كنت أوّد أن أصيب في العبارة بوصف لكتاب عبد العزيز المقالح الأخير «كتاب الحب» (أروقة للدراسات والترجمة والنشر 2014). ما هو؟ وما هو نسبه؟ هل هو استئناف عربي معاصر لفن «الهوى» الذي كان أسسه «أوفيد»؟ أم هو دم جار كان وما زال يجري في أصلاب الشعراء قبله من لدن امرئ القيس وابن أبي ربيعة قاطعاً أطوار طوق الحمامة في الأندلس، معرّجاً على ياسمين دمشق وفتاها الجميل، ليصل إلى عروق عبد العزيز المقالح في مكانه السعيد وأناشيده المفاجئة؟ إن خمساً وأربعين قصيدة كانت كافية لتدفعني بعد قراءتها للإصابة بالعدوى، وقلت لنفسي ما لهذا الفتى المخطوف، الشيخ الثمانيني الوقور عبد العزيز المقالح، يقوم بين ليلة وضحاها، على بعد المسافة ما بين صنعاءوبيروت، ويرقص في حضرة الحب كما يفعل صانعو البهجة والدهشة والألفة، ويدعوني للإنغماس معه في أحواله، فأقوم، أنا المقيم في بيروت كالمريد، وأدور معه وأرقص وأردّد أشعاره، ومنها قصيدته الأخيرة: « وأخيراً/ في ظلّ الحب رأيت الله/ وبين يديه نفضت همومي وذنوبي...» . وقلت لعلّه من أجل سلامة القلب البشري ومن أجل سلامة الحياة على الأرض نشر الشاعر كتابه القديم في الحب، بعد تردد دام ردحاً من الزمن. و لعلّ الشاعر اليمني الكبير قد قطع بذلك نصف عمر إلى الوراء ليكشف الستار عن الأسرار الأولى والكنوز المطمورة لحياة في الحب، هي حياة جميلة وحميمة وخاصة، حتى لتبدو كأنها غير قابلة للبوح بها فظن بنشر عباراتها ( على نضج العبارة وتنوع أحوال القصيدة )، لكنه انتهى مغلوباً بالحب، ومغلوباً بالشعر. اللحظة المختلطة كتاب عبد العزيز المقالح ديوان معدٍ، ولكي تكون القصيدة مؤثّرة يلزم أن تكون معدية أي قادرة على أن تخطف القارئ من حاله إلى حالها، فتجعله ينغمس في شروطها وأوقاتها وأماكنها وصورها وحكاياتها ولغتها وأحاسيس شاعرها وهواجسه. وهذا هو الحب بكل حال، مثلما يقول نيرودا «أحبك عن قرب جداً بحيث تصبح يدك التي على صدري يدي/ عن قرب جداً إلى حد أن عينيك تغمضان حين أنام» (القصيدة السابعة عشرة للفؤوس وماتيلدا و القرنفل). إنّ التواصل مع القصيدة مسألة مركبة. صحيح هي لأول وهلة، تكون لحظة متبادلة بين اثنين: الشاعر ممثلاً بقصيدته (النص) والقارئ وما يمثل. لكنها لا تقفل على هذه البساطة. إنّ عشرات الوسائط الضمنية تتدخل في رسم هذه العلاقة، لذلك حين أقول إن قصائد المقالح في «كتاب الحب» أصابتني بالعدوى، فإنني أعني خصوصيتين كثيرتين جداً ذائقتين ومعرفتين على الأقل. فالقراءة هنا قراءة خاصة وشبكية في وقت واحد. فلست معه منتقداً، وإن كنت أعول على النقد باعتباره معرفة شعرية بالنصوص وسبراً عميقاً لها. ولعلي منتدب للدخول معه في شراكة النص وشراكة الحب. فالحب «علّة مشتهاة»، على ما يقول ابن حزم الأندلسي، وله (في رأيه) ثلاثون باباً من مبدئه حتى انتهائه بالموت، وهذا من «طوق الحمامة» لشيخ المذهب الظاهري في الحب... أما ابن عربي فأكثر إحراجاً وحضاً على