في لحظات الوداع، تجلت معاني البياض في مدينة ال 96 ساعة، بياض الوجوه التي تشع نورا وإيمانا، بياض الإحرام، بياض الخيام، بياض المعتقد والدين؛ ذلك البياض الذي نبحث عنه في حياتنا فنتلمسه في أشعة الشمس، ونتحسس نوره في الأزاهير البيضاء. كان هنا في الحج يتجسده الكل قلبا وتعاملا ولبسا، في (الجمرات) البيضاء، في (المخيمات) البيضاء، في (الإزار) الأبيض، وفي السحب البيضاء التي تظللهم، حتى في تعامل الناس، هنا لا فرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى. ولأن الحياة محطات وداع؛ رمق ضيوف الرحمن مدينتهم أمس، بنظرات نزيف دموع الفراق بعد أن توشحوا ثياب ميلادهم الجديد، آملين أن يلتقوا في أحضانها بعد عام، رمقوها بنظرات ود بعد أن تعايشوا فيها تحت تظاهرة واحدة عكست وحدة الأمة وتكاتفها. تحركت جموع الحجاج في موجات بشرية من الجمرات صوب طرقات المسجد الحرام، تنظم تحركاتهم المموجة تلك، سواعد مخلصة من رجال الأمن البواسل التي واصلت ساعات التنظيم تلك تحت لهيب أشعة الشمس، حيث ظل قرابة 20 ألف رجل أمن متمركزين من مداخل منى جنوبا حتى مخارجها بالتقاء مكة شمالا في قوالب سلاسل أمنية من أجساد البشر لحماية ضيوف الرحمن التي حاطت بهم الرعاية الأمنية من كل صوب، فالطائرات العمودية والرحلات الاستطلاعية، لم تفتأ أن تواصل المراقبة الجوية من المشاعر إلى رحاب البيت العتيق، فيما ظلت 4800 كاميرا رصد موزعة بين غرف القيادات والمراقبة تحت أنظار البواسل الدقيقة ترصد كل تحركاتهم من المشاعر إلى مكةالمكرمة. في الحج.. الذي تجسدت القوة في أنقى وأشمل صورها قوة الإيمان الذي يدفع الأم لتفارق فلذات كبدها تلبية لنداء الحق، قوة الصبر الذي يجعل من تعب السفر والطواف والرمي لذة، قوة التكافل الذي يجعل من توحد المسلمين أكبر قوة ترهب الكفر، قوة في تحمل الصعاب وتحمل فراق الأهل والأحبة، وبين كل هذه المعاني السامية تظل قوة الحق المرتبطة بهذا البلد المبارك ساطعة ومتمثلة في هذه الجهود المباركة التي تخدم ملايين الحجاج وتوفر لهم أداء نسكهم هذا في يسر وسهولة.