ترك التاريخ أثره على جدرانها وأبوابها العتيقة، وتراكمت محطات وصفحات تعود لنحو تسعة قرون فوق أسوارها العالية لتزيدها علواً، لكن الزلزال أتى على حين غرة ليفجع نحو مليون نسمة (عدد سكان الإقليم)، ليهز أوصالها ويحرّك ساكنها وما استغلق عليه من أسرار، ليلحق بها هزيمة لم تعرفها على يد جيوش وحملات غزاة في قرون خلت. في العديد من الدواوير التابعة لمدينة تارودانت التاريخية، طال الموت كل شيء، أشجار زيتونها ونخيلها ولوزها وبرتقالها، أطفالها وشيوخها ونساءها. لم تعد أسوارها العالية التي يبلغ طولها نحو سبعة كيلومترات، بعرض ثلاثة أمتار، وارتفاع نحو 10 أمتار، كما هي، تهاوت بعض من أبوابها الخمسة وتضرر البعض الآخر، فلم تعد مآثر تارودانت المغربية الأندلسية المتناغمة كما كانت.. كل شيء تغير هنا. كانت المنازل هنا ذات طراز معماري فريد، ونقوش حفرت منذ قرون، وثقافة توارثتها الأجيال، وأبقت على طبيعتها دون تغيير، إذ كان للمنطقة تاريخ طويل ممتد لما قبل الفتح الإسلامي، وما تلاه من محطات مشرقة في تاريخ منطقة المغرب العربي. الطريق الأكثر مشقة الطريق إلى تارودانت كان الأكثر مشقة، لا يمكن للسيارات أن تكمل السير إلى هناك، نظراً للانهيارات الصخرية على الطرق المؤدية من إقليم الحوز إلى إقليم تارودانت. حتى ثمار الأشجار على جانبي الطريق تعفنت، لم يمر بعضهم لجمعها، كما كان، ربما أصبح في حال مشابه الآن. كان الخروج من الحوز باتجاهها على الدراجة النارية مجازفة محفوفة بالمخاطر، عبر دواوير جماعة «أغبار» وهي آخر الحدود بين إقليم الحوز قبل دخول «تارودانت». اصطحبنا عبدالرحيم آيت -شاب ثلاثيني من منطقة «أغبار»- على دراجته النارية، حيث يعرف الطرق جيداً، فهو ابن المنطقة، دائم التجوّل بين الدواوير التي لا تفصلها عن الحوز سوى جبال يصل بعضها إلى نحو ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر. عبر الطريق «رقم 7»، وخلال ما يقرب من ساعة عبر طرق ضيقة وعرة وانهيارات صخرية كادت تلاحقنا أثناء العبور، دخلنا إلى حدود الإقليم الذي دمرت العديد من دواويره بشكل كامل، خصوصاً القريبة من مركز الزلزال في الإقليم المجاور. هناك لافتة تدل على حدود الإقليم الذي غابت معالم العشرات من قراه ودواويره، حالات مشابهة لما شاهدناه في العديد من القرى السابقة. مساعدات أقل وخيام بدائية للوهلة الأولى بدت الأوضاع هنا مغايرة، فلم تصل المساعدات حينها بشكل كافٍ إلى المناطق، بسبب صعوبة وصول السيارات، فقط يمكن نقلها على ظهور البغال، كما هو الحال أيضاً بالنسبة للخيام، إذ اضطر الأهالي لإقامة خيام بدائية، من الحصير والقماش، وأدوات أخرى، فيما كانت هناك بعض الخيام التي جلبتها السلطات المحلية وحملتها الطائرات، على بعض الدواوير. يجلس الأطفال أمام الخيام، فيما يساند بعض الأهالي فرق الإنقاذ في انتشال ما تبقى تحت الأنقاض، وفي جانب آخر، يجلس البعض برؤوس منكسة، ربما يستعيد ما جرى فلا يستطيع رفع رأسه ومواجهة الواقع الذي أصبح عليه. تداخلت معالم المنازل بالجبال التي تحيط بها، «دوار، اثنان، ثلاثة، عشرة.. بدأ العد دون توقف بشأن ما تضرر بالكامل هنا»، وحدة الألوان جعلت منها لوحة غير جذابة، أحمرها الدم، وبعض بياضها من الكتب المدرسية وملابس الساكنين التي بقت دونهم. حقول من الزيتون والبرتقال واللوز، فارقها أصحابها، فتساقطت ثمارها حزناً، حين اهتزت الأرض معلنة عن وجه آخر للمنطقة. من دوار لآخر، ومنطقة لأخرى، بحثاً عن الناجين والتفاصيل، حتى أصبحنا أمام عمليات إحصاء لعدد الوفيات، وحجم الدمار، فجل قصص الفقد أصبحت متشابهة، وكذلك عمليات الإنقاذ وإجلاء المصابين. الموت هنا هو العامل المشترك بين قرى تفصلها مئات الكيلومترات. أقاليم لا أثر لها في 14 سبتمبر 2023، كانت قوات الإنقاذ المغربية لا تزال تواصل مهمات انتشال الضحايا، في «دوار أخفيس»، التابع لجماعة تيزي نتاست بإقليم تارودانت، لم يعد الأمر هنا متعلقاً بالبحث عن ناجين، بل انتشال ما تبقى من ضحايا تحت الأنقاض. وفق شهادات الأهالي فإن عزلة الدوار ووقوعه في نقطة بعيدة وانقطاع الطرق المؤدية إليه، أعاقت عمليات الإنقاذ في الأيام الأولى، فللوصول إلى الدوار لا بد أن تُقطع