في كتابه «جدلية العقل والمدينة» يبرز محمد المصباحي ستة مفكرين (الجابري، أركون، العروي، مروة، الحبابي، نصّار)، يشتركون في دعوتين: العقل (العقلانية)، التاريخ (التاريخانية)، ويختلفون في طرائق إعمالها. للعقل في صلته بالتحقيب التاريخي: عقل تراثي، وعقل حداثي، وعقل ما بعد حداثي. فتحرير هذه العقول عندهم -أو بعضهم- تحرير للتراثي من اللاعقلانية واللاتاريخية، والحداثي من التمركز حول العقلانية والعرقية والانحرافات المعرفية والثقافية، وما بعد الحداثي (ما بعد التنويري) تحرر من العدمية. وبعد التحرير التحديث العقلي والتاريخي، فتحديث العقل إستراتيجية للوصول إلى الذات، بعد العقل وسيلة الوصول إلى الحق. وتحديث التاريخ يؤدي لإعادة كتابة التاريخ، فالتاريخانية تقيّم الاتصال والانفصال مع العقول الثلاثة. ومن ثمّ فالمنتظر: تخليص العقل من ادعاءات الوحدة والثبات والتعالي، وتحويل العقل إلى متعدد تاريخي منفتح على الخيال والعاطفة والدين. وهذا ينتج إرادة بناء العقل، فأكثر المفكرين -خلا العروي- تبنّوا عقلانية مركبة من تنوير: العقل العربي الإسلامي، والحداثي، وما بعد الحداثي، وهذه النتيجة تنتج أيضاً تاريخاً فعّالاً، أي تاريخ فعل وانفعال، لكن هذه الفعالية فُهمت بالقطيعة مع العقل التراثي دون العقل الحداثي، للانخراط في الحداثة كما عند العروي، أما الجابري وأركون ونصّار، فنزعوا لترميم بعض العقل التراثي، والانفتاح به على الحداثة، للاستقلال التاريخي للذات. فموقف القطيعة مع العروي، وموقف الترميم مع الآخرين؛ أصلهما من رؤيتين مختلفتين متقابلتين: رؤية الالتزام بالعقلانية الكونية، ورؤية الانحياز للعقلانية المحلّية المتقاطعة مع الكونية. وإن كان هدفهما هو «التنوير»، فالعقل التنويري بحسبه «إصلاح الذات وتغيير الوجود التاريخي». ومن ثمّ فالفعالية التاريخية تختلف بحسب منطلق وتوجه وإشكالية كل مفكّر، فتاريخانية: الجابري أيديولوجية؛ وأركون إيبستيمولوجية، والعروي فلسفية، ومروة جدلية، والحبابي أنطولوجية، ونصّار سياسية. ويشتركون في: عدّ «التاريخانية» مقياس معاصرة، من حيث: التاريخانية أفكار عقل للتاريخ لا الخيال، والتاريخانية جاهزة لتقديم البديل المحدّث. فتفاعل العقلانية والتاريخانية ينشل الإنسان من جهتين: إزاحة المطلقات بإعادة النظر فيها (منهجياً ومعرفياً)، وجهة ربطها بالزمن الذي يجعلها نسبية. إذن، التاريخانية تاريخانيتان: تاريخانية العقل «إدراج التراث في بيئته الفكرية والتاريخية كي لا يستعيد معناه عن طريق النقد الدلالي»، وتاريخانية التاريخ «نزع التراث نفسه من سياقه الأصلي وزرعه في الحاضر»، بعد تأويله لتغيير الحاضر. وعليه فالفكر تاريخي ولاتاريخي: فالفكر اللاتاريخي لا يؤدي إلا إلى التبعيّة، للعجز عن إدراك الواقع، والتخبط والاستغراق في التقابلات العقيمة، نحو المقابلة بين الأصالة والاتباع، وبين الحكمة والشريعة، وبين الحداثة والتراث، وبين العرفان والبرهان. والفكر التاريخي يستقل عن العقلين التراثي والحداثي أو التنويري (بنوعيه: حداثي وما بعد حداثي). وبعد نقدهما، وظهور مكامن ضعفهما وقوتهما، وفق المجرى التاريخي الراهن؛ يعيد تفسير العقل الحداثي، وربما ينقلب جذرياً في تفسير أصل الحداثة، وهذا يساهم في استعادة الثقة في الذات. هذا المجمل العام، مع تفاصيل مهمة تفرّق بين دلالة وسعة وضيق كل مفهوم محوري نحو «العقل»، «الحداثة»، «التراث»... بحسب كلّ مفكّر. وعليه يؤول الأمر إلى: فعالية العقل بعدّه المؤثر في الفعالية الإنسانية المحرّكة للتاريخ، فالعقل فعالية متوجهة إلى مقصد «إلى الحق» -بحسب كل معتقد-، وهذه الفعالية هي المنتجة للتاريخ في أثناء توجهها لما ترومه، في توجه قصديّ، وعليه فالتاريخ نتاج وعي عقليّ لذات مخصوصة محدودة الزمن. فهل التاريخ في تحولاته حقاً هو نتائج للفعالية العقلية الواعية؟ أليس في الربط التلازمي للعقل بالتاريخ إشكال؟ فمن جهة التاريخ فالدراسة التاريخية محاولة لفهم التحولات الفكرية، لكن بالنسبة لكثير من المفكرين، فالفكر تصميم قبلي لشكل تاريخي مُراد. محمد عابد الجابري محمد أركون عبدالله العروي