التفكير، بحيث قال: « الحب موت أصغر» ، أما الموت الأكبر فهو الفناء في معراجه الصوفي. ولا غرابة في كل ذلك حين يتعلق الأمر بأمر هو من أمر الله «لأنّ القلوب بيد الله عز وجل» ( على حد ابن حزم/ في ماهية الحب/ في طوق الحمامة). يكتب عبد العزيز المقالح خمسة وأربعين حالاً من أحوال الحب، وكان ابن قيم الجوزية قبله، في روضة المحبين، أحصى للحب خمسين مفردة تعهدها بالشرح، لعلها خمسون قناعاً مثل العشق والشوق والهوى والصبابة والشغف والوجد والتتيم والغرام... ومع ذلك، يبقى في الحب أمر غائر ومستور أو «سريرة لا تعلم» كما قال المتنبي: «لهوى النفوس سريرة لا تعلم/ عرضاً نظرت وخلت أني أسلم». ويشدّ ابن الفارض هذه السريرة إلى ما قبل هذا العالم: «بيني وبينك في المحبة نسبة/ مطوية من قبل هذا العالم...». أما المقالح فيرى أن الحب «برق صاعق»، «إطراق في مقام الحبيب»، «منحة الصامتين هو الحب» ( ص 43 )... و لكن هذه أعراض الحب، أما هو، فما هو؟ ينتهي الشاعر - رغم تعدد الظواهر والأعراض والحكايات التي يرويها عن الحب في قصائده - إلى ما انتهى إليه اسلافه العظماء، من أنّ أمر الحب هو من أمر القدر والغيب، فيصيح في اللحظة السابقة من قصيدته «لو»: «الحب هو الله» ( ص 151). بساطة وجمالية قصائد عبد العزيز المقالح في «كتاب الحب» هي للوهلة الأولى قصائد بسيطة، والبسيط غالباً ما هو (حين لا يكون سهلاً) ساحر. لذا فإنّه معدٍ، بينما نسبة العدوى في المعقد أقل. صحيح أن قصائده بسيطة، لكننا لا نلبث طويلاً حتى نكتشف خطورة البسيط التي تفوق في غالب الأحيان خطورة المعقد. فالمعقد يدعوك إلى التفكر في فك عقده، وربما أضعت خلال ذلك الدهشة الأولى للشعر، لكنّ البسيط الجميل مسيطر بالبداهة، وغالباً ما لا تسأل لماذا. يقول المقالح: «لا تخف يا حبيبي من الموت جوعاً/ لديك من الكلمات الكثير من الخبز/ لكنها امرأة في الطريق القديم/ ستدخل مثل الرصاصة من ماء عينيك/ تخترق القلب أهدابها النائمات على الخد/ ثم تغادر ضائعة في شرود المكان»... وعلى هذا المنوال الهادئ القريب جداّ كصمت الأمكنة، وبإيقاع يكاد يختفي من شدة هدوء تفاعيله (فاعلن فعولن)، تترجع مقاطع القصيدة السابقة كما يترجع موج البحر على الشاطئ «لا تخف يا حبيبي من الموت جوعاً... لا تخف يا حبيبي من الموت حرقاً... لا تخف يا حبيبي من الموت في جوف طيارة أو على سطح سيارة لا تخف يا حبيبي من الموت يأتي على شكل عاصفة من رصاص... لا تخف يا حبيبي من الموت في ساحة للنزاع على الشعر...». هنا لا يذكرك المقالح إلا بذاته. يرسّخ من ذلك ما يبدأ به كتابه من إشارة تشير إلى قدم قصائد الكتاب، فهي تعود إلى سبعينات القرن العشرين، كان أعدها للنشر للمرة الأولى في العام 1991، لكنه تراجع عن ذلك في آخر لحظة، لترقد مهملة في قاع مكتبته في المنزل بين أكداس من الأوراق المهملة. نصف قرن من الزمان (إلا القليل) تنطوي قبل أن يقرّر الشاعر نشر قصائده القديمة في كتاب. لماذا؟ الشاعر لا يفصح عن السبب. قراءة القصائد وما تكشفه من نضج في العبارة وتأملية هادئة وعميقة في أحوال الحب، وسرد شعري لمجريات لحظاته وحكاياته، تجعلنا نشيح بوجهنا عن افتراض عدم رضا الشاعر (فنياً) عن قصائده المبكرة. إن هذه القصائد تتمتع بالفعل بخصوصية فنية وتعبيرية هي من علامات المقالح دون سواه. فلماذا إذن؟ نرجح أن طبيعة القصائد هي السبب. فهي لحظات شديدة الالتصاق بالذات والخصوصية كالأسرار أو ذكريات عيش خاص وداخلي جداً وتتعلق بقدس الأقداس (الحب)، في تفتحاته الأولية، ما يجعل العبارة بذاتها تجاهه في حرج، فكيف بنشرها؟ هذا ما يقوله الشاعر نفسه في قصيدة أولى سماها «بين يدي الكتاب»: «ليس في مستطاع الكلام/ وإن شفّ في سحره ورهافته/ أن يضيف إليه/ إلى الحب/ فهو الذي علم الكلمات الرحيل إلى حيث ما لا يرى»... فالحب على تعدد أحواله وحكاياته لا يوصف ولا يُقال. إنّ الكلام في حضرة الأمور الجميلة والجليلة متعذر أو ملزم بالاعتذار. هذا هو شأن الحب والشعر والغيب والقدر وكل ما هو جليل و جميل. ومع ذلك لا بدّ من العبارة، ولا بدّ من الكلمات، مع ما يضاف إليها (هنا) وبالضرورة من ظلال (مالارميه) أو من الصمت أو من قيمة الإيحاء. شاعر البدء يبدو عبد العزيز المقالح في قصائد «كتاب الحب» كشاعر بدئي. جاك بريفير بالفرنسية هو هكذا. نزار قباني أيضاً يشترك الثلاثة معاً في تناولهم الماء من أصل النبع والثمرة عن غصن الشجرة، والكلمة من الفم، بلا وسائط تذكر، أو حيل ومواربات للقول. هذه الحيل التي باتت سمة من سمات الحداثة الشعرية وأدت أحياناً إلى استغلاق في المعنى أو غموض في الحال. لكنّ الفرق بين الثلاثة جوهري. أكتفي هنا بقيمة الإيحاء، أي القيمة المضافة على البدئية، وبها يتقرر أو يتميز صوت الشاعر. فالقيمة المضافة على بدئية كلمات المقالح، أكثر بكثير وبفارق يكاد يكون نوعياً، من القيمة المضافة على بدئية كلمات نزار قباني، التي تبقى ألصق بظاهرها من التصاقها بالباطن. إن بدئية كلمات المقالح ذات باطن عميق. لماذا ؟ لأنه تأملي، في حين ان نزار قباني وصفي. مثلاً، يقول المقالح: «للعيون الجميلات/ تلك التي خرجت من سكون الظهيرة/ شاهرة حسنها/ وبدت لي أكثر قربا/ وفي متناول روحي/ لها ان تكون حديث المكان/ وأن تتدلل وهي تحدق في الأفق/ باحثة عن ضحايا/ لها أن تقول لأقرانها إنها لا تراني» (من قصيدة في مديح العيون ). ويتضح ان الشاعر هنا لا يلجأ إلى وصف لونها أو اتساعها أو أهدابها ( وهو مذهب نزار قباني في الجمال الظاهري)، بل إلى ما هو خلف ذلك: خروجها من سكون الظهيرة، قربها (في متناول روحي) التحديق في الأفق (بحثاً عن ضحايا) ثم الادعاء بأنها لا تراني. الفارق إذن هو فارق في الإيحاء، وهو فارق جوهري رغم المقلع البدئي الواحد للكلمات عند الشاعرين. بريفير وقباني من مقلع واحد تقريباً. يترك كل منهما الكلمات لذاتها ترسم دوائرها مع أقل ما يمكن من التدخل. المقالح، على