في خريف 1987، كنتُ شابًّا يتوقّد حماسة، تخلّص للتّوّ وبأعجوبةٍ من معاطف غيلان القيروان والمدرسة الصّوفيّة الصّارمة، إثر نجاحي بتفوّق في مناظرة الباكلوريا آداب والتحاقي بالمعهد العالي للفنون المسرحيّة، وحللتُ بالتّالي ضيفًا مُشاكسًا على كُتّاب وشعراء العاصمة الذين استقبلوني في البداية بتوجّس وريبة، بسبب عدائهم المُزمن مع المدرسة القيروانيّة، رغم أنّني كنت قد نذرت وتوعّدتُ في بيان ناريّ جريء جدّا نشر لي قبل سنتين من ذلك التاريخ بجريدة الصّباح، بأنّني سأنهي وللأبد أسطورة مدرسة القيروان الصّوفيّة المزعومة القائمة على تقليد السّلف من الأموات، وأنّني سأبعث على أنقاضها مدرستي الخاصّة التي لا أقلّد فيها أحدًا، وأنا بطبعي كنت ومازلت وسأبقى ما حييتُ أنفر من كلّ مستهلك ومستنسخ وكلّ شكل من أشكال التّقليد في الإبداع.. وتلقفني الطّلبة اليساريون منهم، رغبة في تدجيني وضمّي خطيًّا إلى جماعاتهم المتناحرة وطمعًا في فوائد إتقان الكتابة بالخطّ الجميل الذي سيوفّر عليهم مشقة البحث كلّ يوم عمَّن سيكتبُ لهم المنشورات النّارية ويستنسخ لهم الشعارات على رقع الأقمشة البيضاء التي تعلّق فجرًا على حائط وسور مبنى الجامعة الحاضن لنا جميعا في ذلك الوقت، وكانت حدودها بين منوبة والمركب الجامعي وتسعة أفريل. كُنتُ صهريجًا يغلي ويمور من الغرور، وكانت ثقافتي ثقافة عناوين وقشور. أحفظ كالببّغاء وأردد مقولات وشعارات جوفاء وأدافع عنها بعناد وشراسة. وانتبهتُ بعد ذلك بسنوات طويلة، وبعد حرث في غابة الخبز واللّغة والغربة والوحدة والقراءة بنهم والتجمّع في صحاري الصّقيع والثلج بروسيا وبعدها بألمانيا، التي سلختْ وحدها أكثر ربع قرن من العمر القصير انتبهت بل أيقنتُ أنّ كلّ ما كتبته من قصائد كانت مجرّد استنساخ لتجارب غيري وخصوصًا من شعراء الصوفيّة ومن شعراء الثورات والقصائد الاحتجاجيّة المُولولة الصمّاء وقبلهم من الشعراء الذين كنت أحلم بأن أكونهم جميعا. والحقيقة أنني لم أحزن كثيرًا على كلّ السّنوات التي صرفتها ببذخ في استنساخ تجارب غيري واقتفاء آثارهم. ذلك أنّ المسألة حُسمتْ حين طرحتُ على نفسي سؤالاً مُربكًا، وطالبتُ نفسي بالإجابة بصدق وبدون تضليل. ويا كم كنتُ أضلّل نفسي وأتعلّق بدُخان الأوهام. كان سؤالي لنفسي هو: (هل أنت متأكّد يا سي كمال العيّادي القيروانيّ، أنّك الشاعر؟) وأقصد الشاعر بالألف واللّام، أي ذلك الذي قدّر له الله بمشيئة أن يسعى إلى بيته في القصيد ويصله ويسكنه إلى الأبد. وكانت الإجابة الصادقة بداية طريقي. لقد اقتنعتُ ونهائيًّا بأنّني لستُ ذلك الشاعر، وبأنّ كلَّ ما كتبته وما سأكتبه، إنّما هو صدى لكلّ الذين يسكنون ذاكرتي ولساني. واعتكفتُ سنوات لا أكتُب شيئًا تقريبًا واكتفيت بالقراءة وكنت أتلذذ باستحضار إحدى القصائد التي كتبتها، لكي أفكّ شفرتها ومناخها وأحلّل كيمياءها بصرامة وأعيدها لاسم ورسم صاحبها، وربّما كُنتُ أبالغ أحيانًا، ولكنّني كنتُ في حاجة مُلحّة لأن أسوق لنفسي البراهين الدّامغة التي لا تُدحض، بأنّني لستُ شاعرًا حقيقيًّا طالما في ذاكرتي وكيمياء لغتي وعناصرها كلّ هؤلاء الغيلان. وبدلاً عن السكوت نهائيًّا والاكتفاء بقدري كمهاجر يحرث في غابة الخبز، قرّرتُ أن أعود خطوتين وأسلك الطريق الأرحب الذي يناسبني حقًّا والذي يمكنني أن أزعم