سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يفتح دفاتره ل "الحياة" في حوار شامل حول الشعر والسياسة والحاضر والماضي . محمود درويش : قصيدة النثر . حازت شرعيتها وعلى شعرائها أن يعترفوا بالآخرين عشت تجربة الموت ورأيت خلالها الكثير ... ومسوداتي الشعرية أتلفها لئلا ينفضح سري 2
تحدث الشاعر محمود درويش أمس في الحلقة الأولى من هذا الحوار عن أعماله الكاملة وبداياته الشعرية وعن الرمز الذي يمثله كشاعر لا يمكن حصره ضمن قضيته فقط. وتناول مراحله الشعرية المختلفة ومفهومه للإيقاع في القصيدة التي يكتبها. هنا الحلقة الثانية: لماذا يصرّ الكثيرون على الكلام على ثنائية القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، علماً أن هذا السجال انتهى في الغرب منذ القرن التاسع عشر؟ - صحيح، هذا السجال انتهى في الغرب. الطرف التقليدي هو الذي حارب مشروع الشعر الحر أو الشعر التفعيلي. كان شعر التفعيلة يحتاج الى شرعية والى دفاع فكري وإبداعي عن خياره. جيل قصيدة النثر خاض معركة أظن انها من أشرس المعارك لتثبيت شرعيته. وكانت ثمة عدوانية ما لدى بعض المنظرين لقصيدة النثر. ولكن علينا أن نفهم الدوافع وفي مقدمها البحث عن شرعية هذه القصيدة. اليوم أصبحت شرعيتها قائمة، وعلى شعراء هذه القصيدة أو منظريها ان يعترفوا بالشرعيات الأخرى. علينا أن ننهي لغة الخصومة بين الخيارات الشعرية والاقتراحات الشعرية. حتى الشاعر الواحد يمكنه ان يكتب قصيدة تفعيلة وقصيدة نثر. الشاعر الاسباني لوركا كتب قصيدة نثر وكذلك بودلير ورامبو. لم تعد قصيدة النثر موضوعاً مطروحاً على جدول الشعر أو الأدب. أصبحت قضية مسلّماً بها، ولم يعد القارئ ينظر الآن الى الاختلاف بين الشعريات. وأود أن أقول ان كثيرين من الشعراء والقراء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضم قصائد نثر. هذا أمر جميل! - ويفرحني أيضاً، فهم يحسّون ان أطروحات قصيدة النثر تمّ استيعابها في شعري. تصر على ما تسميه المعنى في الشعر وهو يختلف عن الجدلية؟ هل اللحظة الشعرية لديك هي لحظة فكرية أم حدسية؟ - أولاً أود أن أقول ان مفهوم المعنى لا متناه. الكلمات بحد ذاتها لا تحمل معنى. علاقة الكلمات بعضها ببعض هي التي تمنح المعنى الشعري. وبما أن هذه العلاقات غير متناهية، فإن المعنى بالتالي غير متناهٍ. أما في شأن المعرفة الشعرية، فإنني أعتقد ان هناك ثلاثة أنواع من هذه المعرفة. هناك المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية والمعرفة التحليلية. الشعر ميال الى المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية، وقد يستفيد من المعرفة التحليلية، لكن أساس العملية الشعرية أو المنطقة التي يعمل الشعر فيها هي المعرفة الحدسية والرؤيوية. لكن هاتين المعرفتين لا تتحرران كلياً من المعرفة التحليلية. القصيدة تبدأ وفق طرق مختلفة ترتبط بالشعراء أنفسهم. تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور. لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب ان تتحول الصور الى ايقاعات. وعندما تحمل الصور ايقاعاتها أحس ان القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية. القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص. إذاً، الايقاع هو الذي يقودني الى الكتابة. وإذا لم يكن هناك من ايقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب. إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً. ولكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع. والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، انها مجموعة ذوات. إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة. وهنا يجوز لنا أن نقول ان الغد يأتي الى الماضي، وليس العكس. كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة مجموعة مقولات وتتحول أيضاً فلسفة وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة إطراد متبادل. على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها ان تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات كما أشرت. ولكن من الملاحظ ان معظم قصائدك، ولا سيما القصائد ذات النفس الملحمي، تحمل بنية قائمة على الايقاع وعلى اللوازم الايقاعية والغنائية. كيف تتم مرحلة بناء القصيدة لديك؟ - تكلّمنا قبل قليل عن اللحظة التي تدفع الشاعر الى كتابة القصيدة. إن مفتاحي كما قلت هو الايقاع. هذا بالنسبة الى الحافز الشعري. ولكن لدي إصرار على أن أبني القصيدة بناء هندسياً، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد. وأعتقد ان قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلامية. أحب أن يكون للقصيدة قوام. وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري. لماذا أتحدث عن القوام؟ لأعرف العلاقة بين السطوح والأعماق، العلاقة بين الايقاع والصورة والمجاز والاستعارة. يجب أن تكون هناك علاقات دقيقة جداً بين كمية الملح وكمية الورد والدم والطين... يجب أن يكون هناك تصور لهندسة معمارية تقوم القصيدة على أساسها. قد تقود القصيدة الى مبنى آخر، حينذاك على المهندس أن يغيّر خرائطه. ولكن في المحصّلة لا أنشر قصيدة إلا إذا كان لها شكل أو بنية أو ما سمّيته قواماً. يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ان الالهام يأتي الشاعر بأول بيت ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة. أنت تكتب القصيدة في مراحل عدة ثم تصوغها مرة تلو مرة، كيف تولد القصيدة لديك وكيف تنتهي؟ - تولد عبر الايقاع. أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة. هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى. كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم انني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. إنني معجب جداً ببول فاليري ناقداً وقارئاً وكاتباً ذا إرهاف عالٍ وذكاء ولا أستطيع أن أقول انني معجب به كشاعر. تماماً كما انني معجب بأوكتافيو باث كناقد ومنظر للشعر أكثر مما أنا معجب به كشاعر. الإلهام الشعري وماذا عن الإلهام إذاً؟ - أعتقد ان هناك إلهاماً ما! ولكن ما هو هذا الإلهام؟ مرة حاولت أن أعرّف به فقلت انه عثور اللاوعي على كلامه. ولكن هذا تعريف غير دقيق وغير ملموس. الإلهام هو أحياناً توافق عناصر خارجية مع عناصر داخلية، انفتاح الذهن على الصفاء وعلى طريقة يحوّل بها المرئي الى لا مرئي واللامرئي الى مرئي من خلال عملية كيميائية لا يمكن تحديد عناصرها. أعتقد ان هناك سراً ما للحافز الشعري. لماذا ينهض الشاعر ويكتب؟ لماذا يأتي بالورق الأبيض ويعذب نفسه ولا يعرف الى أين هو ذاهب؟ خطورة العمل الشعري تكمن في أن لا ضمانات أكيدة للنجاح. الكتابة مغامرة دائمة وخطرة ولا تأمين لها، بل ليس هناك"شركة"تأمين توافق على المغامرة الشعرية بتاتاً و"حوادث المرور"في الشعر كثيرة جداً يضحك. أحياناً تشعر بأن لديك رغبة طافحة في الكتابة. تجلس الى الطاولة فلا تكتب شيئاً. أحياناً تذهب متكاسلاً الى الطاولة فتفاجأ بأن الإلهام موجود فيك فتنكب على الكتابة. بعض الكتاب كانوا يترددون حيال الإلهام، إن كان موجوداً أم لا. ولكن إذا كان هناك إلهام فعلينا أن نعرف كيف ننتظره فهو لا يأتي وحده. علينا أن نتعاون معه مثلما نتعاون مع الغامض والمجهول ليتضح شيء ما. وماذا عن البيت الأول الذي يتحدث عنه فاليري! - البيت الأول، من خلال تجربتي يكون أقل أهمية من السطور الأخرى. الشعر يبدأ من اللاشعر. والطريق الى القصيدة تكون متعثرة في البداية. وشخصياً ليس لدي بيت أول مهم لأن لا أبيات شعرية لدي أصلاً. القصيدة تتوالد وتتصاعد تدريجاً. وأحياناً قد يكون الإلهام الشعري سيئاً لكنه يعطيك نتيجة حسنة. ليس من مشكلة. وأسأل من جديد ما معنى الإلهام: الإلهام يقول لك: اجلس واعمل، اشتغل ويذهب. انه يحضّرك شعرياً، يغسلك داخلياً أو يوترك داخلياً أو يقيم توازناً بين الحرارة والبرودة، والبقية عليك، كشاعر، فأنت تعتمد على نفسك وعلى خبرتك وعلى طريقة العثور على نصك الخاص بك الذي يحمل ذاكرة كتاباتك كلها. فالورقة البيضاء أمامك هي مملوءة بالكتابات السابقة، كتاباتك. وأتذكر قولاً لإليوت مفاده أن النضج الأدبي هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعري أسلافاً. حتى في القصائد التي تنطلق من موضوع معين أو واقعة معينة؟ مثلاً قصيدتك في ذكرى السياب أو قصيدتك عن محمد الدرّة أو عن ادوارد سعيد! كان هناك موضوع هو حافزك على الكتابة؟ هل هي الطريقة نفسها في الكتابة؟ أي ان الموضوع سابق للقصيدة؟ - هناك شعر يخلق موضوعه. ولكن عندما تكتب تذهب وفي ذهنك شيء غير محدد تماماً ولكنه مسمّى. هناك اسم لما تريد ان تكتبه، فأنت ستكتب شعراً في النهاية. وما تكتبه من مواقف وأفكار لا يعرّف بموضوعك بل بطريقة تعبيرك عن هذا الموضوع. هناك قصائد لا موضوع لها، أو ان موضوعها قائم في ذاتها وهي حافلة بالتوتر اللغوي، باللعب اللغوي أو بتمرّد اللغة عليك، أو محاولة سيطرتك على اللغة. المشكلة أن الشاعر يظن انه يقود اللغة. ليس هذا صحيحاً. اللغة أشدّ سيطرة على الشاعر لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتاريخها وتراثها. ما يقدر أن يفعله الشاعر هو أن يعيد الحياة الى لغة أصبحت مألوفة وعادية. وكما يقول هيدغر الشاعر هو وسيلة اللغة وليست اللغة هي وسيلة الشاعر. هل تعاني من مأزق الورقة البيضاء، هذا المأزق الذي يتحدث عنه كثيرون من الشعراء؟ - عندما تكتب تذهب الى مصيرك وحدك، من دون معاونة أحد. وإذا وجدت من يعاونك فهو يلغيك من شدة حضوره. في كل شاعر آلاف من الشعراء. ليس هناك من شاعر يبدأ من الفراغ أو البياض، قد ينتهي الشاعر في البياض. فالبياض لون غير موجود في الكتابة. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث. ثم ان الشاعر يخاف من قراءاته، أن يقفز منها شيء الى نصه في طريقة لا واعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه. وأعتقد ان ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم ولكن من دون أن يخفي ملامحه، أي مثل الحفيد الذي يحمل ملامح جدّه من دون أن تختفي ملامحه الخاصة. السؤال الصعب المطروح على كل شاعر هو: في أي جهة من الورقة البيضاء تستطيع أن تضيف جديداً؟ هذه هي الصعوبة. ولذلك الشعر الحقيقي قليل ونادر. عندما أقرأ قصائدك لا أشعر بأن لديك أزمة في الكتابة أو في التعبير! فمعجمك الشعري واسع جداً مما يدل على انك تتخطى أزمة"الورقة البيضاء". شعرك سيّال ومتدفق! من أين يأتي هذا الاتساع الشعري أو الرحابة وهذا السطوع؟ هل من المراس الشعري أم من التجربة الداخلية؟ - أولاً أشكرك على هذا الرأي وهو رأي نقدي أعتز به كثيراً. لماذا؟ لأن أزمتي لا تظهر في قصيدتي، بل في ما قبل القصيدة. أزمتي هي مع ماضي القصيدة. في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا. ولو كان الشعر في هذه السهولة لما كان الورق الأبيض يتسع للقصائد. لا. على الشاعر أن يخفي معاناته وأن يبدو وكأن قصيدته كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. أتذكّر ما يقول الشاعر الألماني ريلكه في هذا الصدد: إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة ورأيت أشياء كثيرة وقطفت زهوراً كثيرة. فالقصيدة هي خلاصة كل هذه المعاناة والتجربة. المعجم الشعري ولكن من أن تأتي رحابة معجمك الشعري؟ ثمة شعراء كبار في العالم معجمهم ضيق؟ - كان خوفي أن يكون معجمي الشعري أخطر من ذلك. كنت أخاف فعلاً. فأنا ألاحظ مثلاً أن بعض الشعراء العرب المهمين لديهم معجم شعري فقير. ولا أريد أن أسمي أحداً هنا. أنا أسمي سعيد عقل مثلاً، هو الشاعر الكبير معجمه محدود. - لن أسمي أحداً. ربما عوالمي المتناقضة التي أشعر بها من حولي، لكل منها معجم مختلف عن الآخر. يعني انني أضع السماوي الى جانب الأرضي، الميتافيزيقي الى جانب المادي... والأروسي مع الصوفي...! - أحب هذه العلاقات القائمة بين المتناقضات وهي تحتاج الى لغة تحمل هذا التوتر. ولا أخفيك انني أقرأ كثيراً. وربما للمرة الأولى أفصح عن أمر في حياتي: لديّ رياضة يومية، أفتح"لسان العرب"كل صباح في طريقة عشوائية وأقرأ عن كلمة ما وعن تاريخها وأصلها وعن الاشتقاقات التي خرجت منها. واكتشف دائماً انني لا أكتب العربية جيداً. وربما هنا قوتك. - الاعتراف بالجهل يعلّم. أحسن معلّم أو أحسن حافز على التعلّم هو أن تعرف انك جاهل. شعرك لا يعبّر عن كونك شاعر فصاحة وبلاغة وشاعر معاجم...! - أحاول أن أبسّط لغتي وأطرد منها المفردات الميتة، ولكن لديّ تمارين دائمة على فهم اللغة في طريقة أفضل. هل تقرأ الروايات مثلاً؟ - طبعاً. هل تقرأ الشعر، أنت الذي تدعو الشاعر الى عدم الإكثار من قراءة الشعر؟ - أعتقد أنها نصيحة جيدة في عمر معيّن. لأن الشعر مثل أي شيء جميل يصيب بما يشبه الاشباع أو التخمة. لا أحد يقدر على أن يأكل كيلو عسل. يقع في الاشمئزاز. الشعر مكثف كثيراً حتى إن الذائقة المتلقية لا تستطيع أن تستوعبه. وبالتالي فإن القليل منه هو الذي يجعله يأخذ مكانه أو وظيفته الحقيقية. ولكن في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع وتسلس له اللغة ويربّي السليقة لديه فالسليقة إذا صقلت تساعد الشاعر على التخلص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود الى فعل السليقة المهذبة. إنني أقرأ كتب التاريخ كثيراً، أقرأ الكتب الفكرية والفلسفية وبعض الكتب التي لا علاقة لها بالشعر مثل"تاريخ القراصنة"أو"تاريخ الملح". أحب أن أنوّع قراءاتي خصوصاً في حقل الجغرافيا والبحار والبلدان. هل تشاهد السينما والمسرح؟ - نعم، طبعاً. هل هما من مصادرك الشعرية؟ - السينما من مصادري البصرية نعم. لكنها مصدر غير واضح كثيراً. لكنني أعترف إنني عاشق كبير للرواية. هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل الكثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟ - مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتصّ الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها الى أقصى الحدود. والجميل في الرواية انها غير عرضة للأزمات، ذلك ان في كل كائن بشري رواية. وهذا ما يكفي لملايين السنين، وليس على الروائي إلا أن يستوحي التجارب. لم أفكر في كتابة الرواية لأنني لا أستطيع أن أضمن النتائج. والرواية تحتاج الى جهد وصبر هما غير متوافرين فيّ. هناك شعراء كثيرون أتقنوا الشعر والرواية. وبعضهم سطت روايتهم على شعرهم وبعضهم سطا شعرهم على روايتهم فغدت رواية متشعرنة، فيما يجب أن تتوافر في الرواية لغة السرد ومنطق الشخصيات وسواهما. إنني أحب الرواية ? الحكاية. رواية اللارواية لا أحبها كثيراً وأعدّها عبارة عن ثرثرة لغوية. قد تكون جميلة لكنها ليست من النوع الروائي الذي أحبه. قرأت أخيراً رواية أدهشتني هي"عمارة يعقوبيان"للكاتب المصري علاء الاسواني، وما أدهشني في هذه الرواية انها لا تحتاج الى كتابة ولا الى لغة أدبية، وقوة التجربة الانسانية فيها أغنتها عن اللغة. ما رأيك بمقولة ان المستقبل هو للرواية وليس للشعر؟ وأن الزمن الآن هو زمن الرواية؟ - أود أن أذكرك انه كان ذات مرة زمن للقصة القصيرة. والقصة هذه لها مواسم. أحياناً تزدهر وأحياناً تنطفئ وتغيب. الرواية هي كتابة جديدة في معنى ما، فالشعر سبقها بآلاف السنين. وقد تغري بالقول ان الزمن الآن هو زمنها وانها أصبحت"ديوان العرب"كما يقال. شخصياً لا أحب هذا الاشتباك بين الكتابتين. الرواية لها عالمها والشعر عالمه. وفي بعض المجتمعات الرواية متطورة أكثر من الشعر وفي مجتمعات أخرى الشعر متطور أكثر من الرواية. لا أحد يستطيع أن يرسم صورة المستقبل أو أن يحتكرها. وأعتقد ان المستقبل هو للشعر كما هو للرواية. ولكن هل تعتقد ان الشعر قادر على ان يعبّر عن كل ما يجيش في نفسك وما يدور في رأسك من أفكار؟ - هناك شعراء يقولون ان اللغة لا تتسع لهم وانهم أكبر من اللغة. وجموح الشعراء الى إصدار مقولات كبيرة قد يكون مقبولاً. هل سمح لي الشعر أن أقول كل ما أريد أن أقول؟ ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي. بل هو: هل أستطيع أن أقول أكثر مما قلت؟ هذا ما يؤرقني. ولكن لا أحد يستطيع أن يكتب كل ما في داخله. هناك أدباء كتبوا أكثر مما في قدرتهم، أي انّ كلماتهم أكبر من عالمهم الداخلي ومن تجربتهم الحياتية والانسانية. شخصياً لا أشكو من هذا الأمر. وأعتقد انني قادر على قول ما أشعر به وما أحلم به وما هو غامض في أشكاله المختلفة. ولكن في نهاية الأمر قد يكون من الصحيح ان الشاعر يقول شيئاً واحداً وأن الروائي يقول شيئاً واحداً. ولكن ما هو هذا الشيء؟ يكتب الشاعر ليصل الى هذا الشيء، ليكتشف ما يريد أن يقوله. النثر الصوفي أهم من الشعر الصوفي مادمنا تحدثنا عن الصوفية، أعترف انني أحس ان لديك نزعة صوفية محفوفة ببعد ميتافيزيقي وخصوصاً في قصيدتك الطويلة"جدارية"التي اختبرت فيها تجربة الموت؟ ماذا يعني لك الشعر الصوفي؟ هل تقرأه؟ - قرأت الأدب الصوفي وأقرأه. وملاحظتي أن ليس الشعر هو أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. أنظر الى الصوفية نظرة فكرية أو فلسفية، أنظر اليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب الى الأقصى ومحاولة اتصال مختلفة بالكون ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثْرت قصيدة النثر نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل النفري والبسطامي والسهروردي وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر الى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب الى ما ذهب هؤلاء اليه. هذا هو الجانب الابداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعوذة والسحر. ما رأيك بالشعراء الذين يستعينون بالمصطلحات الصوفية القديمة ليكتبوا شعراً صوفياً حديثاً؟ - أنا شخصياً غير مهتم بهذه المسألة. ولا أعتقد أن في عصرنا الحديث والصاخب هذا هناك مكان للشعر الصوفي. والصوفية الجديدة التي لا علاقة لها بالمصطلحات القديمة؟ - الصوفية الحديثة هذه هي شكل من أشكال التمرّد على طبيعة الحياة المعاصرة وعلى تشيّؤ الانسان وابتعاده عن السؤال الروحي والديني. وما نقرأه في الشعر هو ترصيع لبعض المصطلحات الصوفية الخارجة عن سياقها. وماذا عن البعد الميتافيزيقي الكامن في شعرك؟ - لعل سؤال الموت في شعري شديد الصلة بالبعد الميتافيزيقي. هناك نظرتان الى الموت: نظرة دينية تقول ان الموت هو انتقال من الزائل الى الخالد، ومن الفاني الى الباقي، ومن الدنيا الى الآخرة. وهناك نظرة أخرى أو فلسفية تعتبره نوعاً من الصيرورة، وترى ان الحياة والموت مترافقان في جدلية أرضية. أحياناً أكتب عن الموت ولكن من دون أن أتعمق كثيراً في السؤال الى أقصى حدوده. فالذهاب في السؤال الى أقصاه هو أمر مملوء بالألغام التي لا أستطيع أن أنزعها ولا أن أفجرها. في"جدارية"كتبت عن تجربة شخصية، كانت مناسبة لي للذهاب في سؤال الموت، منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة جلجامش التي تحدثت أيضاً عن الخلود والحياة. هذه التجربة كانت لي اطاراً صالحاً للسرد أو لما يشبه السيرة الذاتية. ففي لحظة الموت تمر حياتك أمامك وكأنها في شريط سريع. انني عشت هذا ورأيته. كل الرؤى التي كتبتها في القصيدة كانت حقيقية: المعرّي ولقاء هيدغر ورينيه شار... رأيت الكثير ولم أكتب كل شيء. لكنني لاحظت ان القصيدة كانت مشدودة الى سؤال الحياة أكثر من سؤال الموت. والقصيدة في الختام كانت نشيداً للحياة. أهم عبرة استخلصتها من هذه المسألة ان الحياة معطى جميل، هدية جميلة، كرم إلهي غير محدود، وعلينا أن نحياها في كل دقيقة. أما سؤال الخلود فلا جواب عليه منذ ملحمة غلغامش حتى اليوم. هناك جواب ديني ولكن كشاعر لا أحب أن أدخل في الجدال الديني. الانسان يؤمن بما يعرف وبما لا يعرف. بل هو مشدود الى الإيمان بما لا يعرف، وأهم أمر في الصراع بين الحياة والموت أن ننحاز الى الحياة. ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من"نشيد الأناشيد"، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان"سرير الغريبة"وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟ - في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة انسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد. والمزامير؟ - بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية. هل التوراة مصدر من مصادرك؟ - لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية. هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟ - أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و"نشيد الأناشيد"يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية. هل يمكن الكلام برأيك عن حداثة محمود درويش، هذه الحداثة الممكن وصفها بپ"الحداثة الاستخلاصية"التي تتآلف فيها مدارس عدة ولكنها تبدو كأنها بلا مدرسة أو كأنها مدرسة بنفسها؟ حداثة خاصة خارج حداثة مجلة"شعر"وسائر الحداثات الأخرى؟ - يبدو لي انك تفهم حداثتي أكثر مني. سؤال الحداثة سؤال محيّر. وأن تُحصر الحداثة في الحداثة الشعرية، فهذا يعني ان لا حداثة أخرى في المجتمع العربي. ومن مآزق الحداثة العربية انها متحققة في الشعر وربما في مراكز الشرطة أو الأمن. حاولت الحداثة الشعرية ان تقوم مقام الحداثة الفكرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية، أي انها حمّلت نفسها مهمات لا تستطيع فعلاً أن تتحملها. اطلعت طبعاً على مفاهيم الحداثة بعدما جئت الى العالم العربي هاجراً فلسطين. قبل ذلك لم أكن قد اطلعت على تلك المفاهيم. ففي فلسطينالمحتلة كنت أعيش في ظروف صعبة وكنت أطلع على الشعر العربي والعالمي من دون أن يكون سؤال الحداثة ملحاً عليّ مثلما كان ملحاً على الشعراء العرب. كان لدينا حينذاك سؤال المقاومة الثقافية، سؤال الهوية، وكان علينا أن نصونها من الذوبان. كيف ندافع عن حقنا في الوجود؟ كيف نزيل الاشكالية بين الجنسية والهوية؟ كيف يقوم الشعر في تغيير ما، أو هل يستطيع الشعر أن يغيّر؟ كانت الأسئلة بعيدة الى حد ما عن انشغال الساحة بأسئلة الحداثة. وأنا نشأت في هذا الجو وكتبت فيه. وعندما خرجت الى العالم العربي كنت الى حد ما معروفاً، وكنت أسمّى شاعر المقاومة وشاعر الأرض المحتلة... لكن اصطدامي بسؤال الحداثة والتجارب الشعرية الحديثة جاء متأخراً. ولا أعرف ان كنت وضعت داخل الحداثة العربية أم ما زلت خارجها. لا أعرف. وما رأيك بما يقوله بعضهم عن"حداثة"محمود درويش؟ - أنا لست جزءاً من مدرسة، ولست طالباً لمعلم معين وهذا عيب. كنت أتمنى أن يكون لي معلم شعري، فهو كان ليوفر عليّ ربما أعباء تعليمية كثيرة. كنت شديد الاصغاء والتأمل والتأثر حيال سؤال الحداثة الشعرية العربية. لكنني لم أتخلّ عن ربط الحداثة بمشروع تحرري، أي ان نتمكن من تحرير المجتمع بالقصيدة الحديثة. أو ان على الحداثة الحقيقية أن تكون منظومة أفكار تشمل كل مستويات المجتمع وليس الشعر وحده. ولكن بما أن الشعر هو حقل عملنا ولا إمكان آخر لنا، فليكن ذلك. ولنعش هذا الوهم الجميل. وما زلت أرى أن لا حداثة شعرية عربية حقيقية خارج جماليات الشعر العربي. فهذه الجماليات يجب على الحداثة العربية أن ترتكز اليها لتتميز عالمياً. لم أدخل في أفق التنظير ولم أسع الى أن أكون حديثاً أم غير حديث، ولكن أعتقد ان قصيدتي حديثة. و في أي معنى هي حديثة؟ أي أنها تصغي الى ايقاع الزمن الجديد وتجري تحولات في العلاقة بين الكلمات والأشياء وتحاول أن تبقي اللغة حية وتعيد الى هذه اللغة حياتها باستمرار، وأن تطوّر أدواتها من خلال علاقة هذه الأدوات بما كنا نسميه الدور الذي تلعبه القصيدة الحديثة في الذائقة الشعرية وفي مشروع التحرر. غداً الحلقة الثالثة من الحوار.