يعتبر الشاعر المنصف الوهايبي أحد أبرز الشعراء التونسيين اليوم، بسماته الشعرية الخاصة، فقصائده محملة بالأسئلة والمواجهة مع النفس، وكل من يقترب من كتاباته لن يخطئ الجانب الفكري في تكوينه بصفته أكاديميًا مرموقًا، وباحثًا في حقل النقد والبحث في الشعر والثقافة الشعرية عند العرب قديمًا، وقد ترجمت نصوصه إلى العديد من اللغات.. كما كتبت حول تجربته الشعرية عشرات الدراسات والبحوث الجامعية، له أكثر من ست مجموعات شعرية منها: «من البحر تأتي الجبال»، و«مخطوطة تمبكتو»، و«ميتافيزيقا وردة الرمل»، و«كتاب العصا».. كل هذه المجموعات جعلته ظاهرة شعرية تعكس أبعاد ما نراه شعرًا حقيقيًا يتجاوز في قراءته وتأويله الكثير من السائد اللاشعري.. في حضرة القيروان «الأربعاء» التقى الوهايبي وهو يشارك في فعاليات الدورة 31 لمهرجان الشعر العربي بمدينة توزر، حيث تحدث عن تجربته الشعرية، وقراءته للمشهد الثقافي، حيث استهل حديثه عن مدينته القيروان كاشفًا عن سر إنجاب هذه المدينة للشعراء قائلًا: كثيرًا ما يواجه شعراء القيروان بسؤال يربط بين الشعر وهذه المدينة، ولكن هذا الأمر لا يتعلق بالقيروان فقط وإنما بكثير من المدن العريقة والقديمة، مثلا نجد شعراء كبار تعود أصولهم إلى البصرة أو بغداد أو دمشق أو فاس، لكن ربما الآن هناك ما يشبه التقاليد التي يتعهدها الشعراء جيلا بعد جيل فإذا عدنا إلى القيروان مثلا، سنجد أنها مدينة ابن رشيق والحصري القيرواني وابن شرف وكل هذه الكوكبة من النقاد ومن الشعراء الذين أنجبتهم القيروان في غابر تاريخها، وإذا عدنا إلى العصر الحديث نجد أن القيروان عرفت محمد الحليوي الذي كان صديقًا كبيرًا لأبي القاسم الشابي بل كان يترجم له أحيانًا، ومن حسن حظي كان الحليوي أستاذي في الثانوي كان يجمع بين اللغتين العربية والفرنسية، ثم كان هناك محمد المزهود، والشادلي عطاء الله، وجعفر ماجد وغيرهم.. جمع بين فنين ويتابع المنصف حديثه مقتربًا من تجربته الشعرية بقوله: الشعر الذي أكتبه فيه جانب سردي لا يخفى؛ يعرفه كل من يقرأ هذه القصائد، ولكن حاولت في السنوات الأخيرة أن أنصرف إلى النثر والى السرد والى العالم القصصي وسيصدر لي قريبا كتابان احدهما بعنوان (عاشقة آدم) وهو رواية بشكل جديد في عالم الكتابة القصصية، والثاني هو من المتخيل الذاتي وقد حاولت فيه استحضار صورة بورقيبة في المخيل الشعبي من خلال حكايات لي وحكايات تخص والدي رحمه الله، وهذا الكتاب بعنوان (هل كان بورقيبة يخشى حقا معيوفة بنت الضاوي) وسيصدر قريبا، فأنا أحاول أن أجمع بين فنين ولكن دائما الشعر هو شغلي الشاغل طبعا بصرف النظر عن الجانب الأكاديمي العلمي. قناع تمبكتو وعن أقرب دواوينه الشعرية الستة إليه يقول الوهايبي: ربما ديواني الثالث (تمبكتو) شد الكثيرين، سعد يوسف قال إنه نقل المشهد الشعر التونسي 30 سنة، محمود درويش أيضًا في الكرمل نشر لي منه مرتين حوالي 30 صفحة، ففي كتاب تمبكتو استلهام للبيئة الإفريقية التونسية بشتى مكوناتها التاريخية