المسافة سيراً على الأقدام، أو على ظهر البغال لما تسبب فيه الزلزال من تغيّر معالم المنطقة. وفق جولتنا في المنطقة التي تحولت لرحلة تقصٍّ حول الأعداد، ووفق تأكيد الأهالي، سجل دوار «تركنيت» نحو 70 حالة وفاة، بعد أن انهارت جميع منازله، وطال الموت جميع أسره، فيما سجل دوار «أخفيس» 47 حالة وفاة، وفي «آيت حميد» 22 وفاة، وفي آكادير «الجامع» 37 حالة وفاة، كما سجل «آيت مرحوش» 22 حالة وفاة، و«آيت تيوطة» 19 حالة وفاة، و«تلبورين» 28 حالة وفاة، وكذلك في «اودرنت» 31 حالة. خلال الجولة وعملية الإحصاء، وحسب حديث رئيس بلدين «أولد برحيل» السابق بالمنطقة عبدالعزيز أمجان، فإن عدد الوفيات في «تزي نتاست» أكثر المناطق التي تضررت بلغت نحو 450 حالة، في 28 دواراً في الإقليم. يقول أمجان «بعض الدواوير محيت تماماً في إقليم تارودانت، كما هو الحال في مناطق أخرى، ترك الزلزال أبناء بلا آباء، وأمهات دون أبناء، هنا لم يترك الزلزال أي أثر لدوار إكر أوفلا، دوار المغزن، دوار اداوبلال، بجماعة تالكجونت». لا شيء يمكن رصده سوى إحصاء الأرقام، والحديث إلى الجالسين في الخيام، ومن يعملون لإيصال المساعدات لمناطق معزولة. في جماعة «سيدي وعزيز» التابعة لإقليم تارودانت، طال الدمار والموت جميع دواويرها، بعدد أقل، لكن منازلها أبيدت عن بكرة أبيها، إذ بلغ حدد الوفيات حينها نحو 44 حالة وفاة، في مقدمتها دوار بوسنوس تمتمازر، الذي سجل 10 وفيات، «دوارايت سليمان ارك» ثماني وفيات، و«دوار أمغاز» خمس وفيات، و«دوار ترست» أربع وفيات، كما طال الدمار والموت هنا أيضا دواوير تخافت، وأمان أوليلي، وآيت معلا، وتزرط تيسافين، وتكلتمت تمتمازر، ومناطق أخرى. تاريخ لم يسلم من الزلزال في منطقة الأطلس وبالتحديد في إقليم تارودانت، يعود تاريخ بناء المنازل لقرون مضت، كما ظل سور المدينة شاهداً على محطات مهمة في تاريخ المغرب. ضمن أبرز المعالم التي تضررت في الإقليم، «مسجد تينمل» الذي بني خلال القرن ال12، في عهد الخليفة الموحدي الأول عبدالمؤمن بن علي الكومي بمدينة تينمل مهد الدولة الموحدية، في أحد أودية جبال الأطلس النائية، حين بسطت الدولة سيطرتها على المغرب الأقصى بين 1121 و1269. تشير العديد من المصادر التاريخية إلى أن المسجد شيّد في المكان الذي دفن فيه ابن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية، التي انطلقت من منطقة تينمل، كحركة دعوة للمناطق الأخرى، قبل أن تبسط سيطرتها في ما بعد. وينتمي ابن تومرت لقبائل مصمودة الأمازيغية التي كانت تقطن بوسط جبال الأطلس الكبير. شيّد المسجد كما كل منازل المنطقة من الطين والحجارة، وأخشاب الأشجار التي كنت تستخدم في تسقيف المنازل والمساجد حينها، على مساحة طولها 48 متراً وعرضها 43 متراً وهو محاط بسور مرتفع تعلوه شرفات، تحمل زخرفته الداخلية طابعاً خاصاً وفريداً. تلاشت خصائص العمارة القديمة، وتصدعت أبوابه، كما هوت مئذنته، وأروقة الصلاة التسعة فيه، كما طالت التصدعات جدرانه بالكامل. أطفال يفكون عزلة المناطق المنكوبة خلف بغالهم تارة، وعلى ظهورها تارة أخرى، يشق عشرات الأطفال الطرق الجبلية الوعرة، لأكثر من 18 ساعة يومياً، ذهاباً وعودة، يحملون ما جاءت به السيارات إلى آخر نقطة يمكن الوصول إليها في المناطق المعزولة، التي لم تصلها يد العون بعد، فلا طريقة أخرى للإنقاذ هناك سوى «ظهور البغال»، والطائرات المروحية التي أجلت المصابين ونقلت فرق الإنقاذ إلى هناك في وقت سابق. يقول عبدالعزيز آيت (10 أعوام) إنه يعمل منذ اليوم الثاني لنقل المساعدات إلى المناطق المعزولة التي ضربها الزلزال، حيث لا وسيلة أخرى للوصول إلى هناك بعد يوم التاسع من سبتمبر 2023، سوى البغال، التي تصعد الجبال بارتفاع كبير يصل لمئات الأمتار، وتنزل مرة أخرى. وفق آيت والعشرات من الأطفال الذين التقينا بهم، لجأ بعضهم لجلب البغال من دواوير أخرى، تبرع بها الأهالي، وبعضها اشتراها الأهل، لينقلوا عبرها المواد الغذائية والماء والحليب للأطفال. يقول عبدالرحيم (13 عاماً) إنه جاء من دوار يبعد نحو خمسة كيلو مترات على ظهر بغله لإيصال الحليب والماء للأطفال الذين عزلوا في الدواوير والقرى الواقعة في إقليم تارودانت.