أنّه طريق خاصّ بي وحدي. فبدأت بغزل نسيج السّرد، وكتبتُ أوَّل قصّة لي وكان عنوانها: (باريسا ألكسندروفنا) وفوجئت بأنّ الجميع تلقّفها وكأنّها لؤلؤة بكر. والحقيقة أنني أنا أيضًا أعجبت بها وما زلت ألوذ بها وأعيد قراءتها كلّما أحسستُ بوهن في قلمي أو تكاسل أو خمول. الشيء الملفتُ للنظر، أنني حين كتبُ هذه القصّة، لم أكن أنوي نشرها كقصّة وإنّما كنصّ أو لنقل مقال صحفيّ عاديّ، أشارك به في جريدة (بريد الجنوب) التي كانت تصدر بفرنسا في بداية التّسعينات وقد حدث وأنّ رئيس تحريرها طلب منّي أن أكتب له عن الشّخوص التي قابلتها في المهجر والتي ارتسمت ملامحها إلى الأبد في ذاكرتي ووجداني. حين كتبتُ وأرسلتُ المقال الثاني والذي كان عن إحدى المآسي الحقيقية لعائلة تونسيّة، كنتُ أدرّس لأبنائها وانتهت بخيانة وانتحار. وكان النّصّ بعنوان (موت بدون وصيّة)، فوجئت برئيس التحرير وهو يهاتفني من باريس ليخبرني أنّ ما كتبته هو أحد أجمل ما كُتب في السّرد التّونسيّ الحديث. أحسستُ بنشوة وغبطة لا توصف. وتأكّدتُ أنني خُلقتُ لأكون ساردًا وأنّ السّرد طريقي وضالّتي وفيه سأكون وأتحقّق. أيقنتُ من ذلك، لأنّني كنتُ على يقين وللمرة الأولى بأنّ ما كتبته، هو ملكي أنا، وتجربتي أنا، ومن ذاكرتي أنا. وأنّ ما أكتبُ قريبٌ فعلاً إلى القلب والرّوح، ويصدّقه الجميع فورًا، حتّى ولو كان نصفه من نسج الخيال ونزق العبارة المارقة. لم أجنح إلى التكلّف والتقعّر في الوصف ولم أبالغ في الاسترداد، ولم أنتق كلماتي ولم أتكلّف. كنتُ أحسّني وأنا أكتبُ مثل آلة يابانيّة متطوّرة الإمكانيات، تعدّل وتضئ أكثر وتزّين وتتدخّل في الألوان وتخفي تجاعيد أو بُقعًا وتؤطر وتقصّ وتوزّع الخطوط، ولكنّها تنطلق من الواقع الفجّ وتحاصر فعلا صورة حقيقيّة، هي الأصل والمنبع، وزاد عشقي لشارلي شابلن وعبقريّة البساطة النافذة في تشخيصه مع كمّ المرح المذهل والعمق، من ترسيخ قناعتي بأنني لم أخلق فقط لكي أكون ساردًا، ولكن لأن أكون ساردًا ساخرًا مَرِحًا تحديدًا. بعد ذلك توالت القصص التي كتبتها وتراكمت بين دفتي أغلفة ورقيّة، وتحوّل بعضها إلى خطوط رئيسة لرواية وبعضها إلى نصّ من الفُصوص تؤجل كمخطوط ... وهكذا بدأتُ. أظنّ أنّ تأثّر الكاتب الشاب بالكتّاب الكبار، شيء ضروريّ جدًّا في البداية، فهذا هو الطريق الشرعي لكي يكون في أمان، ويمضي صوب تحقيق اسمه وترسيخ رسمه والدّخول في دائرة الضّوء حتّى يعتاد على القناعة والإيمان الكامل بأنّه خُلق لكي يكون كاتبًا. أكرّر وأصرّ أنّ ذلك ضروريّ في البداية فقط... ولكن بعد ذلك، ومع تجمّع نصوصه والاكتفاء بما نُشر منها، عليه قبل أن يُصدر باكورة أعماله، أن يحاصر نفسه ويسائلها بقسوة ويبحث عن المندسين في قلمه وذاكرته وأسلوبه ولغته، وأن يخرجهم بلطف ويستغلّ كلّ المساحات الفارغة التي تركوها لطلاء نصّه بلونه هو وتأثيثه بلغته وقاموسه ومزاجيته هو: متجهّمة كانت أو مرحة... مستفزة أو هادئة، حكيمة أو متهوّرة، المهمّ أن يتأكّد وبصرامة، وبدون تضليل بأنّ ما يكتبه هو خاص به هو ويحمل جيناته وليس جينات غيره. وحينها فقط، سيرى معجزة النّحلة المتفرّدة حتى وهي بين القطيع، وهي تحوّل خام الرّحيق المرّ إلى عسلٍ مُصفّى. حلو المذاق، ومشبّع برائحة الزهرة. لكنّه أيضًا خاص به، ومختلط بكيميائه ومزاجه وعناصره.