الأسطورية، الشعبية، الامازيغية، الفينيقية، العربية، ولكن تمبكتو هي دائمًا قناع أو رمز لمدينة القيروان.. نص مفتوح ويمضي المنصف في حديثه مستجليًا رؤيته حول الوعي الذي يقوده إلى القصيدة، وموقفه من مقولة «القصيدة سلاح»، حيث يقول: لست مع هذه المقولة؛ فالشعر أتعامل معه على أنه فعل إدراك، رؤية من رؤى العالم، وأتعامل مع الشعر من حيث هو وفي صلة مع الحياة وبالعالم المعيش اليومي، حتى عندما أكتب عن مدينة أو عن قضية ما أو عن مسألة ما أتعامل معها بطريقة الباحث الذي يلتقط التفاصيل، أسجلها، أثبتها وأشتغل على النص، أتعهد أحذف، إلى أن يستوي النص على الهيئة التي ارتاح إليها. فنصي مفتوح، وكل قصيدة تهيئ لقصيدة أخرى، وهكذا إلى أن وصلت إلى كتابة ديواني الثامن الذي سينشر قريبا. هذا الديوان اخترت له عنوان «تمرين على الكتابة يوم الجمعة 14 يناير»، وهو عنوان القصيدة التي أثارت ضجة منذ أشهر قليلة عندما ألقيتها في ملتقى سياسي بمدينة صفاقس، والبعض تصور أنها استفزاز للمشاعر الدينية بينما الأمر لا علاقة له بذلك البتة، على كلٍّ هذه القصيدة رأى الناشر أن تكون عنوانًا لمجموعتي الثامنة التي ضممت إليها قصائد أخرى جديدة، وهو ديوان كبير الحجم يصل إلى 150 صفحة فيه شغف الكتابة التي أجد رغبة كبيرة فيها. دور الكلمة وحول دور الكلمة يقول المنصف: يمكن للكلمة أن تفلح في إصلاح أحوالنا، لأننا نحن كائنات لغوية بالأساس ولا يزال للكلمة تأثير، لكن البعض يقول إن الشعر لم يعد له تأثير، هذا لأننا لا نتفطن إلى أن الفن عامة يؤثر في الناس ببطء شديد، إذ لابد من عملية تراكم، يؤثر لا شك في ذلك ولكن كيف يؤثر، هذا يجب أن نعود لا إلى قراءة الشعر فقط وإنما قراءة حتى الكتابات الأخرى التي أثر فيها الشعر بطريقة أو بأخرى، مثلا أنا عندما أقرأ الصحافة العربية ألاحظ كيف أن لغة الشعر الحديث أثرت في الصحفيين وفي كتابة الرواية، وأثرت في الرسامين، وحتى في الذين يكتبون المقالة تجدهم يكتبون بلغة هي أقرب إلى لغة الشعر الحديث. صراع شعري قراءة الوهايبي لانحصار القصيدة التفعيلة وتنامي مد قصيدة النثر يبرز في سياق قوله: يشهد العالم العربي اليوم منذ الثلث الأول من القرن الماضي بارح مداراته المألوفة، وبالتالي أصبحت القصيدة تتسع لشتى الأشكال سواء الأشكال المستحدثة أو الأشكال الوافدة لكن يمكن أن تجد في هذا النمط من القصائد ما يشد الانتباه حقًّا، هذا عند الشعراء المتمكنين، بقي انحصار القصيدة التفعيلة ربما القصيدة العمودية، ولكن إلى الآن أنا أتصور أن شعر محمود درويش هو شعر تفعيلة بالأساس، أنا أيضًا شعري شعر تفعيلة، فأنا لا أكتب النثر إلا قليلا، سعد يوسف وكثير من أصدقائي، المشكلة هي في تركيبة الجملة، هي ليست قضية تفعيلة، لأنك يمكن أن تكون شاعر تفعيلة وتكتب قصيدة نثر داخل التفعيلة وهذا ما تنبه إليه البعض من النقاد في المغرب وأنا أيضا أشرت إليه في مقال لي عن محمود درويش وتحدثت معه في الموضوع، لأنك يمكن أن تكتب داخل الوزن قصيدة نثرية، ما معنى نثرية؟ أن تكون قصيدة المعيش اليومي، قصيدة التفاصيل، القصيدة التي لا تطوح بعيدًا في الاستعارات أو ما أسميه التهويمات الاستعارية التي لا سند لها لا من النص ولا من الواقع المعيش فالقضية معقدة، وليست كما يتصوره البعض، أي أن هناك شكلا يحل محل شكل، أنا مثلا لم أعد مع القصيدة العمودية، أتصور أن القصيدة العمودية التقليدية استنفذت لا يمكن أن تضيف إليها شيئا مهما فعلت، لأن الإيقاع القديم مازال يشد الناس إليه بحكم أن العربي عامة لا يزال يتعامل مع الشعر بذاكرة موشومة بالماضي، بالتراث، لأسباب تتعلق بالتعليم لأن هذا الشعر يدرس في الابتدائي والثانوي، فالذاكرة يمكن أن تلتقط والمستمع ينشّد إلى هذا الشعر، لكن أتصور انه لا يضيف كثيرًا إلى اللغة العربية لأن ما يقدمه الشعر هو إضافته إلى اللغة، الناس يخطئون عندما يقولون أنهم يحتاجون إلى الشعر، في تقديري اللغة تحتاج إلى الشعر لأنه أم اللغة، وأم لغات البشرية كلها. ويتابع المنصف حديثه متناولًا واقع الشعر اليوم في ظل طغيان النص بقوله: كنت في فرنسا منذ شهرين وكان هناك ملتقى حضره حوالي 120 شاعرًا من مختلف جنسيات العالم، وكان هناك جمهور للشعر، مثلا اختتمت الجلسة الختامية بتكريم للثورة التونسية بإلقاء قصيدتي التي أشرت إليها وكان عدد الحضور يفوق الألف، في حديقة كبيرة جدا بمدينة سارت، فهناك عودة إلى الشعر، هناك عودة للفن، أنا أتلمسها في أوروبا عند الأسبان والبرتغاليين وربما في أمريكا اللاتينية، فالشعر دائما حاضر سواء في الأغنية وفي المسرحية، وحاضر في الفيلم السينمائي، إلى غير ذلك. انفلات وتشفي ويختم الوهايبي حديثه باحثًا في ظاهرة تراجع دور المثقف العربي اليوم ودخوله في حالة سبات وشبه استقالة من مناصرة قضايا الأمة، حيث يقول: هناك نوع من الانسحاب نتيجة اليأس والإحباط في هذه الفترة من تاريخنا، ولكن ليس كل المثقفين، وعلى كل هناك عودة بنسبة أو بأخرى، ثم لا ينبغي أن نغفل عن حقيقة وهي أننا لا نملك مؤسسات كما هو الشأن في أوروبا، المثقف في أوروبا مؤسسة، سلطة بحد ذاتها، وهذا نفقده في العالم العربي كليا، ربما في فترة من الفترات عرف العرب سلطة ثقافية وعلمية مثل طه حسين، العقاد، مثل أدونيس ومحمود درويش وما إلى ذلك، لكن هؤلاء يحسبون على المبدعين أكثر مما يحسبون على المثقفين بالمعنى الواسع للكلمة، فالقضية تحتاج إلى إعادة نظر من زوايا ربما سياسية، اجتماعية، اقتصادية وحتى ذاتية أحيانًا، هناك نوع من اليأس ولكن لا أدري بعد ما حدث في تونس ومصر وليبيا ربما بدأنا نتخلص من هذه الحالة بنوع من التفاؤل وإن كان التفاؤل الحذر لأنه لا ينبغي أن نطمح كثيرًا، يجب دائمًا أن نرى أننا شعوب لم تتعود على الديمقراطية ولم تتعود على حرية التعبير ولهذا ترى هذا النوع من الانفلات أحيانًا وهذا النوع من التشفي في الآخرين لا تجد عقلية التسامح عند الناس، ربما نحن في مراحل انتقالية ويجب أن نجتازها بأكثر ما يمكن من السرعة لأن بناء دولة جديدة هو ليس أمر بالسهولة التي قد يتصورها البعض.