سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الشاعر السعودي واثق من أن الثقافة ستهزم الواقع مثلما هزم الاقتصاد السياسة . معتبراً أن المرأة بوابة القصيدة والشعر حقيقة العالم لأنّه تعبير عن الجوهر هاشم الجحدلي : رأيت كيف تستحيل اللغة وطناً والكلمات منافي
حاول أن يرى كل الكون في "المرأة المستحيلة"، فإذا به يجد نفسه متورّطاً في الصمت، مستنكفاً الابداع... هذا هو هاشم الجحدلي، الذي نشأ في زمن كل شيء فيه يهجس بالشعر، والذي ما زال يعتقد أن المرأة بوابة القصيدة، لكنّه صار "أكثر وعياً بآليات تلك العلاقة، وكيفية استثمارها". وها هو الشاعر السعودي الشاب يعلن عودته الوشيكة إلى الكتابة، لامحاً في البعيد "ضوءاً ساطعاً"، و"فجراً مبللاً بالقصائد، وامرأة مغمورة بالشعر". ولا غرابة في هذه العلاقة الصداميّة بين الجحدلي ومادة وحيه وابداعه، ما دام يعتبر أن "الشعر لعبة خطرة، وقوف دائم على حد السكين، وسباق نادر على سرقة النار المقدّسة". لذلك ربّما هو "وحيد في الشعر"... و"شاهد اللحظة أوّلاً"، ولنسمعه يقول: "لنترك المغامرات وقضية البحث عن رؤى أخرى وأشكال جديدة، إن الهاجس الذي هو الذي يجعل شاعراً ما في الجزيرة أو في الخليج أو في الوطن العربي الكبير يبحث عن نفسه في المنافي البعيدة". وفي هذا الحوار يحاكم الجحدلي النقد الذي "بقي متورطاً في اسئلته القديمة، فأضاع ملامحه وفاعليّته"، كما يؤكّد أن "القصيدة العربية الحديثة بعد خمسين عاماً على ولادتها، وصلت إلى طريق مسدود، وتاهت في نفق التشابه. والتشابه نقيض الإبداع! وعندما يصل الشعر إلى هذا الحد... يفقد روحه وتضيع خصوصيّته". الشاعر السعودي هاشم الجحدلي أحد أبرز رموز الجيل الجديد في قصيدة التفعيلة في السعودية، وواحد من أولئك الشعراء الشباب الذين راهنوا على خصوصية التجربة الشعرية في المملكة والخليج. قصيدته الأولى عن بيروت كانت طريقه إلى الشعر، وهو اليوم متفائل بالغد على رغم الأزمات التي تحاصر الثقافة العربيّة. وها هو في حديثه إلى "الوسط" يحاكم حركة النقد في العالم العربي: "صرت تقرأ اسم جاك دريدا وجوليا كريستيفا ورولان بارت... في كلّ مقالة أو كتاب نقدي، من دون أن تشعر أن صاحب هذه المقالة أو ذاك الكتاب استوعب نظريّاتهم وهضمها وتمثّلها. إن النقد العربي هو الذي يواجه المأزق الأكثر خطورة. أما الشعر، فما زال نابضاً، على الرغم من كل شيء. وها هي الرواية تتوهج، والقصة تستعيد بعض مجدها القديم. لكن النقد بقي متورطاً في اسئلته القديمة، وأضاع ملامحه وفاعليّته بين الادعاء الاكاديمي والفخّ الانطباعي، بين الثقافي والأدبي، بين النظرية والتطبيق". كيف تحدثنا عن الصياغة الأولى لثقافتك منذ البداية، وقبل أن تنهل من معين الشعر وتكتب القصيدة الأولى... أي التجربة الحقيقية في كتابة الشعر ؟ - ربما أكون محظوظاً أكثر من غيري ممن أتوا بعدي ولو بسنوات. نشأت في زمن كان الشعر هو كل شيء، كانت كل المنابر تهجس بالشعر، وكل الأمسيات تدور حوله، ولم يكن إلا الشعر... ولكنني أبن بيئة ساحلية تحاصرها همومها وثقافاتها: ثقافة البحارة، وأبي كان أمياً ولكنه لم يكن جاهلاً لحسن الحظّ، فأراد أنْ يعوض عدم إلمامه بالقراءة من خلالي، فدفعني إلى أن أكون قارئاً من الدرجة الأولى. وخلال رحلته الوحيدة إلى خارج المملكة، وكنت طالباً في الصف الرابع الإبتدائي أتاني بمجموعة كبيرة من الروايات والدواوين الشعرية. فقرأت "الفرافير" ليوسف