غادر الحجيج المشاعر تاركين خلفهم أطهر الذكريات وأعطرها، تاركين وراءهم ذنوبهم ليعودوا إلى ديارهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، رحلوا وبدأ الصمت يخيم على صعيد منى بعد أن كانت جباله تردد صدى تلبياتهم. في لحظات الوداع، تجلت معاني البياض في مدينة ال 120 ساعة، بياض الوجوه التي تشع نورا وإيمانا، بياض الإحرام، بياض الخيام، بياض المعتقد والدين، البياض الذي نبحث عنه في حياتنا فنتلمسه في أشعة الشمس، ونتحسس نوره في الأزاهير البيضاء. كان النقاء والبياض هنا في الحج يتجسده الكل قلبا وتعاملا ولبسا، في الجمرات البيضاء، في (المخيمات) البيضاء، في (الإزار) الأبيض وفي السحب البيضاء التي تظللهم، حتى في تعامل الناس هنا لا فرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى. ولأن الحياة محطات وداع رمق ضيوف الرحمن مدينتهم أمس بنظرات على نزيف دموع الفراق بعد أن توشحوا ثياب ميلادهم الجديد آملين أن يلتقوا في أحضانها بعد عام، رمقوها بنظرات ود بعد أن تعايشوا فيها تحت أكبر تظاهرة دينية عكست وحدة الأمة وتكاتفها وقوة دينها. كانت تلك الجموع تتحرك في موجات بشرية من الجمرات صوب طرقات المسجد الحرام، تنظم تحركاتهم المموجة سواعد مخلصة من رجال الأمن البواسل التي واصلت ساعات التنظيم تلك تحت لهيب أشعة الشمس، حيث ظل قرابة 20 ألف رجل أمن متمركزون في مداخل منى جنوبا حتى مخارجها لتلتقي مع مكة شمالا في قوالب أمنية مكونة من أجساد بشرية تحف ضيوف الرحمن بالحماية من كل صوب، فالطائرات العمودية والرحلات الاستطلاعية لم تفتأ تواصل المراقبة الجوية من المشاعر إلى رحاب البيت العتيق، فيما ظلت 4800 كاميرا رصد موزعة بين غرف القيادات والمراقبة والعمليات تحت أنظار البواسل الدقيقة ترصد كل تحركاتهم من المشاعر إلى مكةالمكرمة. في الحج تجسدت القوة في أنقى وأشمل صورها قوة الإيمان الذي يدفع الأم لتفارق فلذات كبدها تلبية لنداء الحق، قوة الصبر الذي يجعل من تعب السفر والطواف والرمي لذة، قوة التكافل الذي يجعل من توحد المسلمين أكبر قوة، قوة في تحمل الصعاب وتحمل فراق الأهل والأحبة وبين كل هذه المعاني السامية تظل قوة الحق المرتبطة بهذا البلد المبارك ساطعة ومتمثلة في هذه الجهود المباركة التي تخدم ملايين الحجاج وتوفر لهم أداء نسكهم هذا في يسر وسهولة.