشكلة تكمن في التوسع في الأخذ بقاعدة «سداً للذرائع». • قال: ولم إذن لا نتخلص من الصحن؟ •• قلت: إن «سداً للذريعة» يعمل بها عند كثير من العلماء حين يكون الفعل المراد اتخاذه ذريعة إلى حرام بصورة قطعية لا توجس فيها. • قال: ألا تعد الصحن الفضائي حراما؟ •• قلت: يكون حراما لو كان وسيلة لحرام.. فتشاهد الحرام وتستمتع به. ويكون حلالا لو كان وسيلة لحلال.. فتقتصر مشاهدتك له عبر برامج مباحة ومفيدة. لا إخالك إلا مدركا كم يحمل ديننا الحنيف من اليسر في العبادة، وفي أسلوب الحياة، وفي السلوك، وفي التعامل مع نفسك ومع غيرك. ولعلك جار ينزع إلى التوسع في قاعدة «سداً للذريعة»! • قال: وماذا في التوسع.. أليس هو الأحوط؟! •• قلت: إن في التوسع غلواً، والزاما للآخرين به في كل ما يستجد في حياتنا من متغيرات. الأصل في القاعدة أن يؤخذ بها في أمر من أمور العبادة (مثلها مثل الأخذ بالأحوط).. فيؤخذ بالأشد حماية للدين. أما الأحكام الفرعية فيؤخذ فيها بالأيسر «يريد الله بكم اليسر ولا يريد لكم العسر» وفي الحديث «خير دينكم أيسره». إن التوسع في «سداً للذريعة» بلغ حدا اتسعت معه مظلة المحظور، وارتفعت درجة المحرم.. بينما تقلصت من جهة أخرى مظلة المباح الذي هو الأصل في الأمور ما لم يثبت المحرم بالدليل والبرهام. • قال: أليس الأحوط أن نتخذ هذه القاعدة ونتبعها في كثير من الأمور في حياتنا.. بدلا من اتباعنا للهوى..! •• قلت: إن الأسلم والأحوط في الدين أمر محمود.. لكن لا ينبغي أن ننبذ الأيسر حتى لا يتحول الدين إلى إقفال أبواب المباح، فيكون الدين حينئذ منظومة من المحظورات والمحرمات.. فيصبح دين عسر لا دين يسر. المشكلة التي تخلفها قاعدة «سداً للذريعة» كشعار يستخدمه بعض الناس تخلصا من أي فعل غير معروف لديهم، ولم يعتادوا عليه.. فيشهرون عليه سيف القاعدة فيشقون على السواد الأعظم من الناس ويصطدمون معهم. والمشقة هنا تخالف مقاصد الشريعة السمحة. فمن قصد المشقة في الحج أو الصيام مثلا طلبا لزيادة الأجر والثواب.. يكون قد عرض نفسه للحرمان من الأجر لأنه خالف المقصد من الشريعة. ذلك بعكس ما لو طرأت المشقة عليه دون قصد، فقد اكتسب الأجر والثواب على تلك المشقة. ما أحوجنا إلى أن نتعامل مع الدين برفق ويسر في ما عدا الثواب حتى نمتثل إلى حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق وأن يشاد الدين أحد إلا غلبه. حفظ الله سماحة المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي بين أن الأصل في هذا الدين الوسطية واليسر والسماحة والرفق، فلا مكان للتشدد منه، ولا يمكن أن يحسب تشدد الغلاة من الدين.. بل هو مخالف للدين وإن ألبس لباس الدين زوراً وبهتانا، بقول صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطعون» (البلاد 26/3/1429ه ص6). وانتهى الحوار بيني وبين جاري بأن ودعني ملوحا بيده.. ولسان حاله يقول: لكم دينكم ولي دين.