إدريس، ودواوين أمل دنقل، ولما أزل في العاشرة. وبالتالي فلعنة القراءة كانت طريقي إلى الشعر. لذلك أرى أن المثقف أو الأديب أبن بيئتين : البيئة التي عاش فيها، ومكتبته. حياتنا ليست غنية وليست فقيرة ثقافياً، ولكننا ربما نتأثر بالكتب التي نقرأ، فمن يقرأ زوربا لكازنتزاكيس، ودواوين بدر شاكر السياب، لا بد أن يحلم... أو أن يصبح لديه مس من الجنون. رحلة شاقة وعصية والشرارة الشعريّة الأولى... - خواطري ومحاولاتي الأولى ربما كانت باهتة، لكنني كنت جريئاً وواصلت المغامرة والقراءة، حتى جاءت قصيدتي الأولى عن بيروت وأنا في المراحلة الإعدادية. كانت الحفاوة التي قوبلت بها من "عكاظ"، ومن "أصداء الكلمة"، ومن سعيد السريحي، حافزاً كبيراًً لي كي أستمر، وإذا بالشعر يكون خياري الوحيد. ربما الآن لم يعد وحيداً، ولكنه يوماً ما سيعود كذلك. وقصيدة بيروت التي ربما تكون بمقاييسي الراهنة بسيطة وهادئة، حتّى أنني ربما لم أعد أتذكرها، كانت في يوم من الأيّام الشرارة الأولى التي اشعلت حرائق الكتابة في داخلي. كنت مهموماً بالقراءة، أكثر مما أنا مهموم بالحياة. ستظنّ أنني أبالغ قليلاً، لكن الكتاب أثمن ما يمكن أن أملك وأرقى غنيمة في زمن الانهيارات. هكذا استغرقت في القراءة حتّى ألهتني عن الابداع. ثم مرّت السنوات، واكتشفت أنني وحيد في الشعر، وله، ومعه. وبدأت تنحصر الأشياء، وبدأت عوالم تغزو عوالم أخرى. اختلفت قناعاتي ولم تختلف رؤيتي للشعر. كنت أحاول أن أواكب ما ينتج، وأتواصل مع التجارب العربيّة والعالميّة. وكان عدم امتلاكي للغة أخرى حاجزاً، لكنني رحت أنكب على الكتب المترجمة، وأحاول أن أعرف ما يتميز به الآخرون عنا، وما الذي يميزنا عنهم. هي رحلة شاقة وطويلة وعصية لم تثمر إلا القصائد، ولكنها خلقت في داخلي إنساناً يطمح لاقتناص كل جميل في هذه الدنيا. واعتقد أن القصيدة هي أقتناص الجمال. يبدو الشعر، بالنسبة إليك، فلسفة وجود... - الشعر ضمير العالم. هناك من يعتبر أن الرواية هي الذاكرة التي تسجّل لحظات الوجود وحرائقه وتحولاته. أما الشاعر فهو سيد المكان وسيد اللحظة، عند المفترقات الحاسمة قصائده هي الحكمة، وفي المأساة قصائده هي الشواهد، تلتقط روح الماضي وتستشرف ما سيأتي. الشاعر كان العرّاف أيّام الاغريق، وصار المستشرف الكاشف مع رامبو، لكنّه الشاهد في كلّ الأحوال : شاهد اللحظة أوّلاً. الشعر يريك الأشياء، بحلّة مختلفة، إنّه حقيقة العالم لأنّه تعبير عن الجوهر. ضمّنت "دم البينات" و"في العزلة"، نصوصاً تنطوي على شيء من السيرة الذاتيّة. ماذا تعني لك تلك القصائد؟ هل هي جزء من عصارة قلبك أم هي أقتناصات عابرة ؟ - في "دم البينات" سترى دمي مسفوحاً على الورق، وتراني شاهداً وشهيداً، واحداً ووحيداً... ستراني كما أريد أن أكون وكما اريد أنْ احقق لذاتي. في هذا الديوان وقفت على العتبات الأولى للروح، وهي تشهق عالياً وقلت: "بيد مرة، جئتهم مرة". وقلت: "ها أنا جئتكم من أقاصي الأقاصي،/ غارقاً في المعاصي،/ حاملاً عبء أغنيتي وبلاء احتراقي،/ وابحث في صدر امرأة عن ملاذ،/ وابحث في أسرها عن خلاصي". باختصار هذا الديوان هو أنا. أما نصوص "في العزلة"، فتعكس غواية ما قرأت. كنت أخاف أن أضيع طفولتي، أن تشرد ملامحها من الذاكرة. اعتقد أنني عشت طفولة صاخبة ولاهية ومدمرة، واكتشفت أنني عاشرت أناساً اشراراً وخيرين، ومررت بأماكن مذهلة وأخرى قاتلة، وعرفت لحظات بهيجة وأخرى قاتمة... وخفت أن افقد في رحلة الحياة