الأغلبية في عالمنا الإسلامي تؤمن بما يفرضه البشر من أحكام مقدسة، بل يكاد ما يفرضه البشر أكثر قداسة من المقدس. لقد فرض البشر كثيراً من الأمور الاجتهادية التي أصبحت مع الأيام مقدسات لا تصح مخالفتها. وتسبّبت في إزهاق أرواح بريئة ظلماً وعدواناً. مثل تحويل مفهوم جهاد النفس إلى فريضة تبرر قتل المخالف، أو كما جعل قائد ثورة إسلامية من الحجاب فرضاً على كل النساء في أماكن العمل حيث «غير المحجبات عاريات». قال أستاذ الفلسفة حسن حماد إن الدولة الدينية والدول التسلطية والقمعية تمارس الوصاية على الأخلاق العامة والخاصة، وتجعل نفسها حارساً على ميراث القيم والتقاليد والموروثات، وتجعل من هذه الوصاية ذريعة للتدخل في كل كبيرة وصغيرة في حياة أفرادها، والعكس صحيح. فالدول الليبرالية تمنح أفرادها مساحة أكبر من الحريات ويصبح كل فرد قادراً على صياغة وصناعة قيمه الخاصة بالطريقة التي تروقه من دون خرق القوانين. وأشارت الكاتبة الجزائرية هاجر حمادي ضمن مشاركتها في مناظرة «هل حماية الأخلاق العامة واجب الدولة؟» إلى أن تحديد مفاهيم ثابتة ومتطابقة لدى جميع أفراد المجتمع «شمولية فكرية وقمع اجتماعي». وترى أن عديداً من المجتمعات في المنطقة تعمل على توحيد الفكر والمذهب والدين والأعراف عند كل أفرادها، وذلك على أمل خلق نسخ متطابقة. ومن يرفض ذلك ليس أمامه سوى طريقين: الأول النفاق وإخفاء مفاهيمه المختلفة عن السائد، والثاني الجهر باختلافه ومواجهة ديكتاتورية المجتمع التي ترفض الخروج من القطيع. «دول مواطنين» لا «دول مؤمنين» إن ظاهرة تقديس البشر وتقديس آرائهم وأقوالهم سلطة على الفكر كرّسها الفكر الظلامي والإسلام السياسي على المجتمعات العربية والإسلامية بهدف قيادتها لأجنداتهم المشبوهة. وبهذا لن نستطيع النهوض من الثبات العميق الذي كان ناتج قرون من التخلف والاستعمار وركود الفكر الإسلامي. ولا شك أن المنظومة الفكرية أو الرؤية الفلسفية التي يحملها الإنسان تعدّ من أهم دعائم شخصيته وتميزه البشري؛ فهي التي تحدد مساره السلوكي وطبيعة تعاطيه مع محيطه ونمط الحياة التي يعيشها، بل هي ما يحدد مصيره الوجودي كله، هذا على صعيد الفرد، وأما على صعيد المجتمع فإن المنظومة الفكرية العقدية تحدد طبيعة العلاقات والتعاملات بين أفراده من جهة، وبينه وبين سائر المجتمعات من جهة أخرى، وهي ما يحدّد نوع النظم «السياسية والاقتصادية والاجتماعية» التي تحكم تلك العلاقات والتعاملات؛ فهي بالتالي ما يحدّد مكانة هذا المجتمع في سلّم المجتمعات البشرية. إن تحرر العقل لا يعني أن ينسلخ الإنسان من دينه وهويته، لأن تحرر العقل لا يعني بالضرورة أن ينسلخ الإنسان من الإسلام أو أي ديانة أخرى. تحرير العقل يعني تعزيز التفكير النقدي، والقدرة على التحليل، والانفتاح على الأفكار الجديدة، والقدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على التفكير المستقل. لهذا ففي سياق الإسلام، يمكن أن يعزز تحرر العقل فهم النصوص الدينية بعمق أكبر ويجعل الشخص قادراً على التمييز بين التعاليم الأساسية للدين والتفسيرات الفردية أو الثقافية. الإسلام نفسه يدعو المسلمين للتفكّر والتدبّر في خلق الله والكون، وهو ما يتماشى مع فكرة تحرير العقل ضمن إطار الإيمان. يعدّ التفكير والتدبر جزءاً مهماً من الممارسة الدينية في الإسلام، حيث يحث القرآن الكريم على استخدام العقل والتفكير في كثير من الآيات. لذا، يمكن أن يتعايش تحرر العقل مع الحفاظ على الإيمان الديني، بحيث يدعم كل منهما الآخر ويؤدي إلى فهم أعمق وأكثر نضجاً للحياة والدين بعيداً عن ما يروّجه البشر من قدسية ومنظومة ظلامية.