العكس، شديد التدخل وتأملي وموحٍ. يقول: «من وردة الوجد/ ومن ندى أوراقه/ يخرج ماء الضوء و الهواء/ ماء النهر/ تأخذ الجبال شكلها/ والبحر سمته/ وتبدأ الأرض إذاً تواجد العشاق/ دورة الحياة « ( من قصيدة صوفية). وإنّ إضافة الوجد للوردة وخروج الماء من الضوء والهواء وخروج الجبال بشكلها والبحر بسمته إلى الوجود... كل هذه الحركة الكونية للعناصر والأرض وما حولها، كلها هي في خدمة وجد العشاق. التفاصيل والحكايا السمة الأخيرة التي أرغب في الكلام عنها في قصائد «كتاب الحب» هي السرد الشعري والتفاصيل والحكايا، إذ تظهر القصائد وكأنها لحظات مقطوفة من عقد حقيقي متعدد الحبات، موصول بخيط واحد، ومحسوس ومؤرخ، تلعب فيه التفاصيل والأماكن دورها، ومن نساء يكاد ينطق الشاعر بأسمائهن، وحوادث يحكيها بسرد روائي، غالباً ما هو متقطع كتجميع لقصص حب صغيرة ومتنوعة. فمن ناحية التفاصيل، يرقم الشاعر مثلاً في إحدى قصائده الحب بأرقام: الحب الأول والحب الثاني والحب الثالث، ذلك في اتجاه ما يسميه الحب الخالص، ويعدد النساء ويرقمهن أيضاً. ففي قصيدة «نساء» هنّ سبعة: «الأولى كانت لا تقرأ « والثانية «كانت أكبر مني» والثالثة قالت «علّمني الشعر» والرابعة «تجلس في الصف الثاني لم تترك لي وقتاً لاقول لها إني أحببتك» والخامسة «في باريس بلون اللبن الصافي حيث الحب فضاء مفتوح» والسادسة «سمراء بشروخ غائرة في الخدين»، أما السابعة فالطيبة التي اختارتها له أمه. إنها حكاية رحلة في الحب المتعدد، مروية ومعززة بمحطاتها. فهي إذن وصف لأنواع من الحب وانغماس بها في وقت واحد. ومن أطرف الاستعارات القريبة التي يستعملها الشاعر قوله في قصيدة اشتياق «الغرفة أنت»، ولا يخفى ما للبيان القرآني وسحر المثنى في العربية، من أثر في قصيدة «عينان»، وما لفن الهوى وقربه من أن يعاش ويمارس على شاطئ اسكندرية حيث للبحر توسطه بين الفتى العاشق والسيدة الغامضة وحيث البحر والحب والقصيدة كل واحد في الإيقاع، وحيث على الرصيف الموصل للبحر بائعة ورد: «كيف يبيع الورد الورد» .... كل هذا وسواه، وليست المعاني والتفاصيل والمواقف هي وحدها الأساس في الصنيع الشعري لعبد العزيز المقالح في «كتاب الحب»، بل الإيقاع الهادئ والطقس الجواني للكلمات الذي يرن كما يرن جرس في كنيسة، والتأمل العميق الذي تظهر معه الكلمات مشحونة بأكثر مما نعرفه من طاقة، وأنّ تركيبها بين يديه يمنحها وجوداً جديداً فهو في قصيدة بعد الحب يقول : «ذات هنا ... وذات هناك». وما أجمل أن تجمع الكلمات في مثل هذه الصيغة المبتكرة للوقت والمكان. وهو قادر أن يكتب بصيغة حديثة معاني أزلية وأن يكون ذاته مثلما كان الآخرون ذواتهم. أما المقالح فيقول لاعباً على وتر الحب والعمر المحدود والموت وهو عين ما لعب عليه المتنبي في لاميته الشهيرة: «تعالي لنشرب قهوتنا/ ونداعب أحلامنا/ مثل كل الشباب/ فإن الزمان يمرّ بنا مسرعاً/ والليالي تشد الرحال/ إلى حيث لا يدرك السائرون».