هذه المشاهد، وأن تضيع من الذاكرة. كنت أحاول أن اسجل بعض ما مضى. الآن لم أعد امتلك الجراة على كتابة سيرتي مرة اخرى. ولم أعد أمتلك الجرأة على فضح العالم! لكنني أثناء وضع نصوص "في العزلة" كتبت كل شيء... كنت أخضع لسطوة الفضح والكشف والانبهار بالعالم. جرح ما يجب أن يندمل. وأغراني قاسم حداد بنشر الجزء الأول في "كلمات"، كما شجّعني حسن السبع والزملاء في جريدة "اليوم" على نشر الجزء الثاني والثالث. واستحوذت عليّ تجربتي فأجبرتني أن أستمرّ في كتابتها... لكنّني لم أمتلك حتّى الآن ما يكفي من الجرأة كي أقدم على نشرها... ما زال شعراء الجيل الذي تنتمي إليه يدورون في الحلقة المفرغة، ويكتبون قصائد متشابهة على الرغم من تعدد التجارب. ولا يزال هذا الجيل يمزج الصوفية بالاتجاهات الأدبية الحديثة... لماذا هذا التشابه، وتلك المراوحة في المكان نفسه؟ وما الذي تتميز به تجربةهاشم الجحدلي برأيك؟ - علاقتي بالصوفية ليست علاقة تجربة بل علاقة نص. ربما يكون النص النثري الصوفي أكثر قرباً مني، لأني رأيت كيف تستحيل اللغة وطناً ، وكيف تصبح الكلمات منافي... رأيت الدم مسفوحاً عند النفري والعطار وابن عربي... هولاء عندما قرأتهم وسواهم، فهمت كم أن اللغة عظيمة وشاهقة. والحقيقة أني لست قريباً من الشعر الصوفي، بل انني أكثر تماساً مع التجربة الصوفية نثرياً. الصعاليك لهم اشراقاتهم الشعرية المذهلة، وتذهلني تجربتهم في الخروج على النمط السائد... لذلك كتبت للمرة الأولى تداخلات، وكانت لامية العرب أمامي، ثم كتبت عن عروة بن الورد، وكانت نصوصه ترنو إليّ... وأنا، كالآخرين، أستفيد من هؤلاء الشعراء اقنعة أو رموزاً، أو اختصاراً، أو تمثلاً لعالم جميل نحلم به ويحلم به كل إنسان على هذه البسيطة. وظفت في نصوصك العديد من الرموز التراثية والتاريخية، كما تشير. كيف عدت فخرجت من تلك التجربة؟ وهل تعتبرها تجربة ناجحة ؟ - عندما استلهمت هذه الرموز وتلك النصوص، لم يكن يحرّكني دافع النجاح. كان هاجسي رصد المسافة بين القصيدة ومحيطها، كنت اريد أنْ أوثق علاقتها بجذورها. فأنا، شئتُ أم أبيت، من سلالة هولاء الناس حولي، وأنا أؤمن أن العالم هو قصيدة واحدة يكتبها كل شاعر بقدرته : هناك شعراء كثر وقصيدة واحدة! وفي شعرنا العربي تتضح هذه الصورة بشكل جميل. عندما قرأنا "داغستان بلدي" لرسول حمزاتوف، اكتشفنا كم أن عالمه قريب منا... والاحساس نفسه راودنا ونحن نقرأ ترجمات لقصائد لوركا ونيرودا وماياكوفسكي... هناك هم واحد يتلبس الشعراء، فلنترك المغامرات وقضية البحث عن رؤى أخرى وأشكال جديدة، إن الهاجس هو الذي يجعل شاعراً ما في الجزيرة أو في الخليج أو في الوطن العربي الكبير يبحث عن نفسه في المنافي البعيدة. إخترعت قيود قصيدتي تهجس بالشعر دائماً، ومنذ زمن لم نقرأ لك جديداً. - الشعر هو خياري الوحيد، الوسيلة الوحيدة كي أثبت أنني موجود. من دون الشعر، الدنيا كلها تغدو خواءً. فعلى الرغم من كل الدعاوى التي نقرأها هنا وهناك ونسمعها شرقاً وغرباً عن انحدار الشعر وصعود الروايةيبقى الشعر مبرّر الوجود. تخيل يا صديقي عالماً بلا قصيدة، وحياة بلا امرأة. أما بالنسبة إلي فقد تورطت في مأزق المرأة، والبحث عن ملاذ... فأسرت قصيدتي بقيود أنا من اخترعها. وكانت النتيجة ما ترى. ولكنني ما زلت أرقب من بعيد ضوءاً ساطعاً، وانتظر فجراً مبللاً بالقصائد، وامرأة مغمورة بالشعر. واعتقد أن زمن الصمت الذي عشته أشرف على النهاية. هناك أرض خصبة تنتظرني، وجواهر كثيرة منثورة في الطريق. ثنائية الشعر والمرأة التي حاصرتك في "تهافت النهار"، و"معلقة المرأة"، و"مديح النساء"... هل كانت بداية الأسر ؟ - بل قل هي لحظة اكتماله. في هذه القصائد، وصلت علاقتي بالمرأة شعرياً إلى منتهاها، وصار عليّ البحث عن معادل آخر للوجود. ولكنني تورطت أكثر، وحاولت أن أرى كل الكون في هذه المرأة المستحيلة. ما زلت أعتقد بأن المرأة بوابة القصيدة، ولكنني صرت أكثر وعياً بآليات تلك العلاقة، وكيفية استثمارها. وهل مأزقك هو مأزق القصيدة العربية؟ - الشعر غير أشكال الإبداع الأخرى، إنّه لعبة خطرة، وقوف دائم على حد السكين، وسباق نادر على سرقة النار المقدّسة. والقصيدة العربية الحديثة بعد خمسين عاماً على ولادتها، وصلت إلى طريق مسدود، وتاهت في نفق التشابه. والتشابه نقيض الإبداع! وعندما يصل الشعر إلى هذا الحد... يفقد روحه وتضيع خصوصيّته. وهذا ما انتبهت إليه الرواية، ففتحت آفاقها على كل التجارب، واستفادت من كل أشكال السرد... وحفرت عميقاً في ذاكرة العالم، وذاكرة الطفولة... وكانت النتيجة أن الشعراء أنفسهم وجدوا ملاذهم في الرواية. مأزق النقد العربي وهل الشاعر مؤهل لكتابة الرواية ؟ - ليس هناك من هو مؤهل لكتابة رواية عظيمة وحارقه ووحيدة مثل الشاعر! الشاعر المبدع عندما يكتب نثراً، يكسب المفردات وعياً جديداً، وينفح في اللغة ثقافة أخرى، ويقيم بين مستويات السرد علاقات أكثر تشابكاً. لغة الشاعر هي الأكثر توهّجاً. والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن حذار من التورط في كتابة الرواية، والتوهم بأن كل رواية هي فتح جديد، فالشاعر يكتب غالباً رواية واحدة ووحيدة وما بعدها يكون تكراراً وتقليداً وهدراً. وهل تعتبر أن النقد العربي واكب الظواهر الكتابية المختلفة ونجح في قراءتها؟ - أي نقد هذا الذي تتحدث عنه؟ أن نقدنا العربي، إلا في ما ندر، غرق منذ أواخر الثمانينات في مأزق البحث عن هوية شكل، وهوية اتجاه، وهوية أدوات. أجل إن نقدنا وقع في مستنقع موحل جداً، ولا تغرّنك كل هذا الدوريات والندوات والإصدرات والأسماء الضخمة. والناقد تجده هنا مبدعاً، وهناك مفكراً، وهو في النهاية لا مبدع ولا مفكر! إن النقد العربي هو الذي يواجه المأزق الأكثر خطورة. أما الشعر، فما زال نابضاً، على الرغم من كل شيء. وها هي الرواية تتوهج، والقصة تستعيد بعض مجدها القديم. لكن النقد بقي متورطاً في اسئلته القديمة، وأضاع ملامحه وفاعليّته بين الادعاء الاكاديمي والفخّ الانطباعي، بين الثقافي والأدبي، بين النظرية والتطبيق... وصرت تقرأ اسم جاك دريدا وجوليا كريستيفا ورولان بارت... في كلّ مقالة أو كتاب نقدي، من دون أن تشعر أن صاحب هذه المقالة أو ذاك الكتاب استوعب نظريّاتهم وهضمها وتمثّلها. وكيف تنظر إلى الراهن الثقافي في السعودية ؟ - لسنا احسن حالاً من غيرنا. بل أن هناك مراكز في الوطن العربي ما زالت تقدم للثقافة أكثر منا بكثير. فما يطبع في بلد صغير كتونس مثلاً، يفوق بدرجات ما تنتجه المطابع الخليجية كلها... وما يتمتّع به المثقف من دعم وتشجيع في بلدان اخرى كمصر منح التفرغ مثلاً، والنشر...، يدفعنا إلى المطالبة بمزيد من النشاط والحيويّة : لا بدّ لنا من مزيد من الأندية والجمعيّات والاصدارات الرصينة، ولا بدّ من تجديد المؤسسات التي تعيش خارج عصرها... وأنا متفائل بالغد الأفضل، واثق من أن الثقافة ستهزم الواقع مثلما هزم الاقتصاد السياسة